إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين



    «جلجامش».. قراءة جديدة للملحمة السومرية

    تعتبر ملحمة «جلجامش» السومرية الأكدية، كما هي في الواقع، وكما يقول المؤلف د.حسين علوان حسين «أقدم كنز من كنوز الأدب الملحمي في تاريخ البشرية. فهي أقدم من (الإلياذة) بما ينيف على ألف وخمسمائة عام، كما تؤكد عالمة الآثار البريطانية (نانسي ساندرز) وعالم السومريات الأميركي (صموئيل نوح كريمر)».

    وقد شغلت، منذ اكتشافها وترجمتها إلى اللغات الحية، الباحثين في الأدب العالمي وكبار الأثريين والمعنيين بالبحث عن سعي الإنسان نحو الخلود. وكانت ولا تزال مادة للدراسات الأدبية واللغوية والتاريخية والأنثروبولوجية.

    وقد تصدى المؤلف الدكتور حسين علوان حسين في دراسته عنها للبحث عن تعدد وتداخل أنواع الصراع التي تعرضت لها الملحمة، من وجهة نظر مادية تاريخية، وربطها بتعدد وتداخل التشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية في العراق القديم وبالفكر السياسي - الديني - الاجتماعي للعراق القديم، وتجليات هذا الفكر التطبيقية. وحاول تحليل شخصيات أبطاله، معتمدا على الترجمة الإنجليزية للملحمة التي نشرها عالم الآشوريات البريطاني أندرو جورج في عام 1999، مكملا إياها في بعض المواضع بترجمة العلامة طه باقر العربية للملحمة، وكذلك ترجمة ساندرز لها المنشورة في عام 1970.

    وكانت الفرضية الأساسية التي انطلق منها المؤلف في دراسته هي أن «أوجه الصراع في الملحمة هي انعكاس للوعي الجمعي لتداخل وتعدد أنماط التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على أرض العراق القديم» الذي يحدده بالبلد «المحصور بين أحواض نهري دجلة والفرات وروافدهما من جبال زاغروس وطوروس إلى سواحل الخليج العربي. هذا العراق الذي كان مسرحا رياديا لأول انتقال للإنسان على وجه الأرض من مرحلة جمع القوت إلى مرحلة إنتاج القوت، ومن سكن الكهوف إلى بناء أولى المستوطنات الزراعية في تاريخ البشرية، إلى نشوء أولى القرى والأسواق الحرفية والتجارية في العالم القديم، التي تطورت لتكوّن أولى المدن ودويلاتها والدولة الموحدة».

    ومن طريف ما يذكره المؤلف أن أول أداة إنتاج عرفها التاريخ، التي مكنت الإنسان الأول من إنتاج القوت الذي يزيد على حاجة عائلته، هي المسحاة، التي اخترعها إنسان العراق القديم.. تلك الأداة، التي يسميها المؤلف «ذكورية»، والتي أسبغ عليها إنسان العراق القديم صفة القداسة بجعلها رمزا لرئيس مجمع الآلهة البابلي، الإله الذكر مردوخ.

    وانطلق المؤلف في دراسته من افتراضات ثلاثة هي أن «للملحمة انعكاساتها القابلة للتشخيص للذاكرة الشعبية والوعي الجمعي العراقي القديم.. وأن شخصيات الملحمة هي أيضا تبلورات مركزة لجماعات اقتصادية اجتماعية عميقة الجذور.. وأن المعاني والإشارات إلى تطور صراع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السياسية كثيرا ما يعبر عنها في الملحمة باعتبارها مظهرا من المظاهر الفكرية لهذا التطور».

    وقسم المؤلف بحثه الغني تحت العناوين التالية:

    «أوجه الصراع في الملحمة».. وجعل هذه الأوجه نوعين أساسيين: الصراع الأول التناحري طورا والتكاملي أطوارا، بين الإرادات والآيديولوجيات. والنوع الثاني من الصراع، وهو الصراع النفسي داخل شخصية الإنسان. وتحت هذا العنوان أورد عناوين فرعية هي: أولا «انكيدو والراعي الصياد». ثانيا «انكيدو وشمخة». ثالثا «جلجامش وانكيدو»: 1- «التناحر».. 2- «الغربة».. 3- «التكامل». رابعا «جلجامش وانكيدو ضد خمبابا». خامسا «جلجامش وانكيدو إزاء عشتار وثور السماء». سادسا «انكيدو والموت». سابعا «جلجامش والبحث عن الخلود».

    وأرفق المؤلف الدكتور حسين علوان حسين كل عنوان من هذه العناوين بشرح غني ونصوص الملحمة كاملة.

    يقع الكتاب في 111 صفحة من القطع الكبير، وأربع عشرة صفحة من الملاحظات والهوامش والمصادر التي أغنت البحث القيم.

    ولا يخلو الكتاب من اجتهادات جديرة بالمناقشة، كونها، في حدود ما أعرف، جديدة في هذا المجال من البحث في هذا الأثر الأدبي الإنساني العميق، الذي كان له تأثيره الكبير على الكثير من الآثار والملاحم الأدبية التي أعقبته في تاريخ الأدب والفكر الإنساني العالمي على مدى العصور.



    الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /1
    مقدمة
    تعد ملحمة گلگامش السومرية – الأكدية أقدم كنـز من كنوز الأدب الملحمي في تاريخ البشرية ، فهي أقدم من الألياذة بما ينيف على ألف و خمسمائة عام حسبما تؤكد عالمة الآثار البريطانية "نانسي ساندرز" و عالم السومريات الأمريكي "صموئيل نوح كريمر"(1). وتحتل هذه الملحمة ، مع قصة الخليقة البابلية (2) ، مكانها المتميز بين أعظم ملاحم العالم القديم . فعلاوة على قيمتها الشعرية الخالدة ، فان نصها مليء بالمعاني العميقة والقيم السامية و التي تفرض وجوب عدم قراءة الملحمة كمجرد حكاية أو أسطورة ، و إنما كوثيقة عن القيم الإنسانية القديمة . و من أهم هذه القيم هي تلك الإجابة البسيطة و العبقرية التي تقدمها الملحمة لحل معضلة خلود الإنسان بتثبيتها حقيقة أن العمل النافع وحده هو الكفيل بتحقيق ذلك الخلود على الارض . وهذه هي الإجابة الوحيدة المتاحة للبشر حتى يومنا هذا لأعز أمنية يمكن أن تراود نفس كل إنسان حي . إن القيمة الوظيفية السامية التي تعطيها الملحمة للعمل البشري النافع – و هو الذي ارتقى بالبشر فوق مرتبة الحيوان أصلاً – بتقريرها أن هذا العمل الغائي و النافع إجتماعياً هو مكمن السر في خلود البشر تعد بحد ذاتها إنجازاً فكرياً و عملياً فذاً في تاريخ وعي البشر لجدل تطور الإنسان برمته . ميزتان تميزان الملحمة: فالقصة تتركز على سرد أفعال الآلهة و البشر من جانب ؛ في حين أن مغزاها العميق هو تفسير أصل بعض أوجه العالم الإجتماعي أو الطبيعي .
    و باعتبارها عملاً أدبياً مبدعاً متعدد الوجوه ، فان نصها يهييء المادة الخام لمختلف الدراسات الأدبيـة و اللغوية و التاريخية و الأنثروبولوجية و غيرها . و سأكتفي في هذه الدراسة بتناول موضوعة تعدد و تداخل أنواع الصراع التي تعرض لها الملحمة من وجهة نظر مادية تاريخية و ذلك بربطها بتعدد و تداخل التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية في العراق القديم و بالفكر السياسي-الديني-الإجتماعي للعراق القديم و تجلياته التطبيقية . كما سأحاول مقاربة النص و تحليل شخصيات أبطاله بربطهما بالوضع السائد آنذاك إستناداً إلى ما نعرف عن تاريخ و مجتمع و إقتصاد العراق القديم . و سأعتمد في الوصف و التفسير لمختلف إحالات النص على الترجمة الإنكليزية للملحمة التي نشرها عالم الآشوريات البريطاني "أندرو جورج" عام (1999) باعتبارها أحدث طبعة متعددة المصادر و متكاملة لها وردت إلينا(3). و سأستكملها في بعض المواضع بترجـمة العلامة طه باقر العربية الرائعة للملحمة (1980) و كذلك بترجمة "ساندرز" لها المنشورة عام (1970) ، و سأضع النصوص المقتبسة منهما بين قوسين مربعين [ ].
    و الفرضية الأساس التي تنطلق منها هذه الدراسة هي أن أوجه الصراع في الملحمة هي إنعكاس للوعي الجمعي لتداخل و تعدد أنماط التشـكيلات الاجتماعية و الاقتصادية –السياسية على أرض العراق القديم نتيجة تفاوت تطور العلاقات الإنتاجية في مختلف بقاعه (المنطقة الجبلية ، المنطقة المتموجة ، السـهل الرسوبي ، الأهوار ، البادية) . والمقصود بالعراق القديم هو ذلك البلد المحصور بين أحواض نهري دجلة والفرات و روافدهما من عتبات جبال زاگروس و طوروس إلى سواحل الخليج العربي . و ليس مثل هذا التداخل والصراع بالغريب عن أرض العراق القديم الذي كان المسرح الريادي لأول إنتقال متسلسل و متواصل (أي غير منقطع) للإنسان على وجه هذه الأرض من مرحلة جمع القوت إلى مرحلة إنتاج القوت ، و من سكن الكهوف إلى بناء أولى المستوطنات الزراعية في تاريخ البشرية على سفوح تلال كردستان العراق ( موقع "جرمو" مثلاً)(4) ، ومن ثم نشوء أولى القرى و الأسواق الحرفية و التجارية في العالم القديم ، و التي تطورت بعدئذ لتكوِّن أولى المدن و مجالس الشيوخ و دويلات المدن والدولة الموحدة في العالم. و يكفي أن نذكر في هذا الصدد أن أول أداة عمل عرفها التاريخ بكونها هي التي مكّنت الإنسان لأول من إنتاج القوت الذي يزيد عن حاجته العائلية – وهي المسحاة - قد إخترعها إنسان العراق القديم و ليس أحداً غيره . و بهذا فقد دخل الإنسان عصر الإنتاج الزراعي الخاص المستند على تخصيص جزء من قوة العمل الفردي للتبادل الإجتماعي و ليس مجرد الإستهلاك العائلي الذاتي . و كاعترافٍ عبقريٍ من جانب المجتمع العراقي القديم بالأهمية الاقتصادية – الاجتماعية لهذه الآلة الإنتاجية "الذكورية" ، فقد أسبغ عليها صفة القداسة بجعلها رمزاً لرئيس مجمع الآلهة البابلي : الإله الذكر مردوخ . و هكذا تتزاوج سلطة قوة العمل الإجتماعي الأرضية بقوة السلطة السماوية .
    و قبل الولوج في صلب الموضوع ، لا بد من إيضاح إن هذه الدراسة تنطلق من إفتراضات ابتدائية ثلاث: أولاهما أن للملحمة انعكاساتها القابلة للتشخيص للذاكرة الشعبية و للوعي الجمعي العراقي القديم لحضارة حقبة تاريخية طويلة جداً و لكنّها مختصرة إلى أدنى حدٍ ممكن لأغراض الحبكة في الملحمة (5) ، و ثانيهما أن شخصيات الملحمة – رغم إرتفاعها فوق مستوى النمطية الدرامية – إنما هي أيضاً تبلورات مركزة لجماعات إقتصادية-إجتماعية عميقة الجذور ، علاوة عن تعبيرها عن شخصيات بطولية فذة في العراق القديم سرعان ما ستصبح أنموذجاً للأبطال لدى مختلف الشعوب عبر العصور اللاحقة ، و ثالثهما أن المعاني والإشارات إلى تطور صراع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السياسية كثيراً ما يعبر عنها رمزيا في الملحمة باعتبارها مظهراً من المظاهر الفكرية لهذا التطور .
    و لكون هذه الدراسة قد كتبت في محافظة بابل خلال الفترة العصيبة 2005/2006 من تاريخ عراق القرن الواحد و العشرين المحتل من طرف أعتى و أسفل جيش غاشم عرفه التاريخ ، فإنني أطلب من القاريء الكريم أن يسامحني في المناسبات التي أستطرد فيها عن الوصف للعراق القديم بإحالته إلى وضعه المأساوي الرهيب المعاصر ، و الذي أتمنى أن أستطيع يوماً تقديم تحليل مناسب له و لآفاقه المغلقة التي تنذر بالحرب الأهلية و تقسيم أرض البلد بين "أمراء الحرب" الجدد من أتباع المحتلين المتكالبين على السلطة ، و بيع ثرواته الطبيعية بالأموال البخسة المسروقة من شعب العراق أصلاً للقروش التي لا يُشبع نهمها و المتهيأة في كل مكان لأزدراد القشطة العراقية الدسمة الطافية فوق أنهار الدماء .





    أوجه الصراع في الملحمة

    الحبكة الدرامية للملحمة مشحونة بنوعين أساسيين من أنواع الصراع ، أولهما الصراع التناحري طوراً و التكاملي أطواراً بين الإرادات و الآيديولوجيات ، فهناك صراع الملوك و الأبطال و العامة من البشر مع بعضهم ، و صراع الآلهة مع بعضها ، وصراع البشر مع الآلهة ، و صراع البشر مع الطبيعة ، وصراع الدول ، وصراع الرجل مع المرأة ، وصراع الإنسان مع الحيوان ، الخ . أما النوع الثاني من الصراع فهو الصراع النفسي داخل شخصية الإنسان المحبـط و العاجز نفسه ، كالصراع الناجم عن رغبة الإنسان في التعلم و التطور باكتساب المعرفة و الحكمة و الانتقال من المجهول إلى المعلوم ، و من الفناء إلى الخلود في هذا العالم . ألنوع الأول من الصراع تحركه دائماً المصالح الاقتصادية الغاطسة أو الطافية ، أما النوع الثاني فيحركه التطلع الطبيعي للإنسان إلى وضع حياتي أفضل يتجاوز فيه الحدود و المعوقات الحياتية المفروضة عليه كإنسان مثل الفقر و الجهل و الموت و المرض ، و إلى الارتقاء و النمو و التقدم بفضل إكتساب العلم و الخبرة و الثـروة .

    أولاً / أنكيدو والراعي الصياد

    أول صراع تفك عقدته حبكة الملحمة هو ذلك الناشئ بين أنكيدو و الراعي الصياد ، والمقدم بالنص التالي الذي يصف أنكيدو على هذا النحو :

    يكسو الشعر جسمه كالحصير ،
    و له جدائل طويلة كجدائل المرأة ،
    و شعر رأسه كثيف كسنابل الشعير ،
    إنه لا يعرف العائلة و لا الوطن .

    بالشعر الذي يكسوه مثل إله الحيوان ،
    مع الغزلان كان يرعى على الحشائش ،
    و يتدافع مع وحوش البر إلى عين الماء ،
    ليروي غليله مع الوحوش من الماء .

    رآه عند عين الماء الصياد ناصب الفخاخ ،
    مرةً و مرتين و ثلاثاً شاهده الصياد عند عين الماء ،
    و ما أن وقعت عليه عين الصياد حتى أصابه الهلع ،
    و عاد مع قطعانه إلى مالكها .

    خيّم عليه ألهم و اليأس و الصمت ،
    و علا وجهه الوجوم و الغم ،
    و صار الحزن يملأ قلبه ،
    و التعب يعلو محيّاه مثل مسافرٍ قادمٍ من بعيد .

    فتح الصياد فاه وقال لأبيه :
    "يا أبتي إني رأيت رجلاً عند عين الماء ،
    هو الأقوى في البرية و الأشد بأساً ،
    و هو صلب كالصخرة النازلة من السماء .

    إنه يجوب التلال كل يوم ،
    و هو يرعى مع القطعان على الأعشاب ،
    و آثار قدميه تتواتر عند عين الماء ،
    و أنا أخافه و لا أجرؤ على الاقتراب منه .

    إنه يردم الحفر التي أحفرها ،
    و يرفع الفخاخ التي أنصبها ،
    و يحرر منها كل بهائم الحقل ،
    إنه يمنعني رزقي في صيد الحيوانات البرية ."

    فتح الأب فاه و قال للصياد:
    "إذهب إلى أوروك و قابل گلگامش هناك،
    و اظهِر التواضع في حضرته ،
    فهو قوي مثل الصخرة النازلة من السماء .

    خُذْ الطريق و يـَمِّمْ شَطْرَ أوروك ،
    و إياك و الركون إلى قوة الإنسان !
    إذهب يا بني و اجلب ألبغي "شمخة" ،
    فان سحرها يداني سلطان الجبارين .

    و عندما ينـزل القطيع إلى عين الماء ،
    عليها أن تخلع ثيابها لتظهر مفاتنها ،
    و ما أن يراها فإنه سينجذب إليها ،
    و عندها سينكره قطيعه ألذي ترعرع بين ظهرانيه ."

    يقدم النص أعلاه المادة الخام لوصف أقدم نمطين من أنماط العيش للإنسان : أولهما نمط عيش الإنسان البدائي الأول غير المنتج مثلما تعيش الحيوانات بالإعتماد على تناول ما تقدمه ألطبيعة له من أعشاب و ثمار مجانية ، و ما تقدمه الحيوانات غير المدجنة من حليب و غيرها من الأغذية "الجاهزة" ؛ وثانيهما عيش الإنسان المنتج على الرعـي و الصيد . الإنسان الأول (و مثاله هنا أنكيدو) قوي الجسم و كث الشعر مثل الحيوانات التي يعيش معها في العراء ، و هو لا يعرف أدوات الإنتاج ، و لا حياة الجماعات البشرية المستوطِنة ، و لا الحضارة المدنية . هذا الإنسان-الحيوان صلب العود ، و سريع الاندفاع مثل الصخرة النازلة من السماء (أي النيزك أو الشهاب) ، وهذه أهم متطلبات حياته المعاشية و مقومات بقاءه على قيد الحياة من خلال اعتماده على قواه الجسدية المحضة لتحصيل قوته . أما الإنسان الثاني ( ومثاله الراعي الصياد) فهو يمثل الجماعة البشرية التي قطعت أشواطاً من التطور البيولوجي و الاقتصادي و الإجتماعي بحيث انتقلت من مرحلة الإنسان-الحيوان الذي يجمع القوت إلى مرحلة إنتاج القوت من خلال رعي الحيوانات المدجّنة (و هي أولى مراحل الإنتاج) ، و تعدت ذلك باختراع أدوات العمل (فخاخ الصيد و أداة الحفر في هذه الحالـة) ، و هذه ثاني مراحل الإنتاج . و هذا الإنسان يزاول عمله اليومي المنتج راعياً و صياداً عند رب عمله المالك للقطيع ، و هو والده ، ضمن إطار "الإقتصـاد الرعوي العـائلي الأبوي" . و مثلما سنرى بعدئذ ، فان هذه العائلة تسكن قرب مستوطنة رعوية تعاونية خاضعة إدارياً إلى دويلة مدينة "اوروك" الذي يحكمها الملك گلگامش . و الوصف الطبغرافي للمنطقة العراقية القديـمة التي يتواجد فيها أنكيدو و يزاول فيها الراعي صيـده ( المتميزة بوجود التلال و العيون) تشير إلى أنها كانت تقع عند سفوح جبال زاگروس ، ربما في لورستان الحالية (6). و رغم كونها تشكل إمتداداً طبيعياً للمنطقة المتموجة الكائنة على حافات للسهل الرسوبي العراقي ، و على العكس من وسط وجنوب العراق ، فلم تكن منطقة سفوح الجبال البرية و الوعرة تلك قد عرفت الحضارة بعـد ؛ بمعنى عدم إنتشار المستوطنات المدنية الكبيرة فيها و عدم وجود سلطة محلية ، و لذلك فقد كان النشاط الإقتصادي الأساسي الذي يمارس فيها هو إستخدامها كمنطقة رعي من قبل الرعاة السومريين .
    إن البون الحضاري و الزمني بين نمطي العيش الموصوفين أعلاه و المتداخلين زمنيا في الملحمة كبير جـداً ، حيث يؤشر اختراع الإنسان لأدوات العمل النافعة أكبر قفزة في تاريخ البشرية تحوَّل بفضلها الإنسان من مملكة الحيوان إلى مملكة البشر بفضل العمل الغائي المنتج ، و هذا ما تشير إليه الملحمة ضمناً عندما تصف بنية وأسلوب عيش أنكيدو وصف الوحوش ، في حين لا تـتطرق في وصفها للراعي إلا إلى إيراد مشـاعره الإنسانية الداخلية كالحـزن و الإحباط الذي ينتابه إزاء ظهور من يمنعه عن ممارسة عمله الغائي المشروع في صيد الحيوانات . ومثل هذا التهديد الجدي للأرزاق يتطلب اتخاذ التدابير اللازمة لوضع حد له ، و من هنا ينبع الدافع الاقتصادي لهذا الصراع .
    والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يعمد أنكيدو إلى تخريب فخاخ الراعي الصياد ؟ لا تقدم الملحمة نصاً صريحاً بصدد الدواعي التي تدفع أنكيدو إلى الإقدام على مثل هذا الفعل ، وإن كان من اليسير تخمين أسبابه . و أول سبب معقول هو إنه وسيلة للدفاع عن النفس و حفظ الذات لأن الفخاخ و حفر الصيد لا تميز بين الإنسان والحيـوان . ولما كان أنكيدو يرعى سوية مع الحيوانات كما لو كان واحداً منها ، فهو ، إذاً ، أحد الأهداف المحتملة للوقوع في فخاخ الصياد . وعليه يكون تصرفه في تخريب الفخاخ و ردم حفر الصيد عملاً وقائياً دفاعاً عن النفس ضد خطر محتمل .
    و السبب المعقول الثاني يتعلق بأسلوب عيش الإنسان البدائي مع قطعان الحيوانات قبل أن يكتشف الإنسان إمكانية أسر بعضها و حيازتها بتدجينها . لقد عرف الإنسان البدائي الأهمية الغذائية لحليب الأبقار و الجواميس و الماعز و الشياه و غيرها من الحيوانات البرية المشاعة قبل وقت طويل من تعلمه الأسلوب الإنتاجي المتمثل بتدجينها عن طريق تحويلها من ملك مشاع إلى ملكية شخصية . و لما كانت هذه الحيوان التي يعيش أنكيدو بين ظهرانيها تتيح له مصدرا غذائياً يسيراً لا يعوض قبل اكتشاف الإنسان للزراعة ، لذا فقد أملت هذه الضرورة الاقتصادية على الإنسان البدائي اختراع فكرة تقديس هذه الحيوانات الحلوب التي يعيش بينها بجعلها طواطم يحرَّم صيدها أو قتلها لضمان مورد غذائي مجاني مستديم و بقدر ضئيل من المجهود (الحلب فقط) لا يمكن مقارنته بالعمل الإضافي المعـقَّد الذي تتطلبه عملية تدجـين الحيوانات مثل صـيدها ، و إعداد الموائل لها ، و توفير الماء و العشب لها ، وحراستها و غيرها من الأعمال ؛ و هو الأمر الذي يتطلب عملياً تغيير أسلوب العيش البشري برمته . لقد انتشرت مثل هذه الأيديولوجيا الدينية في كل أنحاء العالم القديم ، و اتخذت موضوعات شتى لأسباب اقتصادية بحتة ، و ما تزال تمارس ضمناً أو صراحة إلى اليوم بخصوص هذا النوع من الحيوانات أو ذاك (يلاحظ تقديس الأبقار عند الهندوس ، مثلاً ، بسبب وظيفتها المؤثرة في الحراثة و الزراعية و توفير الحليب) بعد أن اكتسبت سربالاً دينياً تارة أو بيئياً تارة أخرى (الحفاظ على الأنواع أو التوازن البيئي) . و سنرى بعدئذ كيف أن تجاوز أنكيدو على إحدى مثل هذه المحرمات الطوطمية (الثور السماوي) هو السبب الذي يدفع بالآلهة إلى الحكم عليه بالمـوت المفاجيء . هنا تضعنا الملحمة إزاء الصراع بين نمط العيش القديم و الجديد من أجل البقاء ، و سنتعرف على الحل الذي تقدمه لحل هذا الصراع : قبول التغيير مع كل ماينطوي عليه من مخاطر .
    و الأمر المهم الآخر في النص أعلاه يتعلق بقيام الراعي الصياد باستشارة أبيه مالك القطيع حول كيفية التصرف إزاء الخطر المتمثل بقيام أنكيدو بتخريب فخاخه و إطلاق سراح طرائده ؛ و دواعي عدم أخذه زمام المبادرة بنفسه بالذهاب مباشرة إلى البغي "شـمخة" لجلبها إلى مكان تواجـد أنكيدو لإغـوائه و "ترويضه" ، خصوصاً وأن مثل هذا التصرف من شأنه أن يفيد حبكة الملحمة لكونه يسرّع وتيرة أحداثها و لا يؤثر على تلاحمها مع الأحداث اللاحقة . باعتقادي أن أسلوب التصرف هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقليد إجتماعي إقتصادي بالغ الأهمية نجده موثقاً لأول مرة في التاريخ عبر نصوص هذه الملحمة وغيرها من الآداب السومرية ، وسأسمي هذا التقليد " ثقافة الشورى" . و هذه الثقافة هي إحدى تجليات مرحلة متقدمة في السلوك الحضاري و التي تطورت بعدئذٍ بعدة أشواط ، وأحد مبادئها في وقتنا هذا هو مبدأ "أرجحية الرأي الجماعي على الرأي الفردي" ؛ فما هو منشأ هذا المفهوم ؟
    لقد نشأ هذا المفهوم أولاً لأسباب اقتصادية-اجتماعية في ظل تقسيم العمل بين أفراد المشاعة العائلية و العشائرية الابتدائية . و أساسه الواقعي هو إن من شأن أي تصرف من التصرفات المرتبطة بالنشاط الاقتصادي للمشاعة و الصادر من طرف أي عضو من أعضائها أن يؤثر على رفاهية و مستقبل كل الأعضاء الآخرين في المشاعة . فمادامت الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج هي الشكل السائد للملكية في المشاعة البدائية ، لذا فان من واجب كل فرد أن يأخذ رأي بقية شركائه من "أصحاب الشأن" بصدد الأخطار المؤثرة على رفاهية الجماعة قبل اتخاذ و تنفيذ أي قرار من هذا النوع . هذا التقليد الديمقراطي الذي أملته الاعتبارات الاقتصادية تَكَرَّس إجتماعيا بعدئذ و بشكل مخفف و ذلك لنفس الاعتبارات مع بروز الملكية الفردية في ظل النشاط الاقتصادي الرعوي و ضمن المجموعة العائلية الأبوية التي تتقاسم الأعمال تحت سلطة الأب الذي أصبح هو المالك لوسائل الإنتاج (القطيع و أدوات الصيد هنا) ، و بات من الضروري على إبن الراعي الصياد أن يأخذ رأي أبيه باعتباره هو المالك "صاحب الشأن" قبل التصرف حيال أنـكيدو . هنا ، في ظل المجتمع الأبوي ، تحول مبدأ الشورى من مبدأ عرفي-ديمقراطي واجب التطبيق في القضايا الأقتصادية المهمة لأختصاصه بكل الشركاء ذوي الشأن في المشاعةالبدائية ، إلى مبدأ نخبوي يهم ، أول من يهم ، الآباء و الشيوخ و الأرشدين في العوائل وذلك حسب "الأقدمية" ، و على قاعدة أن "من هو أكبر منّك بيوم ، أفهم منك بسنة" . و سنرى بعدئذ كيف أن ثقافة الشورى هي الطابع العام الذي يسم كل تصرفات أبطال الملحمة بعد أن تحولت إلى مبدأ شخصي وعرفي مجرَّب و متّبع حتى في اتخاذ القرارات الشخصية التي ليس لها بالضرورة تأثيرات اقتصادية جماعية . و هذه هي إحدى الأمثلة المهمة (و قد مر بنا سابقاً مبدأ الطوطمية أيضاً) على ترسخ عدد قابل للتعيين من التقاليد الاجتماعية ذات المنشأ الاقتصادي حتى بعد انتقال تلك المجتمعات من تشكيلة اجتماعية –اقتصادية إلى أخرى كلما كان بالإمكان "تكييف" وظيفة هذه التقاليد لخدمة المصالح الاقتصادية الناشئة حديثاً ، أو بانت لها منافع اجتماعية أو تداولية أو دينية ، وسأعود إلى هذا الموضوع لاحقاً.
    و يلاحظ أيضاً من كلام والد الراعي الصياد وجود وعي متجذر عند عقلاء العراق القديم بأن الأنسان لا يجوز له الإعتماد دوماً على القوة المحضة لدرء الأخطار المحيقة به ، لأن القوة بحد ذاتها ، مع أنها قد تكون مطلوبة في سياقات معينة ، لا يمكن أن توفِّر الحلول الناجـعة لكل الأخطار ، ناهيك عن المخاطـر و التكاليف الباهضة المترتبة على اللجوء إليها . و أن لكل خطر داهم أسلوب ناجع في المواجهة . و أحكم أمر هنا هو اكتشاف الأسلوب الأنجع المتاح للتصرف ، فما كان بالإمكان حلّه سلماً لا يجوز الركون فيه الى الحرب ، حسب مفهوم "قارع بأنجع حيلة و أرخصها". هذا الوعي التفاوضي-التحسبي في حل الخلافات أمر اجتماعي مهم في تسيير مختلف امور العائلة أو المجتمع أو الدولة ، و هو الأساس الذي تقوم عليه الدبلوماسية المتحضرة في التاريخ. و لهذا نجد أن والد الراعي يحذِّر إبنه من الركون إلى القوة في الصراع مع أنكيدو القوي لأدراكه بأن سحر المرأة بالنسبة للرجال من طراز أنكيدو أبلغ وقعاً من قوة العضلات .
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    #2
    رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

    لصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /2

    ثانياً/ أنكيدو و شمخة

    عملاً بنصيحة والده ، يسافر الراعي الصياد إلى أوروك ، فيقابل گلگامش و يستحصل موافقته على إستصحاب شمخة إلى البرية لترويض أنكيدو كما يتضح من هذا النص :

    مُمتثلاً لنصيحة أبيه ،
    إنطلق الصياد في سفرته .
    ركب الطريق ، و يمم شطر أوروك ،
    و تكلم أمام گلگامش قائلاً :

    "هناك رجلٌ يَرِد عين الماء
    انه الأقوى في البرية ، وهو شديد البأس ،
    وهو صلب كصلابة الصخرة النازلة من السماء .
    ……
    ……"
    خاطب گلگامش الصياد قائلاً :
    "إذهب أيها الصياد و خذ معك شمخة !
    وعندما يأتي القطيع إلى عين الماء
    عليها أن تخلع ملابسها لتكشف عن مفاتنها
    وحالما يراها فسينجذب إليها
    فينكره قطيعه الذي ترعرع بين ظهرانيه ."

    السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو سبب إضطرار الراعي الصياد إلى إخبار گلگامش بموضوع أنكيدو ، و طلبه منه الإذن في إصطحاب شمخة . الجواب يكمن في طبيعة الفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها شمخة . كانت مدينة أوروك في تلك الفترة دولة تسودها تشكيلة اقتصادية – اجتماعية ثيوقراطية تفردت بها دويلات المدينة-المعبد في بلاد سومر القديمة (أريدو ، نفّر، شوروباك ، سبّار، كيش ، اوروك ، أور) . والمبدأ الأيديولوجي- القانوني الذي تقوم عليه هذه التشكيلة هي أن " المُلْك للمعبد " ، أي أن كل موجودات المدينة وبضمنها البشر هي – على الأقل نظرياً – ملك للمعبد ( أي الآلهة ) . فوفقاً للفكر الديني السومري ، فإن الآلهة قد خلقت البشر للغاية الأساس المتمثلة بخدمتها كي تحيى سعيدة مرتاحة بلا عمل (7)، لذا فإن من واجب كل إنسان القيام بخدمة خالقيه إما بالعمل المباشر لحساب الآلهة ، أو بتأدية نصيبه من الضرائب إليها على شكل عطايا أو هباتٍ أو نذور في مناسباتٍ معينة أو تخصيص جزء من قوة عمله لحسابها إما للتطهر ونيل البركة ، أو للتكفير عن الذنوب . و المواطنون ضمن هذه التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية هم فئتان ؛ الفئة الأولى هم أهل "الحل و العقد" الذين يعملون لحساب المعبد و يعيشون على موارده ، والفئة الثانية هم "المدنيون" الذين يدفعون الضرائب للمعبد مقابل تسديد التزامهاتهم الديني في خدمة خالقيهم . وتضم الفئة الأولى نشطاء المعبد مثل مختلف مراتب الكاهنات و الكهنة و العمال و الحرفيين و الحراس و الرعاة و الفلاحين و التجار و العمال و العبيد و غيرهم من المشتغلين لقاء أجور (العينية في الغالب) في النشاطات الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية العائدة ملكيتها للمعبد باعتباره المالك الأكبر لوسائل الإنتاج . و بضمن هذه الفئة "حكومة المعبد" و التي تتمثل بالملك الحاكم و قصره و حكومته و جيشه و مستشاريه باعتبار أن القصر و المعبد كان يكمل أحدهما الآخر في إطار وحدة اقتصادية-سياسية-دينية ، حيث نجد أن رئيسة معبد السماء "أي-أنا" الرئيسي في اوروك هي أم گلگامش الإلهة الثانوية (ننسون) – و هي الملكة أيضاً مثلما ستنص عليه الملحمة بعدئذٍ – في حين أن الملك الذي يمسك بزمام السلطة هو ابنها شبه الإله گلگامش . و أفراد هذه الطبقة يحصلون على جراياتٍ منتظمة أو موسمية من موارد المعبد لقاء رعايتهم لمصالحه ، و تطويرهم الآيديولوجيات الدينية التي تكرس خدمة العباد لهم باعتبارها خدمة للآلهة الحامية نفسها . أما الفئة الثانية من المدنيين فإن نشاطهم الاقتصادي قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و التي يسمح لهم بتملكها لقاء دفع الضرائب للمعبد إما نقداً أو عيناً أو ببذل قوة عمل مجانية ( أعمال السخرة ) تنفذ لحساب المعبد و حسب طلبه .
    و لقد تميزت أوروك عن غيرها المدن المقدسة في العراق القديم إبان العهد السومري المبكر بكونها مركزاً لأقدس معبد في البلاد و هو معبد " إي أنا" الخاص بإله السماء و رئيس مجمع الآلهة السومري " آنو" و كذلك الإلهة "إنانا" أو عشتار و هي أشهر و أقوى إلاهة في تاريخ العالم كله (8)، و لذلك فقد كانت المدينة محجـاً كبيراً للعبّاد و مركزاً تجارياً مزدهراً مهماً في عراق السومريين . و كانت تنافسها على مركزها هذا مدينة نفّر ، و هي مركز عبادة إله الـهواء إنليل .
    و بقدر تعلق الأمر بشمخة ، فان من الواضح كونها تنتمي إلى أفراد الطبقة الأولى من الإناث اللائى يكرسن أنفسهن ( إما من قبل عوائلهن لدفع ضرائب المعبد ، أو بسبب الوفاء بنذرٍ عائلي أو شخصي تقرباً للآلهة ، أو لكونهن يتيمات أو لقيطات أو فقيرات لا مورد لهن و يتولى المعبد تربيتهن ) لخدمة المعبد بممارسة البغاء المقدس لمدة محددة كوسيلة لتوفير الفرصة للعباد من زوّار المعبد "للإتصال بالإله" لقاء أجر معلوم يعود إلى إدارة المعبد ألتي يؤمِّن لهن بالمقابل المأوى و المأكل و الملبس. و لوجود المعبد كمؤسسة إقتصادية منتجة يمكن اللجوء إليها للحصول على ما يسد الرمق و إشغال وظيفة نافعة في تشكيلة زراعية-رعوية مزدهـرة ، فإن العراق القديم لم يعرف ظاهرة وأد البنات عند إزدياد عدد سكانه بشكل كبير إبان العصر السومري و العصور اللاحقة ، في حين صاحبت هذه الممارسة الزيادة الكبيرة في عدد السكان في المجتمعات القاطنة في المناطق الفقيرة .
    كانت ممارسة البغاء المقدس لحساب المعبد هو النشاط الذي يوفر مورد العيش الأساسي المتاح للنساء الشابات المنذورات بشكل مستديم ضمن إقتصاد المعبد كما هي في حالة شمخة . و عليه فإنها تعتبر إحدى أملاك المعبد في مركز المدينة الذي يحكمه گلگامش ، ولهذا السبب فقد كان لزاماً على الراعي الصياد أن يستحصل موافقة گلگامش على "إستعارتها" مؤقتاً لإنجاز المهمة المطلوبة منها خارج نطاق المدينة و المعبد الذي تعمل فيه لقاء أجرٍ طبعاً يُدفع جزء منه للمعبد للتعويض عن خسارته للموارد المنظورة من نشاطها المقدس داخل المعبد طيلة فترة غيابها . و لهذا فإن الناموس السومري كان يحرم على الرجل التزوج من فتيات المعبد مادمن في خدمته المقدسة . و هكذا نجد كيف أن الزواج – و هو فعل مقدس – ينقلب إلى فعل دَنَسْ إذا ما إنطوى على إفقار المعبد . هنا الدنس الديني المؤدلج يصبح تجلياً للمصالح الإقتصادية ، مثل الجريمة المترتبة على إيواء العبد أو العبدة الآبقة (9).
    و من المهم التأكيد هنا أنه و حسب التقاليد السومرية القديمة فقد كانت مهنة مثيلات شمخة مهنة ليست فقط محترمة اجتماعياً بل و مقدسة أيضاً (لشمولها برعاية الإلهة القوية عشتار) و ذلك لأسباب اقتصادية طبعاً بفضل دور أولئك النسوة في القيام بطقوس المعبد المقدسة – و أهمها الإتصال بإله المعبد – و كسب العباد و توفير الموارد المالية له . و اسم "شمخة" هنا مهم بحد ذاته فهو يشير إلى "الشموخ" ، و هو ما حدا بالأستاذ گوردن (1962) إلى تسميتها بالبغي المتكبرة (arrogant whore)(10)، و إن كان الصحيح هو "البغي الماجدة" لعدم وجود مايشير إلى التكبر في تصرفاتها ، بل أن العكس هو الصحيح حيث يثبت لنا أسلوب رسم شخصيتها كونها إنسانة رقيقة التصرف ، ناهيك عن أستاذيتها في فن تحويل الوحوش من أمثال أنكيدو إلى بشر آدميين مثلما سيمر بنا . و علاوة على منـزلتها المحترمة ، فقد كانت شمخة "ملكة جمال" مملكة أوروك ، ونجمة مقدسة شهيرة يعرفها في أوروك أغلب عباد آنو آنذاك ، و ربما كل حجاج معبد إي-أنّا ، و لذلك نجدها معروفة عند والد الراعي الصياد الذي يسكن بعيداً عن أوروك ، و هي معروفة عند گلگامش أيضاَ .

    "هو ذا يا شمخة ! ابرزي نهديك ،
    و اكشفي عن فرجك ، و دعيه ينال مفاتنك !
    إياك أن تنكفئي عنه ، بل تقبلي رائحته :
    و عندما يراك سينجذب اليك ."

    "أفرشي ملابسك كي يضطجع عليك ،
    و افعلي للرجل فعل المرأة !
    دعي شهوته تلامسك وتحاضنك ،
    و عندئذٍ سينكره قطيعه ، القطيع الذي ترعرع وسطه ."

    خلعت شمخة لباس حوضها ،
    و كشفت عن فرجها فأخذ مفاتنها .
    لم تنكفئ و تقبلت رائحته :
    و فرشت ملابسها فاضطجع عليها .

    و فعلت للرجل فعل المرأة ،
    فلامستها شهوته و حضنتها ،
    و لستة أيامٍ و سبع ليالٍ ،
    بقي أنكيدو منتصب العضو و هو يجامع شمخة .

    و بعد أن إرتوى تماماً من لَذَّاتها ،
    أدار عينيه نحو قطيعه .
    رأت الظباء أنكيدو ، فولت هاربة منه ،
    و ابتعدت حيوانات الحقل عن محضره .

    لقد دنس أنكيدو جسده الناصع النقاء ،
    و تسمّرت قدماه فلم يعد يقوى على الحراك ،
    رغم أن قطيعه كان يعدو عنه مبتعداً ،
    لقد أصاب الضعف أنكيدو فلم يستطع العدو كالسابق ،
    و لكنه نال الحكمة الآن ، و الفهم الواسع .

    نلاحظ أولاً التحديد الزمني المهم في النص لمدة "ستة أيام و سبع ليال" لفعل الجماع المشبع ، و هي المدة التي سيتواتر ذكرها بعدئذ في الملحمة و كذلك في العديد من النصوص الدينية السومرية و غير السومرية . لقد كان الرقم "سبعة" يرمز عند العراقيين القدماء إلى "العدد الكبير" ، و ما زالت أيامه تساوي "شهر العسل" في الأعراس العراقية المعاصرة (أسبوع العرس) . و لعل سبب إسباغهم صفة الكبر هذه عليه كونه أكبر عدد أولي بين الأعداد (1- 10) لا يقبل القسمة إلّا على نفسه و على الرقم (1) . أما الرقم "ستة" ، فقد كان يُستخدم في العديد من المناسبات الدينية و المدنية للتعبير عن المدة "المثالية" التي يتطلبها إنجاز الأعمال الـمهمة أو الخطيرة أو الـعظيمة . و سبب إسباغ صفة المثالية عليه فلعله يعود إلى كونه أصغر عدد أولي يـقبل القسمة على أربعة أرقام .
    و نلاحظ ثانياً كيف أن النص السومري ينظر إلى الجماع بين الرجل و المرأة نظرة مزدوجة ، فهو عمل يورث الحكمة و الفهم الواسع للعقل البشري من ناحية ، و هو فعل تدنيسي للجسد في نفس الوقت . قبل الجماع كان أنكيدو حيواناً همجياً ، فأصبح بعده انساناً حكيماً ، ولكنه مصاب بالدنس الذي يجعل قطيعه ينفر عنه . فلماذا هذه الإزدواجية في المعايير ؟
    ترتبط الاجابة على هذا السؤال بدافع اقتصادي اجتماعي ضارب في أعماق التاريخ تزامن مع أنهيار المجتمع الأمومي يوم كانت الأم هي ربّة العائلة البشرية الأولى التي يأوي اليها فحول الرجال من أشباه الحيوانات المتنقلة ليجدوا عندها مكاناً للإستقرار و الطعام و المتعة ، و مجالاً للعمل الغائي المنتج و المنتظم ضمن إطار مصالح العيش للأسرة الجديدة التي يصبحون أعضاء جدد فيها . في ظل هذه العائلة الأمومية يحق للمرأة مجامعة من تريد من الرجال المنضوين تحت حماها ، مثلها مثل شخصية عشتار في الملحمة ، و ذلك ضمن سيادة ثقافة القبول بحرية الأتصال الجنسي للمرأة و الرجل على حدٍ سواء . في حينها كان اقتصاد جمع القوت يمارس بشكلين ، شكل بدائي مترحل يتنقل من مكان لآخر تبعاً لتواجد القوت في المناطق الشحيحة المصادر الغذائية ، و آخر مستقر و متطور في المناطق الغنية بمصادر الغذاء و أساسه قيادة المرأة الأم للأسرة في عملية جمع القوت و تنظيم العمل بتقسيمه بين أفراد الأسرة من النساء و الرجال و الأبناء حسب الأعمار. و في ظل هذه العائلة الامومية ، كان الأبناء ينتسبو ن لإمهاتهم اللائي ولدنهم و ليس إلى الآباء لتعذر تشخيصهم على وجه الدقة بسبب الحرية الجنسية . و من المعلوم أنه طوال تاريخ البشرية فان الأم كانت هي الطرف الذي يخلق العائلة المستقرة و ليس الأب . (و الآن وبعد إختراع عملية الاستنساخ البشري غير الجنسي (cloning) ، فقد عاد الرجال الى وضع أدنى من وضعهم الأول في العائلة الامومية بعد أن أصبحوا مخلوقات فائضة عن الحاجة عند اللزوم قدر تعلق الأمر بوظيفتهم البيولوجية في التكاثر البشري) . و باعتبارها سيدة المشاعة الامومية ، فقد كان بإمكان المرأة سيدة العائلة الامومية ، مثلها مثل الإلهة عشتار ، ضم الرجال-الحيوانات الرحّل من أمثال أنكيدو إلى أسرتها . و مثل هذا الضم نافع للعائلة المشاعية لأنه يزيد قدراتها الانتاجية في اقتصاد جمع القوت ، ولكنه أنفع للرجل الدخيل الذي يتعلم في كنف الاسرة الجديدة مبدأ تقسيم العمل ، و أفضلياته ، و أسلوب الحياة المستقرة ، وثقافة المجموعة الأسرية ، ناهيك عن زيادة فرص إشباع بطنه ، و غريزته الجنسية . هذا الدور التاريخي الماجد الذي لعبته المرأة و ما تزال تلعبه في تعليمها و تعويدها للرجل أُسس الاستقرار الفاعل في المجتمع المتحضر هو الذي تخلده الملحمة رمزياً في شخصية شمخة الماجدة و أنكيدو الإنسان-الحيوان . ولذلك يكتسب أنكيدو الحكمة بعد جـماعه بشمخة ، و يصبح إنساناً آدمياً واسع العلم ، و يتعلم العمل الذي هو أقوى فن معاشي يجعل الانسان مربوطاً بواقعه مثلما سنرى في الفصل التالي .
    أما النظرة التدنيسية لفعل الجماع مع المرأة على نقاوة جسد الرجل فهي من الإبتكارات الآيديولوجية للمجتمع الذكوري بغية إدامة سيطرة الرجل على المرأة . و لم تظهر هذه الفكرة إلا في المراحل التالية بعد أن بدأت العائلة الأمومية بالتفكك كنتيجة مباشرة لأكتشاف أسلوبي الإنتاج الرعوي أولاً و الزراعي ثانياً . ففي ظل هذين الأسلوبين أصبح الرجل - المتفرغ للعمل خارج المنـزل - أكبر قوة منتجة في العائلة بفضل قوته الـجسمانية التي تتيح له العمل راعياً و فلاحاً يتفوق في إنتاجه على المرأة المرتبطة بالبيت إضطراراً في الغالب بسبب وظيفتها البايولوجية في إعادة إنتاج النوع البشري . و سـرعان ما ترجم الرجل هذه السيطرة الاقتصادية إلى سيطرة عائلية-اجتماعية-سياسة إستمرت الى وقتنا هذا ، وذلك بتحويله المرأة الى تابـع لـه ، و بمنعه الحرية الجنسية عنها (بإستثناء من يلتحق من النساء بالمعبد) ، مع إبقاء هذه الحرية متاحة بيسر للرجل وفقاً لهذا التشريع أو ذاك ، و تحويل المرأة الى تابع مستعبد يخدم رغائب الزوج عن طريق فرض قانون الزواج الأحادي لها ، و إيكال الأعمال المنـزلية الخدمية بها . ولتأمين إخلاص المرأة للرجل من جانب واحد لكي تتسنى له الولاية على أبناءه و زوجاته بدون منازع ، فقد نشر الرجل آيديولوجية الدنس الذي يصيب نقاوة جسد الرجل من فعل الجماع بغير زوجاته ، و اعتبار أن مثل هذا العمل رجس من جانب المرأة الموسومة بـ "الزنا" و التي ينبغي نبذها اجتماعياً لدنسها مثل نبذ حيوانات البر لأنكيدو من القطيع بعد جماعه بشمخة . و إذا ما وضعنا الرمزية جانباً هنا ، فيمكن تصور مدى ترسخ ايديولوجية نجاسة الجماع بالمرأة في هذا السياق عندما يجعل كاتب الملحمة حتى الحيوانات - التي تمارس الحرية الجنسية - ترفض أنكيدو بعد جماعه بشمخة . بعدها ستحول ايديولوجية المجتمع الذكوري المرأة الى رمزٍ للمصائب و الحروب ، و شماعة يعلـق عليها الرجل كل نقائصه (مثلما ستفعل التوراة بالقائها اللوم على حوّاء في قصة سقوط آدم ، و مثلما سيفعل قبلها أنكيدو قبيل وفاته مثلما سنرى) ، و إلى أسوأ مستعبد أبدي في التاريخ تتميز أبدية عبوديته بعمليات غسيل دماغ اجتماعية-دينية مستديمة كي لا يدرك أنه مستعبد أصلاً . و بمرور الأزمان ستأتي أديان أخرى تقصي المرأة إقصاء تاماً عن القيادة في مراكز العبادة الدينية المقدسة ، و بشتى الأعذار . ولذلك ، فلا نجد بين ظهرانينا الآن لا حاخامات ، و لا قسيسات ، و لا شيخات . مع ذلك ، فان التاريخ و الآيديولوجيا قد سـمحتا لبعضٍ من أعظم القديسات عبر التاريخ أن يكنَّ من أنصار ممارسة الحرية الجنسية ، على الأقل لبعض الوقت في حياتـهن . وهكذا تجتمع القداسة بالنجاسة في نفس الفعل بفضل مكيافيلية الأُطـر الآيديولوجية ، المتاحة دوماً لخدمة مصالح الأقوياء المستحوذين على السلطة حسب الطلب ، و التى ترتدي كـل الألوان ، و تكتسب مختلف اليافطات التلفيقية الشرعية . و سنعود إلى هذا الموضوع عند مناقشة الصراع بين عشـتار و گلگامش . وهكذا نجد أن نص الملحمة يعبِّر عن تحول أنكيدو من جامع متنقل للقوت إلى مستوطن ثابت لدى إتصاله بالمرأة (التي تصنع الإستقرار) من خلال جماعه بشمخة و الذي يجعل حيوانات تهرب منه (إشارة إلى إنقراض هذا النمط من النشاط الإقتصادي) .
    لقد كانت القوة الجسمانية للرجل هي المحرك الطائر الذي رفع به الرجل مكانته الإجتماعية فوق مكانة الـمرأة في إطار تسلط القوي على الضعيف . كما أدى ترسّخ أسلوب الإنتاج الرعوي و الزراعي إلى تقوية مكانة الرجل الإنتاجية على نحو مضطرد لحاجة هذين الأسلوبين لبذل مجهود بدني متواصل لاينقطع مثلما يحصل للمرأة نتيجة لوظيفتها البيولوجية و ما تفرضه عليها من الدورات الشهرية و الحمل و الولادة . و هذه هي إحدى الأمثلة الإقتصادية - الإجتماعية على تفاعل الوظيفة البيولوجية للأنثى و الذكر مع أسلوب الإنتاج السائد و ذلك بهدف تغيير علاقات الإنتاج و لخلق الهيمنة الإقتصادية و من ثم الإجتماعية لأحدهما على الآخر بدلاً من التكامل أو المشاركة المتساوية بينهما . و يلعب موقع الذكر و الأنثى في عملية الإنتاج دوراً حاسماً هنا ؛ ففي مجتمع النحل – الذي يقتصر فيه دور الذكور على تلقيح الملكة لإعادة إنتاج النوع – تقتل العاملات المنتجات الذكور بعد أدائهم لدورهم البيولوجي في دورة الحياة بتلقيح الملكة لكونهم مستهلكين للغذاء و غير منتجين له . و كإعتراف من المجتمع الرجولي بقيمة القوة البدنية ، فقد قام بتكريسها دعائياً باعتبارها أهم مقومات البطولة الفذة ، و التميز النوعي ، و مقارعة الأعداء من كل نوع ، و بالتالي القيادة السياسية للمجتمع . ولذلك نجد عصراً للبطولة الرجولية عند أغلب الشعوب البدائية خلال مرحلة تحولها السياسي من مستوطنات متفرقة و قبائل مترحلة الى دول مدن ذات سيادة ، قبل أن تتحول بالضم و الإلحاق الحربي الى دولة موحدة تابعة إلى مدينة عاصمة . و مع ذلك تبقى ملحمة گلگامش أعمق أنسانياً من مجرد تجميع لأفعال بطولية مثل قصص هرقل و فرساوس و جَيْسِن و أبطال الألياذة و الأودسة و حتى أبطال العهد القديم ، و كلها يتضمن نقلاً يكاد يكون حرفياً من هذا أو ذاك من نصوص الأدب و الفولكور السومري الأكدي . و في قصص البطولة هذه يحلو للذكر التعويض عن مناقصه و ستر عوراته برميها على عاتق الأنثى بتصويره للمرأة بهيئة مخلوق شبق ، و مستحوذ ، و مدنس ، و المسبّب لكل الشرور ؛ أي ببساطة: المخلوق الحامل لكل شرور الرجال الطامعين المجترئين على إغتصاب حقوق الآخرين .
    و بعد فعل الحكمة-الدنس الذي يسبب "سقوط" أنكيدو و يجعل قطيعه يهرب مـنه ، تصف الملحمة ردة فعل الأخير بعد أن خسر إنتماءه للقطيع و أصبح "متغرباً" (estranged) ، فتقترح عليه شمخة إنتماءً إجتماعياً جديداً بديلاً لهذه الغربة :
    رجع أنكيدو و قعد عند قدمي شمخة ،
    و راح يرمقها و يتمعن بمحاسنها .
    ثم أصغى بانتباه لكلماتها ،
    و هي توجه كلامها إليه ، إلى أنكيدو :

    "إنك وسيم يا أنكيدو كإله !
    فلماذا تجوب البرية مع الحيوان ؟
    تعال معي آخذك إلى ميدان مدينة أوروك ،
    الى المعبد المقدس ، بيت آنو و عشتار .

    حيث گلگامش ألكامل القوة ،
    ألذي يسوس الشعب مثل الثور الجامح ."
    هكذا تحدثت إليه فاستحسن مقالتها ،
    أذ كان يعلم بالغريزة أنه بحاجة إلى صديق .

    تكلم أنكيدو و قال لشمخة :
    "هيا يا شمخة ، خذيني معك ،
    إلى المعبد المقدس ، إلى بيت آنو و عشتار
    حيث گلگامش الكامل القوة ،
    الذي يسوس الشعب مثل الثور الجامح ."

    "سأتحداه ،فأنا شديد البأس ،
    سأتفاخر وسط المدينة قائلاً : "أنا الأقوى" !
    و سأتحدى مقدَّرات الأمور فيها ،
    فأنا المولود في البرية ، ذو القوة المكين ."

    و خوفاً من جانب شمخة من إحتمال أن يتحول أنكيدو البطل القادم من البرية الى "فوضوي" غر يتحدى نظام الأمور فيها و يهدد السلام الإجتماعي بغير تحسّب للعواقب فيدمّر الحضارة المدنية في أوروك (على عادة كل غزاة العراق القديم من القبائل الرحّالة) بدلاً من مشاركتة الايجابية في بنائهـا و ترسيخها ، فإنها تخفف من غلوائه بعد أن إكتسبت ثقته وذلك باتباع ثلاثة أساليب تواصلية : فهي تؤكد له أولاً وجود محل يليـق بمقامـه في المدينة ، ثم تُلفت نظره ثانياً الى "أضواء المدينة" و مباهجها التي تنتظره ، و أخيراً تلقي على مسامعه ترنيمة التفويض الإلهي و عقابيل معصية نواميس الأرباب :

    "دع الناس يَرَوْنَ وجهك ،
    ..... و جوده أعرفه بالتأكيد .
    إذهب يا أنكيدو الى اوروك المسوّرة ،
    حيث الشبان يتزينون بالأحزمة على الخصر .

    في كل يوم يقام عيد في أوروك ،
    و تقرع الإيقاعات على الطبول ،
    و هناك الغواني الرائعات الأبدان ،
    تزينهن الفتنة و يمتلئن باللّذّات .

    إنهن يُنهضن حتى العجائز من مضاجعهم ،
    إيه يا أنكيدو ، مازلت لم تخبر الدنيا .
    سأريك گلگامش السعيد الخالي ،
    فانظر إليه و تمعّن في خصاله .

    إن رجولته ممتلئة ، و هو مهيب المقام ،
    و يُزيْن السحر كل شخصه ،
    و قوته أشد من قوتك ،
    فهو الساهر في الليل و النهار .

    أي أنكيدو ، دعك من أفكارك الآثمة ،
    فگلگامش هو الأثير عند شمش المقدس ،
    و قد حبته الآلهة (العظام) آنو و إنليل و إيا بالحكمة الواسعة (11).

    فحتى قبل مجيئك من الجبال ،
    كان گلگامش ، و هو في أوروك ، يراك في الأحلام ...."

    تواصل الملحمة بحس واقعي أخّاذ و صف عملية أنسنة أنكيدو على نحو يخجل واقعية "أدﮔـر رايس بروز" مؤلف مسلسل "طرزان الرجل القرد" في القرن العشرين و الذي يجعل بطله ينتقل من مجاهل الغابات الأفريقية إلى شوارع نيويورك دفعة واحدة و بضربة ساحر:

    و فيما إنغمس كلاهما في الجماع ،
    نسي أنكيدو البرية التي ولد فيها .
    و لسبعة أيام و سبع ليال ،
    إستمر أنكيدو منتصب القضيب يجامع شمخة .

    فتحت شمخة فاها
    و خاطبت أنكيدو قائلة:
    "أنا حينما أراك يا أنكيدو أجدك مثل إله ،
    فلماذا تجوب البرية مع الحيوان ؟

    تعال معي آخذك إلى ميدان مدينة أوروك ،
    إلى المعبد المقدس ، إلى بيت آنو .
    قم يا أنكيدو و دعني آخذك ،
    إلى معبد إي-أنّا بيت آنو .

    حيث الرجال ينهمكون في الأشغال الماهرة ،
    و حيث تستطيع كرجل أن تجد لنفسك مكاناً."

    أصغى أنكيدو لكلماتها ، و استحسن مقالتها ،
    و أستمكنت نصيحة المرأة في لبه .
    فتجردت شمخة من ردائها و كسته بشطر منه ،
    و كست بالشطر الآخر نفسها.

    أخذته من يده ، و قادته كما لو كان إلهاً
    الى مجمّع الرعاة حيث موائل الأغنام ؛
    فتجمعت حوله عصبة الرعاة ،
    و راحوا يتهامسون عنه فيما بينهم :

    "كم تشبه بنية هذا الشخص بنية گلگامش ،
    إنه طويل القامة ، و شامخ مثل برج القلعة .
    لابد أنه أنكيدو ، المولود في الجبال ،
    إنه قوي مثل قوة الصخرة النازلة من السماء ."

    وضعوا الخبز أمامه ،
    و وضعوا الجعة أمامه ،
    فما أكل أنكيدو الخبز ، بل حارت نظراته .

    لم يكن يعرف كيف يأكل الخبز ،
    و ما عرف من قبل كيف يشرب الجعة .

    فتحت شمخة فاها و خاطبت أنكيدو قائلة:
    "كل الخبز يا أنكيدو فهو جوهر الحياة ،
    و اشرب الجعة فهي عادة البلاد!"

    أكَلَ أنكيدو من الخبز حتى شبع ،
    و شرب من الجعة سبع زقاق كاملة ،
    فانطلق مزاجه ، و راح يغني ،
    و فرح قلبه ، و تألق وجهه .

    قص الحلاق شعر جسده الكث ،
    و مسح جسمه بالزيت ، فتحول الى إنسان ،
    و ارتدى رداءً ، فأصبح مقاتلاً ،
    و تقلد أسلحته ليقارع الأسود .

    و لما أخلد الرعاة الى النوم في الليل ،
    أخذ أنكيدو يجندل الذئاب و يطارد الاسود ،
    فنام رؤساء الرعاة آمنين ،
    فبطلهم أنكيدو هو الساهر الذي لا ينام .

    و هكذا تنجح خطة والد الراعي الصياد فيتحول أنكيدو من مخرب لفخاخ الرعاة الى حارس ليلي جسور يحمي حماهم وهم ينامون قريري الأعين . هذه هي نتائج فن التفاوض لجمع الإرادات - المبني على مبدأ " هـات و خـذ " - و الذي يتيح تحويل العدو الى صديق متعاون مفيد ، و الامـور إنـما تقاس بـخواتيمها طبعاً . و الفضل في كل هذا التحول ( Transformation ) الحضـاري إنما يعود لشمخة الماجدة التي تعلم أنكيدو كل شيء بنكران ذات نموذجيٍ عند بنات جنسها : من الحب ، إلى تقبل الطعام المطبوخ ، و شرب الجـعة ، و حلاقة الشعر ، و تزييت البشرة ، و ارتداء الملابس ، و تقلد الأسلحة ، و غير ذلك من الأمور التي تتجاوزها الملحمة . و من الصعـب تصور إمكانية قيام شخص آخر غير شـمخة بـمثل هذه المهمة الدقيقة و التي لابد أنها قد استغرقت فترة لا بأس بها تختزلها الملحمة إلى أدنى حد ممكن لأغراض الحبكة .
    غير أن أهم دور لشمخة هو ذلك الذي يهدف إلى أقناع أنكيدو بأن يصبح رجلاً حقيقياً بكل معنى الكلمة عندما تحثه للذهاب الى المكان المناسب الذي يستطيع فيه الرجال في أوروك تعلم مهنة مجزية ، ألا و هو معبد إله السماء آنو . و الأسلوب الذي تتبعه شمخة في إقناع أنكيدو بأن يصبح رجلاً منتجاً ينم عن الحكمة و الخبرة العميقة في تجاريب الحياة الاجتماعية ، و في طريقة التعامل مع أشخـاص من شـاكلة أنكيدو . و أولى الجمل التى تقولها له ترمي الى محاولة لفت نظره الى أن إمكانياته و قابلياته الشخصية إنما هي عظيمة مثل عظمة إمكانيات الآلهة الجبّارة . هنا الخطاب التشجيعي و الواقعي يلتمس إثارة الطموح الفردي انطلاقاً من مميزات شخصية بطولية موجودة أصلاً عند أنكيدو و معترف بها عند الجميع ، و لكن أنكيدو يعتبـرها أمراً طبيعيـاً و ليس تفرداً شـخصياً . و حالما تنبِّهه الى تميُّزه ، فإنها توضح له حقيقة أن هذا التميز البطولي المتفرد الذي يـتمتع به لا يتناسب مع أسلوب الحياة الذي يحياه في البرية مثل الحيوانات ، والذي لا يليق بمقامه الجليل . ثم تقترح عليه البديل الحضاري و الذي من شأنه أن يصنع منه رجلاً اجتماعياً فاعلاً بكل حق و حقيق ، و يتمثل هذا المقترح بمرافقته لها إلى الميدان المسوَّر لمدينة أوروك حيث يوجد أنسب مكان لممارسة الرجال المتميزين مهنة نافعة وسط ورش الحرفيين المهرة العاملين في معبد آنو . فبالنسبة لشمخة ، فأن إكتساب الحرفة الموجهة و ممارستها تساوي إكتساب الشخص للرجولة الحقة ، لأنها تتيح للإنسان أن يصبح مستقلاً اقتصادياً ، و تجعله مؤهلاً لـ"فتح بيت" . و مازال مفهوم الاستقلال الاقتصادي عبر العمل النافع المجزي هو المبدأ العام للحُكم على أهلية الرجال الاجتماعية حتى وقتنا هــذا . و يؤكد النص أعلاه الدور الاقتصادي القيادي للمعبد في دولة اوروك ، و الذي لايضم فقط أمهر المهنيين في الدولة ، بل و يتيح أيضاً للصناع الفرصة لتعلم مهنة نافعة فيه تسمح بكسب لقمة العيش في إطار تعاوني .
    و كتمرين عملي أولي على اختبار أنكيدو لقدراته و إثبات امكانياته البطولية إجتماعياً فانه يعمل أولاً حارساً ليلياً لمركز استيطاني تعاوني لتجمُّع موائل الأغنام في منطقة رعوية ما ، و يبلو فيه بلاءً حسناً . و يوضح النص أن هذا المركز لا تعود ملكيته لشخص واحد بعينه ، بل هو مستودع تعاوني يخص عدداً غير قليل من الرعاة الذين يستودعون ماشيتهم العائدة من المراعي للمبيت في مجمَّع يضم عدة موائل ليلية مهيئة لهذا الغرض ، و من ثم يذهبون لقضاء الليل في بيوتهم الكائنة في نفس المستوطنة التابع لها ذلك المجمَّع . ومن شأن مثل هذا التدبير التعاوني أن يجمع الماشية الخاصة بأفراد المستوطنة الرعوية كلها للمبيت في مكان واحد تسهل حمايته ليلاً بعدد قليل من الحراس لا يقارن بعدد الحراس المطلوبين لو أن كل راعٍ احتفظ بأغنامه في مكان منعزل . و يمكن تصور وجود سوق لبيع الماشية في نفس هذا المجمَّع نهاراً . هنا المصلحة الجماعية للرعاة تفرز نشاطاَ إقتصادياً تعاونياً متقدم التنظيم . و بالنسبة الى شمخة و أنكيدو ، فإن هذا التطور العملي يحمل عدة دلالات : أولها إثبات شمخة للرعاة بأنها قد أنجزت مهمتها على أتم وجه ، وثانيهما تحقق أنكيدو ذاتياً من قدراته الشخصية الخارقة ، وثالثهما - و هي الأهم - ممارسة أنكيدو للعمل الاجتماعي النافع اقتصادياً لأول مرة في حياته . أما الأهمية الدرامية لهذا التطور فتتمثل بعرض فعل بطولي ذاتي للمتلقي يدلل على بأس أنكيــدو و ذلك كتمهيد لعرض بطولاته المستقبلية بعد أن كانت كل المعلومات عنه تنقل للمتلقي على لسان غيره من شخصيات الملحمة ، أو على لسان الراوية .
    و من المهم ألإنتباه الى الخلفية الفكرية لشخصية شمخة ، فكل الصور و الكلمات و التصرفات التي تقوم بها ترتبط بهذا الشكل أو ذاك بالمعبد و بهداية البشر الى سبل الأرباب و الإحسان اليهم . فهي لا تقارن أنكيدو إلا بالآلهة ، و تعرض عليه أن تـأخذه الى معبد آنو و عشتار المسمى "إي-أنا" الذي تعمل فيه ، و تعرف الإمكانيات التي يتيحها لمستقبل الرجال الأقوياء مثل أنكيدو . أنـها تتحدث معه بلغـة المرأة المتدينة الحكيمة و الواقعية ، ولهذا فإن أنكيدو "يستحسن مقالتها" " ، و يقبل بقيادتها له ، و ذلك على العكس من گلگامش الذي يرفض الإنقياد لعشتار مثلما سنرى بعدئذ . و إذا كان إنقياد أنكيدو لشمخة يؤشر الأنعكاس لإنقياد الرجل للمرأة في المجتمع الأمومي الذي تلعب فيه المرأة دور الممدن للرجال ، فإن رفض گلگامش لعشتار هو الإنعكاس لرفض الرجل هيمنة المرأة - حتى وإن كانت من طراز فريد مثل عشتار - في المجتمع الرجولي الذي تعيب أيديولوجيته على الرجل الفحل أن يكون تابعاً لزوجته ، أو حتى أمه ، كيلا يلحقه العار الإجتماعي بإعتباره "طرطور" - على حد تعبير العراقيين - أو "إبن أمه" - على حد تعبير المصريين .
    ويشير ترتيب تسلسل الأحداث في هذه الملحمة منذ البداية الى مدى تطور الحس الدرامي في العراق القديم و واقعيته الشديدة في التدقيق في الأمور . فتطور الأحداث هنا يجري على نحو واقعي لايعتمد – مثل الملاحم اليونانية – على المصادفات (coincidences) ، بل يستند الى مبدأ تعاقب الاحداث وفق ديناميكية التفاعل المنطقي للسبب بالنتيجة السياقية (cause/effect interaction) ، و ذلك في سلسلة معقدة و لكنها شديدة التماسك و الإقناع من المواقف و الأفعال البشرية التي تحتفل بالقيم الانسانية السامية فوق اهتمامها بالسرد الملحمي . فأنكيدو لا يصار الى وضعه في أوروك حالاً لكي يواجه گلگامش ، بل يوضع في المكان الطبيعي لشخص لم يخبر الحضارة مثله : في البرية وسط الحيوانات . و هو لا ينتقل الى أوروك بأمر الآلهة فجأة مثلما يحصل في الأساطير اليونانية و الرومانية ، و إنما عبر سلسلة من تفاعل الأحداث و الإرادات البشرية المبررة ، بل و الضرورية إقتصادياً و اجتماعياً .
    إلى هنا ينتهي الصراع بين أنكيدو و الراعي الصياد و الذي لعبت فيه شمخة دور المروِّض الخبير بكل مجد لتخلِّد حكمة المرأة و عطاءها الثر للبشرية . و هو الصراع الذي بدأ تناحرياً و انـتهى تكاملياً مثلما سنرى . و لابد من التذكير هنا الى أن أنكيدو قد أصبح الآن يمثل شريحة اجتماعية جديدة ، هي شريحة الرعاة التعاونيين العاملين في حراسة المراعي ليلاً في الارياف الكائنة خارج مدينة اوروك ، وسنرى كيف أن اتحاد قوى الريف بالمدينة (و المتمثل باتحاد قوة أنكيدو بگلگامش) سيصنع المعجزات لدولة أوروك .

    ملاحظة/شرح الهوامش في سيرد في الجزء الأخير .
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

    Comment

    • نجمة الجدي
      مدير متابعة وتنشيط
      • 25-09-2008
      • 5278

      #3
      رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

      الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /3


      ثالثاً/گلگامش و أنكيدو
      1/ التناحر

      بعد أن تصف الملحمة القوة البطولية التي حبتها الآلهة لگلگامش و حكمته و علمه الواسع ونسبه الشريف و جمال بدنه ، تنتقل الى إيجاد مكونات الصراع الضرورية لتحريك الأحداث و ذلك بوصفها طغيانه على شعب اوروك بالكلمات التالية :

      في أوروك التي هو راعيها كان يتبختر جيئةً وذهاباً ،
      إنه يسوسها مثل الثور الجامح ، شامخ الرأس .
      و هو لا يُبارى عندما يجرّد أسلحته ،
      و على أصحابه أن يبقون وقوفاً في نزالاته .

      إنه يضطهد شباب أوروك بلا مسوّغ ،
      گلگامش لا يدع أي شاب يبقى حراً لأبيه ،
      و في الليل و النهار يتفاقم طغيانه ،
      و هو گلگامش راعي الرعية المسالمة .

      إنه هو الراعي الموكل بشعب اوروك ،
      و لكنه لايسمح لأي فتاة بالبقاء حرة لأُمها .
      ضجت النساء بشكاتهن الى الربَّات ،
      و قدمن مظلمتهن أمامهن:

      "رغم قوته و تفوقه و خبرته و عظمته ،
      لكن گلگامش لا يدع أي فتاة تبقى حرة لأمها:
      و لا حتى إبنة المحارب و لا عروس الشاب."
      أصغت الربَّات لشكاتهن ،

      (و خاطبن ) آلهة السماء أرباب الهمم ،
      و تحدثن الى الإله آنو:
      "لقد وضعت ثورا برياً متوحشاً في اوروك المسالمة ،
      انه لا يبارى عندما يجرد أسلحته ،

      و على أصحابه أن يبقون واقفين في نزالاته ،
      إنه يضطهد شباب أوروك بلا مسوغ.
      گلگامش لا يدع أي شاب يبقى حراً لأبيه ،
      و في الليل و النهار يتفاقم طغيانه .

      رغم أنه هو راعي شعب أوروك ،
      گلگامش و الشعب المسالم ،
      رغم أنه راعيهم و حاميهم ،
      و لكنه لا يسمح لأي فتاة بالبقاء حرة لأمها ،

      و لا إبنة المحارب و لا عروس الشاب ."
      أصغى الإله آنو لشكايتهن ، (و فكّر):

      " لتستدْعُنّ الإلهة آرورو العظيمة
      فإنها هي التي خلقتهم ؛ خلقت البشر الكثيرين ،
      لتخلق نداً لگلگامش ، رجلاً شديد البأس ،
      و دعوه ينافسه فترتاح منه أوروك!"

      إستدعَت الربّات الإلهة آرورو العظيمة (وقلن لها) :
      "أنت التي خَلقتِ البشر ،
      و عليكِ الآن أن تصنعي ما فكّر به آنو.

      إجعلي منه غريماً بعزيمة لبه ،
      اجعليهما يتنافسان كي ترتاح أوروك!"
      إستمعت الإلهة آرورو لهذه الكلمات ،
      و صنعت في نفسها ما فكّر به آنو .

      قامت الإلهة آرورو بغسل يديها ،
      و أخذت حفنةً من الطين و رمتها في البرية ،
      وفي البرية خلقت أنكيدو البطل ؛
      إنه نسل الصمت الذي حاكه قوياً ننورتا . (12)

      يوضح النص أعلاه أن گلگامش كان ملكاً طاغياً على شعب أوروك ، و من ممارساته الطغيانية تنظيمه أعمال السخرة الجماعية التي يجب أن ينخرط فيها كل شباب و شابات أوروك القادرين على العمل بلا إسـتثناء ، حتى لإبنة المحارب و لعروس الشاب البطل ؛ الأمر الذي يجعل الأمهات و الآباء يخسرون قوة عمل أفراد عائلاتهم القادرين على الإنتاج لحسابهم . و يمكن تصور أن أعمال السخرة الجماعية هذه كانت تنصب على المنافع العامة لمؤسسة الدولة-المعبد ، مثل تشييد المعابد و تجديدها ، وبناء سور المدينة الكبير المرتبط بإسم گلگامش في التاريــخ ، و شق الأنهر و السواقي و كريها ، و غيرها من الأعمال التي تحتاج الى قوة عمل ضخمة و متكررة . فما هي الخلفية الاقتصادية-الاجتماعية و الآيديولوجية لأعمال السخرة الجماعية هذه ؟
      لا يمكن تصور تقليد العمل الجماعي المجاني في دويلات المدن السومرية بمعزل عن الإرث القديم لإسلوب العمل الجماعي بين أفراد العشيرة في المشاعة الرعوية–الزراعية الأولية القائمة على أساسين : الملكية العامة لوسائل الإنتاج ، و تقسيم العمل التعاوني بين كل الأفراد القادرين على الشغل في المشاعة حسب القــدرات و الأعمار. في مثل هذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية يصبح العمل الجماعي النمط الأساسي و الوحيد المقبول للشغل المنتج لكون ثمار قوة العمل المبذول هنا تعود بالنفع على كافة أفراد المشاعة . و في أوروك ، فإن مبدأ النفع العام و ليس الخاص هو الذي وفّر المسوغ الديني-الإيديولوجي لأعمال السخرة الجماعية هذه ، علاوة على ما سيذكر من مسوّغات دينية بعد حين .
      ويرتبط أسلوب أعمال السخرة الجماعية أيضاً بطبيعة الإنتاج الزراعي ألإروائي في السهل الرسوبي العراقي و الذي يتطلب قوى عمل ضخمة و منظمة لكري الأنهار و حفر الجداول ألإروائية الكبيرة لسقي الأراضي الزراعية و بزلها ، و بناء السدود و النواظم في أوقات الفيضانات . و لقد ساد في ظل هذا الأسلوب - المعروف بنمط الإنتاج الآسيوي - النظام السياسي المعروف بـ"الإستبداد الشرقي" حتى يومنا هـذا لإعتبارات سياسية تسلطية حتى بعد زوال مسوغاته الاقتصادية ، كما أنتج في حضارات وديان الأنهار القديمة أكبر عدد من الملوك المؤلهين في تاريخ البشرية لضمان ترويج و شرعنة أعمال السخرة الجماعية المربحة جداً للطبقة الحاكمة المنظمة لعمليات النهب الجماعي لحسابها .
      أما الأساس الأوتوقراطي الخاص بأعمال السخرة الجماعية ، فهو المفهوم الديني السومري الذي سبق الحديث عنه و المتمثل بكون الآلهة إنما خلقت البشر للغاية الأساس المتمثلة بتكفل البشر بإنجاز الأعمال اليومية الخاصة بالآلهة مثل إسكانها و إكسائها و إطعامها و إقامة الأعياد لها و غير ذلك . و على أساس هذا المبدأ تأسست دويلات المدن السومرية الثيوقراطية و التي يرتبط اقتصادها بهيمنة سلطة المعبد . و النصّين الأساسيين اللذين يوضحان هذا المبدأ هما "قصة الخليقة البابلية" و ملحمة "أتراحاسس" عن الطوفان التي نشرها كل من "لامبرت" و "ميلارد" عام (1969). و لما كانت مدينة أوروك هي أصلاً المدينة التابعة لإله السماء آنـو و سيدة الآلهة إنّانا أو عشتار حيث يوجد معبدهما ، لذا فان كل أعمال السخرة الجماعية لمواطنيها عبيد الآلهة إنما هي واجبات مقدسة تنصب لمصلحة الآلهة التي يدين لها العباد ليس فقط بخلقـهم بل و برفاهــهم الإقتصادي و الإجتماعي و العائلي و الشخصي و الصحي أيضاً . و بعكسه ، إذا ما أظهر العبيد جحودهم لخالقيهم ، فستستنـزل الآلهة على عبادها جامَّ غضبها و تبيدهم جماعياً بالطوفانات أو الأوبئة أو سـنوات الجفاف الطويلة أو الحروب و غيرها من الجوائح المهلكة . و يليق بالآلهة دائماً التبجّح بأنها أعظم و أول المتسببين بعمليات الإبادة الجماعية الخاطفة لحيوات لبشر في التاريخ ، و ذلك بالطبع قبل إلقاء قنبلتي هيروشيما و ناگازاكي ، أللتين لا بد أن تكونا قد أثبتتا للآلهة أخيراً و على نحوٍ مقنع تماماً صحة فرضية زوال إحتكارها لبراءة الإختراع هذه .
      و هكذا نجد أن تفاعل آيديولوجية الأرض (ضرورة العمل الجماعي التعاوني بين أفراد المشاعة الرعوية–الزراعية) بالسماء (خلق الآلهة للبشر لكي يتكفلوا بخدمتها يومياً) يسفر في النهاية عن صياغة المبدأ المضحك المبكي القائل بأن مصالح البشر إنما هي دائماً ، و في التحليل النهائي ، مصالح الآلهة ؛ في حين أن مصالح الآلهة لا تتطابق دائماً مع مصالح البشر بسبب كون البشر مذنبين بالولادة ، في حين أن الآلهة منـزّهة أو معصومة حتى و إن إرتكبت أكبر الحماقات(13). و بالطبع فقد كان بإمكان السلطة السيادينية دوماً كسر هذه القاعدة باستنـزال العصمة بالبشر من أمثال گلگامش ، أو بتجريد الآلهة من عصمتها مثلما حصل مع أم كل الآلهة تعّامة و إبنها كنگو في قصة الخليقة السومرية-الأكديّة .
      و لقد بقيت أعمال السخرة الجماعية تمارس تحت هذه التسمية أو تلك في العراق حتى بعد تطبيق إدارة الدولة أسلوب جمع الضرائب من المواطنين على نحو منتظم و كاف للصرف على هذه الأعـمال الضخمة . و آخـر و أسوأ تطبيقات لها هي تلك التي مارسها نظام الإبادة و النهب الفاشي في العراق طوال سنوات حكمه الإرهابي الأسود (1968/2003) و التي تأخر خلالها الإله آنو في الإستجابة لتوسلات أمهات العراقيين بتخليصهم من طغيان صدام فأخذ المبادرة الرب الأمريكي الجديد الخالق و الراعي القديم لصدام ، و إن بعد لأي . و لم يتوانى الرب الجديد - المعروف بشدة حرارة أسلحة الإيمان و التقوى لديه - بتذكير العراقيين بأن مصالح الأرباب الجدد في قتل العراقيين العزَّل ( أكثر من مليون و نصف المليون قتيل ) ليلاً و نهاراً و سراً و جهاراً ( مع إنجاز أتم تدمير منظم في التـاريخ لبنيتهم الإقتصادية التحتـية و الحضارية بلا وازع و لا رادع ) إنما هي مصالح العراقيين أنفسهم ، و هي كذلك مصالح العالم أجـمع ، و أن العكس هو صحيح أيضاً ؛ و هذا ما يثبت ليس فقط عالمية المبادئ الدينية السـومرية ، بل و كذلك حداثويتها .
      و يؤكد النص الخاص بخلق آرورو لأنكيدو من مادة الطين - و ليس غير الطين - حقيقة هذه العالمية (Universality)( 14) ، و كذلك عالمية فكرة خلق الإنسان على صورة رب السماء(15)، وفكرة تسليط الآلهة للناس على الناس . و لكن الوقائع اللاحقة للملحمة المتمثلة بتحول الصراع بين گلگامش و أنكيدو إلى صداقة أخوية قـوية و تعاون بنّاء تثبت أن إتحاد البشر مع بعضهم من شأنه أن يفسد كل مخططات الآلهـة ، القديمة منها و الجديدة على حد سواء ، شريـطة أن تكون "خدمة مصلحة الوطن " هي أساس هذا الاتحاد و ليس تقاسم الغنائم و الجيف من قبل الوصوليين . و موضوعة خلق الإنسان من الطين هي موضوعة عراقية بامتياز لأن الحضارة القديمة لوادي الرافدين كانت أول و أعظم حضارة طينية في تاريخ البشرية . ويستحق الطين هذه المنـزلة السامية ، فهو الذي حفظ للبشرية طبعات أصابع هذه الحضارة من خلال الرقم الطينية و الآجر والفخار الطيني ، علاوة على تكفله بتوفير المادة الخام المجانية لخلق أعظم مخلوق على الأرض و على صورة رب السماء آنو.
      ولم يكن تنظيم حملات العمل الجماعي وحدها هي التي يشتكي منها أهل أوروك ، حيث يشير نص الملحمة إلى أمر آخر عندما يؤكد على أن گلگامش كان :
      " ... لا يبارى عندما يجرد أسلحته ،
      و على أصحابه أن يبقون وقوفاً في نزالاته ،
      إنه يضطهد شباب أوروك بلا مسوغ..."

      فإلى ماذا تشير الأبيات الثلاثة أعلاه ؟ إستناداً إلى أندرو جورج (1999: xlvii) فإن إحدى إمكانيات تفسير النص أعلاه تكمن في إحالته على مندرجات:
      القصيدة السومرية لبلگامش (16) و العالم الأسفل ، و التي نجد فيها أن شبان أوروك يضطرون لمشاركة بلكلمش في شهيته التي لا تشبع لما يبدو انها كانت مباراة تتطلب بذل جهد جسماني شديد الوطأة ، و هو ما يتطلب من النساء أيضاً أن يقضين النهار كله معهم للأيفاء بمتطلبات ذويهن المجهدين جداً .

      و أميل إلى الإستنتاج بأن المباريات المذكورة أعلاه لم تكن في الواقع إلا تدريبات عسكرية إجبارية لشبان أوروك على مختلف فنون القتال الحربي التي تجري بإشراف گلگامش نفسه ، والتي تتطلب من الشباب الذين أكملوا التدريبات - كيما يُقَرُّ لهم باجتيازها - الوقوف نداً إزاء گلگامش نفسه . و لما كان تحقيق مثل هذا المستوى الرفيع من المقدرة القتالية أمراً صعباً جداً لأن "گلگامش لا يُبارى عندما يجرد أسلحته " ، لذا فقد كان يترتب على شبان أوروك المواظبة على التدريب يومياً و هم "يبقون واقفين في نزالاته" و لفترت طويلة لحين وصولهم الى مستواه القتالي و الوقوف أنداداً له في النزالات الثنائية . و بالنسبة إلى نساء أوروك ، اللائى كن يحضرن هذه التدريبات ليس فقط لخدمة أبنائهن أو إخوتهن المنهكين و إنما كـ "مشجِّعات" لدفع المتدربين على إثبات جدارتهم أمامهن ، فإن فرض مثل هذا المستوى الرفيع من الإنجاز التدريبي القتالي ما هو إلا "إضطهاد لا مسوّغ له لشباب أوروك " أمام أنظار أهليهم ، خصوصاً وأن فشلهم إثبات جدارتهم أمام الجمهور خلال نزالاتهم مع گلگامش هو أمر مشين بسمعة العوائل التي ينتمون اليها .
      و من الناحية التاريخية ، فإن هذا التفسير معقول تماماً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار الوقائع التالية و التي تشير كلها الى الحاجة الماسة لمملكة أوروك الى فرض التجنيد الإجباري لأول مرة في التاريخ لإنشاء جيش عالي التنظيم و التدريب يكون على أهبة الإستعداد للدفاع عن المدينة في أي وقت:

      أ. أن مدينة أوروك ، مثل غيرها من مدن العرق القديم و الحديث الغنية بالموارد و الـثروات ، قد بقيت – طوال عشرات القرون – عرضة لخطر الإحتلال و النهب سواءً من طرف بدو الصحراء من جهة الجنوب-الغربي أو القبائل الجبلية من الشمال-الشرقي .
      ب. تنقل لنا المدونات المسمارية قصة الحرب بين ملك أوروك "إنمركار" – السابق على گلگامش – و بين ملك "أرّاتا" في لورستان ، كما تنقل هذه المدونات أخبار الحرب بين گلگامش نفسه و ﺃﮔّﺎ (17). و أساس الحربين المذكورتين هو إقتصادي بحت و يبين أن علاقة أوروك في عهد گلگامش مع جيرانها لم تكن سلمية دائما.
      ج. أن نفس هذه الدواعي الاقتصادية – غنى أوروك و غيرها من مدن العراق القديم و حاجتها الماسة إلى إستيراد الأخشاب و الحجر و المعادن – هي التي تدفع أيضاً ملوك هذه المدن الى توجيه أسلحتهم شمالاً و شرقاً و غرباً في سلسلة من عمليات الغزو و الغزو المضاد و التي تطلبت إستعدادت عسكرية لا نـهاية لها . و سنرى في الملحمة نفسها تصويراً رمزياً لأحدى هذه الحروب .

      و لابد من الإنتباه هنا الى أن الملحمة ترينا بأن نساء أوروك – وليس الرجال – هن اللائي يقدمن شكواهن للربَّات الإناث في مجمع الآلهة السومري ، وأن هذه الربات الإناث هن اللائي يضغطن على آنو لإيجاد حلٍ لمواطني أوروك ، و هن اللائي يستدعين الإلهة آرورو لخلق غريم لگلگامش . فلماذا هذا الإختيار المتميز للنساء في تبني دور حلّال المشاكل الاجتماعية ، و كذلك تولي خلق الإنسان نفسه ؟ إن الرمزية الاجتماعية لهذه الوقائع واضحة ، فالمرأة هي الأم الرؤوم لكل إنسان ، و هي الراعي الأمين لمصالح الأبناء و المدافع عنهم سواءً في العائلة الأمومية أو الأبوية . و لكن الملـحمة تطور هذا الدور الأمومي لتجعل المرأة راعية لمصـالح البشر في السماء مثلما هي على الأرض ، و هذا مايثبت الجذر الأرضي للآلهة السومرية ، و بالطبع لكل الآلهة . و سنعود الى هذا الموضوع عند مناقشة الصراع بين گلگامش و عشتار . أما نسبة فعل خلق البشر إلى الإلهة الأنثى آرورو فيبدو أنه نابع من تصور السومريين بأن خلق البشر هو "إختصاص سماوي أنثوي" لا يقوى عليه حتى أبو الآلهة آنو ، مثله في ذلك مثل إختصاص الأنثى بولادة الأطفال في العائلة الأرضية . و لذلك فإن آنو يوجه نساء أوروك للذهاب إلى آرورو لخلق أنكيدو و ليس لغيرها . وموضوعة إختصاص إلهة أنثى بخلق الإنسان تنطوي على تفهم عميق للدور البايولوجي-الإجتماعي للجنس الإنثوي في مجمع الآلهة بإعتباره الإنعكاس السماوي لمجمع العائلة الأرضي .
      مرَّ بنا سابقاً وصف التقاء شمخة (ألتي تمثل حضارة المدينة) بأنكيدو ( البرّي المتحول الى حارس ليلي للماشية ) ، أما كيفية تلاقي أنكيدو بگلگامش فترويه الملحمة عبر قصة صراع معقد آخر :

      و فيما كان أنكيدو يمتِّع نفسه بشمخة ،
      رفع عيناه ، فأبصر رجلاً .
      فخاطب أنكيدو شمخة قائلاً :

      "ياشمخة ، إذهبي فأحضري ذاك الرجل ،
      و دعيني أعرف سبب مجيئه الى هنا ."
      نادت شمخة على الرجل ،
      و تقدمت إليه و كلمته :

      " إلامَ أنت مسرع يا رجل ؟
      و أين العزم ، عزمك الشاق هذا ؟"
      فتح الرجل فاه و خاطب أنكيدو قائلاً:

      " لقد دُعيت الى وليمة عرس ،
      لأن قسمة الناس هي عقد القِران .
      و سأملأ مائدة الحفل
      بالاطعمة الشهية لوليمة العرس .

      أما بالنسبة لملك أوروك المسوّرة ،
      فإن الغشاء يفتضه الحاصد الأول .
      نعم ، بالنسبة لگلگامش ملك اوروك المسوّرة ،
      فإن الغشاء سيفتضه الحاصد الأول .

      فهو الذي يجامع عروس المستقبل ،
      يجامعها هو الأول ، و عريسها من بعده .
      كتب علينا هذا بمشيئة قدسية :
      "عندما قطعوا حبل سرته ، وهبوا العروس له !" "

      فاكفهر و جه أنكيدو غضباً من كلام الرجل
      .......
      .......
      و مضى أنكيدو تتبعه شمخة .

      دخل ميدان مدينة أوروك ،
      فتجمّع حوله حشد من البشر .
      وقف في شارع أوروك المسورة ،
      و الناس يتحلقون حوله و يناقشون أمره .

      " أن بنيته هي بنية گلگامش ،
      و إذا كان أقصر طولاً منه ، فإن عظمه هو الأقوى .
      لابد أنه ذلك المولود في الجبال ،
      و الراضع لحليب الوحوش ."

      أقيمت في أوروك الاحتفالات بانتظام ،
      و امتلأ الشبان بالفرح وقدموه بطلاً :
      لكي يباري الرجل الكامل الأوصاف ،
      لكي يتحدى گلگامش نداً كالإله .

      و هُيءَ السرير لإلهة الأعراس ،
      كي يلتقي گلگامش بالعذراء مساءً .
      فتقدم أنكيدو و وقف في الدرب ،
      و أغلق الطريق بوجه گلگامش .

      وقفت أوروك حوله ،
      و تحلّق أهلها عليه ،
      و تدافع الجمع أمامه ،
      و تناكب الرجال حوله .

      ومثل الرضيع في الأحضان راحوا يقبلون أقدامه ،
      كان الكامل الأوصاف قد ....
      و لإلهة الأعراس كان السرير مهيأً .
      و أصبح لگلگامش كالإله البديل .

      سدَّ أنكيدو بقدمه باب دار العرس ،
      مانعاً گلگامش من الدخول ،
      و اشتبكا مع بعضهما عند باب دار العرس ،
      و تصارعا في الشوارع و في الميدان .

      إنخلعت أعمدة الباب و اهتز الجدار ،
      [ و تصارعا في الشوارع و في الميدان . ]
      [ و انخلعت أعمدة الباب و اهتز الجدار .]
      ......
      إنحنى گلگامش و إحدى قدميه على الأرض ،
      و زال عنه الغضب ، فأوقف النـزال .
      و بعد أن أوقف النـزال ،
      خاطبه أنكيدو ، قائلاً لگلگامش:

      "أنت الذي ولدتك أمك متفرداً ،
      إنها البقرة البرية الراعية ، الإلهة ننسون !
      إنك الأعلى مقاماً فوق كل الأبطال ،
      فقد جعل إنليل مصيرك أن تكون ملك الناس !

      .....
      لم ترغب بفعل هذا الأمر ؟
      .... أي ِشىء .... تريده بهذا الافراط ؟
      دعني ......
      مأثرة لم يحققها بشر على وجه الأرض ."

      فقبّل أحدهما الآخر و انعقدت أواصر الصداقة بينهما.

      و هكذا ينتهي الصراع التناحري بين بطلي الريف و المدينة بانعقاد سلام الشجعان الذي أصبح يتمتع به شـعب أوروك . و الإنتصار المتحقق هنا متعدد الوجوه . فهناك أولاً إنتصار أنكيدو ، و معه عرسان أوروك ، بحمله گلگامش على الإقلاع عن عادة ممارسة حق الليلة الأولى الكريهة . و هنـاك إنتصار أمهـات شباب و شابات أوروك اللائي لن يجـبر گلگامش أبناءهن على أعمال السخرة و التدريب العسكري القاسي مستقبلاً . و هنـاك إنتصار گلگامش و أنكيدو اللـذين ربـح كل واحد منهما الآخر بفضل إيثار گلگامش التصرف كرجل ماجد يغلِّب مبدأ التوافق الإنساني على أمجاد الإنتصارات الخاوية و ذلك بروح رياضية عالية و نادرة المثال جداً في الأدب القديـم . و مع هذا الصلح تبدأ الملحمة بتقديم ليس گلگامش المحارب البطل إزاء أنكيدو إبن البرية الداخل تواً قفص المدنية ، بل تقدم لنا گلگامش-أنكيدو خلال صيرورة يتحولان فيهما إلى شخص واحد برأسين هو رأس السياسي الناجح القادر على تحويل التحديات المصيرية إلى فرص للنجاح على الصعيدين الشخصي و الشعبي . و لابد أن الآلهة قد هنـأت نفسها هي الأخــرى - كالعادة - على تفادي فشل مخططاتها الترقيعية ، بفضل تكفُّل الإنسان العاقل بإصلاح حماقتها المتمثلة بجعلها شعب أوروك المسالم يبتلي بصنيعتها الطاغية گلگامش . ويعود الفضل الأول في كل هذه الإنتصارات إلى المعلمة الماجدة شمخة التي سبق لها و أن حذرت أنكيدو من "الأفكار الآثمة" الجاهزة ضد گلگامش "الأثير عند شمش المقدس" و الذي "حبته الآلهة العظيمة بالحكمة الواسعة" ، مما رسّخ في ذهن أنكيدو ليس فقط فكرة قبول الآخر بل و كذلك الإستعداد الشجاع للإعتراف المـخلص لـه بتفرده و بملوكيته و مقابلة روحه الرياضية و الحضارية العالية بمثلها. و هكذا فأن انتقال أنكيدو الى أوروك يؤشر آخر مرحلة من مراحل تطوره الإجتماعي و الذي يـَختَتِم بايجاز فني رفيع قصة إرتقاء البشر في كل أرجاء العالم من مرحلة الوحشية ، الى الرعوية ، الى التمدين و التماهي مع رأس السلطة .
      لا بد لنا من التطرق إلى أحد التجليات الفذة للفكر الجدلي السومري في الملحمة و المتمثلة بتفعيل و احدٍ من أهم أساليب الإشتغال الإجتماعي لقانون وحدة و صراع الأضداد و الذي تقدمه لنا الملحمة على نحو متقدم زمنياً و بوعي سردي واقعي لا يضاهى في كل الأدب العالمي القديم و حتى بعض الجديد . فلدينا أولاً الصراع الإجتماعي ضد ظلم الملك گلگامش ، و هو أساس إنطلاقة الفعل الدرامي في الملحمة برمتها لكون الهدف الأول للسرد هنا هو وضع حد للظلم الإجتماعي للملك و ليس حسم قضية شخصية مفبركة مثل إختطاف "هيلين" من طرف عشيقها "باريس" حسبما تعرضه الإلياذة (الصحيح : هروب هيلين برضاها مع حبيبها باريس) ، و لا تعدد طالبي يد "بنبلوبي" للزواج إثر إنشغال زوجها "عوليس" بالتمتع بأحضان الحوريات بعيداً عنها مثلما تعرضه الأودسة . الموضوع هنا يخص إحتجاج الشعب الحر ضد ظلم الحاكم المتجبِّر الذي يغلِّب مصلحته الذاتية على مصلحة المجتمع ، أي أن هدف الفعل الملحمي هو تحقيق المصلحة الإجتماعية و ليس الثأر للكرامة الشخصية المهدورة . و الحل للظفر بالعدالة الإجتماعية مثلما يقدمه نص الملحمة بإيجاز لغوي و فكري بليغ هو : "خلقُ ندٍ لگلگامش : رجلٌ شديد البأس ، ينافس گلگامش ، فترتاح منه أوروك " . هنا لدينا أقدم و أروع تجلي فني لتوظيف دور فكرة صراع المتضادات في رفع الظلم الإجتماعي عن طريق التراضي بتغليب الموضوع على الذات . و الصراع المعروض هو من نمط خلق المضاد (أو المعادل) الإيجابي و ليس السلبي (مثل أرسال "جيمس بوند" مدججاً بمختلف أنواع الأسلحة مع إجازة بالقتل المجاني لكل مناوئي ملكة بريطانيا / الصحيح هو أن شخصية جيمس بوند بناها :إيَنْ فْلَمِنگ إستناداً لشخصية مخابراتية بريطانية كانت مثار إعجابه هو وكل رجالات المخابرات الإنگليز ثم ظهرت بعدئذ أنها كانت تشتغل دوماً لمصلحة المخابرات السوفيتية ). و المقصود بالمضاد الإيجابي هو ليس إزاحة الغريم بالقتل (مثلما سنرى في قتل خمبابا) ، أو بفناء المتضادين (مثل مقتل هاملت و عمّه) ، بل بالإحتكاك الشديد به و بما يؤمن تسليط صدمة قوية عليه تجعله يستفيق من غيّه و يعي ظلمه الإجتماعي فيرعوي عنه ما دام حليماً ذا نظر . و المغزى هنا هو إدراك أن للإنسان – كل إنسان – صفاته الإيجابية الخيّرة إلى جانب شروره ، و كل هذا في إطار وحدة واحدة لا إنفصام لها . كما توضّح الملحمة كون أن الأمر الحاسم في تغليب أفعال الخير على الشر (أو بالعكس) يعود إلى وعي الإنسان (أو عدم وعيه) لضرورة تغليب مصلحة المجتمع على مصلحة الذات عبر التجاريب و الأحداث و النظر البعيد خارج إسار المصالح الفردية التي لا يمكن أن تتحقق أبداً بالضد من مصلحة الجماعة مثلما يقول المثل الشعبي العراقي : لا خير في شجرة لا تظلل أهلها . و لهذا نجد أن أنكيدو الحر لا يثور ضد گلگامش لتحقيق مصلحة ذاتية ، و أن گلگامش لا يُجهز على غريمه أنكيدو كي يواصل إمتاع نفسه بالعرائس العذراوات رغم توفر المسوّغ الديني له لفعل ذلك . الملحمة هنا تمجّد الأنسان و تنتصر له بإعتباره أثمن رأسمال ، و تُجَوهِر الطيبة الأصيلة لديه من خلال إستيعاب جدل تحقق مصلحة الذات بتحقيق مصلحة الجماعة مثلما سنرى بعدئذ في غزوة جلب خشب الأرز لشعب أوروك ، أو الغوص في أعماق البحر لجلب نباة الحياة لشعب أوروك و ليس لگلگامش وحده . ثم إن لدينا ثانياً فكرة وحدة الأضداد خارج نطاق المصالح الذاتية عن طريق إتحاد البشر مع بعضهم (گلگامش مع أنكيدو ، و گلگامش و أنكيدو مع شعب أوروك) لتحقيق المصالح الإجتماعية المشتركة . و كل هذا يحصل في إطار واقعي بعيداً عن النمطية الدرامية التي تعتمد مبدأ مواجهة البطل الخيِّر كلياً بالغريم الشرّير كلياً ، و حسم الصراع بانتصار الخير المحض على الشر المحض أو بالعكس . الصراع هنا يتحول إلى فكرة إتحاد قوى الشعب المندمجة المصالح للصراع ضد المصالح الخارجية .

      و يشير النص أعلاه الى طقسين مقدسين في أوروك : أولهما حق الملك بالليلة الأولى ، و ثانيهما الزواج الإلهي المقدس . و لهذين الطقسين جذراً اقتصادياً-إجتماعياً واحداً ؛ فقد سبق الحديث عن موضوع ربط العراقيين القدماء لفكرة الجماع بالحكمة ، و قد تبين الجذر الاقتصادي لهذه الفكرة . و شبيه بهذا الربط هو ربطهم فكرة خصوبة المرأة بخصوبة الأرض و كثرة المياه و الزرع و إنتاج الماشية بإعتبار أن منشأ كل هذه الأشياء واحد و هي الإرادة المكينة للآلهة. حيث توضح لنا "قصة الخليقة البابلية" أنها – أي الأرض – قد خلقت هي الأخرى من جسد إلإلهة "تعّامة" و التي هي الأم الأولى لكل الآلهة ، و هي كذلك أم كل البشر الذين خلقهم إنليل/مردوخ من دماء إبن تعّامة و زوجها الإله القتيل "كنگو" (18). هذا هو أصل قصة كون الأنسان ليس إلا "بضعة" او "وجهاً من أوجه " الآلـهة - و التي تُقلب فيها الحقائق ، حيث يتحول فيها البشر من خالقين للآلهة الى مخلوقين من طرفها - و هو أيضاً منشأ فـكرة " الخطيئة الأولى" للبشر المخلوقين من دماء إله نجس رجيم هو كنگو. وهكذا يرث الإنسان نجاسة الآلهة ، و لذلك يتوجب عليه – كوريث ملتزم – أن يسدد ديون وتبعات هذا الميراث المقسوم طوال عمره .
      و بموجب هذا التصور ، فإن خصوبة النساء و خصوبة الأرض و الرفاه الاقتصادي للسكان هي أمور مرهونة بالإرادة الطيبة للآلهة تجاه البشر ، و هي إرادة متقلبة المزاج و لا يمكن الركون اليها دائماً . و تتطلب عملية إدامــة هذه الإرادة الطيبة تقديــم العباد للأضاحي و النذور بإستمرار ، مع أداء سلسلة معقدة من الصلوات و الطقوس في أوقاتها المحددة على مدار السنة . و لمّا كان الملوك من أولي الأمر هم الممثلين الشرعيين للآلهة على الأرض و فقاً للآيديولوجية السياسية الدينية للعراق القديم ، لذا فقد إختص هؤلاء الملوك بأداء واحد من أهم هذه الطقوس ، ألا وهو طقس الزواج الإلهي المقدس ، و الذي يقوم فيه الملك - باعتباره بديلاً مجسداً للإله - بالإتصال جنسياً في الغرفة المقدسـة (و إسمها قدس الأقداس ) بالإلهة إنّانا ( عشتار ) في بداية فصلي الربيع (الأول من نيسان) و الخريف (الأول من آب) لضمان موسـم إنتاج زراعي-رعوي مجزٍ ، و ذلك بموجب أعياد دينية رسمية بهيجة يحتفل الشعب المتقي فيها بكل ورع و إخـلاص و إندماج . و تمثل الإلهة إنّانا (عشتار) هنا عادة عذراء شابة من المنذورات أو اليتيمات اللائي يتربين داخل المعبد أولاً ، ثم يصبحن كاهنات فيه . و يـنظِّم فنانو المعبد أغنية حب شبقة تؤديها العروس بهذه المناسبة . و قد وُجد نص إحدى هذه الأغاني الممجدة للجمال و الحب و التي ألقتها العروس التي قامت بدور الإلهة إنّانا في زمن الملك السومري "شو- سن" و التي نشرها كريمر عام ( 1956 )(19). و بموجب الفكر الديني السومري ، فإن خصوبة كل شيء على وجه الأرض خلال الفصل القادم ، من النساء إلى التربة و المواشي ، مرتـهنة بممارسة الملك و عروسه لهذا الطقس على أحسن ما يرام . أما إذا فشل الملك في إسترضاء الآلهة ، و بانت نذر الشؤم لغضبها عليه ، فإن هناك طقس "المـلك الـبديل" و الذي من شأنه ترضية الإلهة و تجاوز غضبها على الملك (20).
      و لكن ماذا عن خصوبة العروس التي تتزوج حديثاً ؟ من الذي يضمن أنـها لن تكون عاقراً ؟ و من هو المُجْير الشفيع للبشر الخطّائين في كل شيء لو أن الآلهة الغاضبة عليهم - لذنوبهم الكثيرة طبعاً - قد إختارت أن تصيب العرائس الجدد بالعقم ، أو على أطفالهن بالإجهاض أو الموت المبكر ؟ يجيب الفكر الديني السومري على نحو مقنع تماماً للعباد الخطّائين و المتَّقين بأن من شأن إفتضاض العروس الجديدة من طرف الملك – ظل الآلهة على الأرض – في يوم عرسها أن يضمن الخصوبة لها ويبارك في نسلها ، بأمر الآلهة المكينة طبعاً ، مثلما يؤدي أداء الملك لواجبه الديني كإله بديل في طقس الزواج الإلهي له إلى ضمان الخصب على وجه الأرض . و عندما يتولى زمام الحكم فحلٌ طاغية من طراز گلگامش ، فإن الأمر لا يتطلب غير فبركة بعض الملاحق الأسطورية للإطار الديني العام و المـعترف به بخصوص إمتياز الملك الخاص بالاتصال المباشر بالآلهة لـكي يتحول حق الليلة الأولى إلـى "سُنّة" من السنن الدينية الواجـبة الإتبـاع . و في حالة گلگامش ، فإن التسويغ الآيديولوجي الذي تفتق عنه الفكر الديني السومري القديم لهذا الحق هو تلقين المواطنين الأتقياء قرار الآلهة بكونها قد "قضت بوهبه عبادها من العرائس منذ أقتطاع حبل سرته من رحم أُمه الإلهة ننسون" . و ما دامت الآلهة قد منّت على عبادها بوهبهم شبه إله عظيم كــگلگامش يسهر على مصالحهم ، لذا فأن واجب العرفان بالجميل يحتم على هؤلاء العباد الإمتثال لقرار الآلهة تحصيل هبة بشرية له بالمقابل . و بالطبع فإن قرارات الآلهة لا تقبل المناقشة لكونها واجبة الإتباع دائماً إذا ما أراد البشر التمتع بالخير الوفير الناجم عن رحمتها لهم ؛ فالبشر ملك لها ، و من حق المالك التصرف وفق ما يشاء بملكيته . و الغريب أننا لا نسمع شيئاً عن أفعال أو ردود أفعال زوجة گلگامش (أو زوجاته في الواقع مثلما ستشير الملحمة عرضاً إليهن ) في الملحمة رغم أن التاريخ و الملحمة يشيران إلى زواجه و وجود إبن له . و يرجَّح غياب أي ذكر متميز لها في أحداث الملحمة لحد الآن فرضية عـدم وجـود دور درامي فاعل لها . و لا بدّ أنها كانت تُـؤْثر الصمت السلبي – مثل غيرها من بنات جنسها المظلومات في المجتمع الذكوري عبر التاريخ – حفاظاً على كرامتها إزاء عادة زوجها المقدّسة في فصل فعل الحب عن فعل الجنس(21).
      و يوضح الوصف السابق طبيعة الحل الذي يقدمه الفكر الديني السومري لواحدة من أهم و أعقد المعضلات الفكرية في كل الأديان ألا و هي كيفية ترتيب العلاقة التواصلية بين العباد و الرب . و تكمن صعوبتها في المفارقة الواضحة الكائنة بين الواقع المادي و الملموس للإنسان-العبد و لوسائطه التواصلية مع الآخر من جهة ، و بين الوضع اللامادي و "الروحاني" لتصور الإنسان عن كينونة الأرباب و التجليات المقنعة لوسائلهم الإتصالية مع عبيدهم من البشر ، من جهة أخرى . و الحل المختار هنا – و المتمثل بإصطفاء قسم من البشر ممن يُمنحون إمتياز هذا الأتصال المباشر – يوضح الطابع المادي و الأرضي الملموس لتجلي هذه العلاقة السماوية عند السومريين . و يمتد طيف هذا التجسيد بين: أ) تخوم التأليه المباشر للإنسان-المثال صاحب الإمتياز ( الزعيم السياسي أو الديني أو السياديني) ؛ و بين : ب) حدود التقديس بالإنابة أو بالوساطة لهذا الإنسان-المثال عبر ما تتيحه منظومة الطـقوس الخاصة بالعبادة المعينة من و سائل تحقيق هذا الأتصال بالإنابة لسماع إرادة الرب ؛ و ج) بين الإتصال البشري المباشر بالرب ، أو الجمع بين هذه المنازل كلها . و لاتتيح الأديان المعاصرة إختيارات تتجاوز هذه الحلول للإتصال بالرب ، و إن كانت تكرّس نوعاً "شرعياً" واحداً أو نوعين على حساب النوع الثالث ، لتختلط بمضي الأزمان كل هذه الأنواع من جديد . و تمثل أم گلگامش ، الإلهة الثانوية ننسون ، التطبيق العملي لفكرة الإتصال بالآلهة العظام عبر البشر المؤلهين ؛ فيما يمثل إبنها گلگامش أسلوب الأتصال بتلك الآلهه نيابياً عبر الشفعاء الأثيرين و القريبين إليها ، في حين يتمثل الإتصال المباشر للإنسان بربه بفكرة "الإله الشخصي" . و تتطابق هذه الأساليب التواصلية الثلاثة مع التنوعات الممكنة لشخصيتي المتكلم و المخاطَب و/أو المستمع في الواقعة الكلامية (speech event) بين الشخص الأول (أنا - نحن) ، و الثاني (أنتَِ - أنتم) ، و الثالث (هو - هم) . كما تتطابق الأولوية في اختيار هذا الأسلوب التواصلي أو ذاك مع المصالح الإقتصادية السياسة للطبقة الحاكمة أو الثائرة على الحكم . و الجدير بالذكر أن كل الثورات الدينية في العالم تنحصر بمسألة شرعنة أو تحريم هذا الأسلوب التواصلي مع الرب بدلاً من ذاك ؛ وكل قوم بما لديهم فرحون . و كائناً ما كان إسلوب الإتصال المعتمد ، فإنه لا يسمح له بالأبتعاد كثيراً عن رجال الدين ، لكي تتاح لهم سلطة إستثمار مركزية الطقوس الدينية لتيسير الوساطة بين الإنسان و السماء كوسيلة لإكتساب النفوذ و السيطرة المادية و الإجتماعية و السياسية .
      و أخيراً ، لابد من الإشارة إلى أن الصراع الإقتصادي – السياسي الناجم عن تداخل المصالح و الأدوار بين المعبد الرئيسى و قصر الحاكم في العراق القديم – على الأقل منذ عهد گلگامش و حتى عهد آخر ملك عراقي مستقل قبل الإحتلال الأخميني ، و هو نبونهيد (539-556 م) – كان غالباً ما يصار إلى "تكامله" عبر ترتيب إقامة رابطة أُسرية بين قيادتي المؤسستين عن طريق تسنم إبن الكاهنة العظمى للمعبد الرئيسي رئاسة السلطة ؛ أو بالعكس ، أي تعيين الملك لإمرأة من أهله لقيادة المعبد الرئيسي في الدولة . و في أزمان الإنحطاط السياسي ، أو خلو العرش من المنافسين الأقـوياء ، فإن المعبد كان في أغلب الأحيان هو مركز القوة الذي يوفر المرشح المناسب لسد هذا الشاغر.
      و يكنّي نص الملحمة أم گلگامش ، ننسون ، بلقب "البقرة البرية المقدسة" ، و هو باللفظ الأكدي "ريمات" ، أي "الريم" بالعربية . و لكن لماذا هذا الإختيار لرمز الريم أو غزال البر بالنسبة للأم-الإلهة ؟ بتقديري أن هذا الإختيار مقصود بالنسبة للإلهة الصغيرة ننسون ، وذلك للأسباب التالية :
      • إرتباط رمز الريم بالجمال و بالبراءة و الرشاقة و سرعة الحركة و التمنع و بعد المنال ، بالتالي بأقصى التفرد المثالي المنشود للإنثى في مجتمع الرجال الشرقي حتى وقتنا هذا .
      • كون الريم هي أم الثور البري (گلگامش) ، رمز القوة و الصبر و الفحولة ، و قد إرتبط الثور في العراق القديم بالآلهة الذكور على الدوام .
      • إرتباط رمز الريم البري بفكرة الحرية و رفض العبودية و التدجين .
      • إرتباط الريم بـ "العين الواسعة" و التي ترمز عند السومريين إلى سعة الفهم و بعد النظر ، و لذلك نجد أن العيون تهيمن على مايقارب ربع بُنية وجوه التماثيل الصغيرة لآلهتهم . و الجدير بالذكر أن الملحمة تبدأ بوصف گلگامش بكونه "هو الذي رأى كل شيء"، اي الواسع التجربة و الفهم . و من المعلوم أن علماء اللغة المحدثين (مثل سويتسر ، 1992) يلاحظون إرتباط حاسة البصر في أغلب لغات العالم بالفهم و العلم .

      ملاحظة : شرح الهوامش سيرد في الجزء الأخير
      قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

      Comment

      • نجمة الجدي
        مدير متابعة وتنشيط
        • 25-09-2008
        • 5278

        #4
        رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

        الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /4


        2/ الغربة (Estrangement)

        بَعْد المصالحة بين أنكيدو و گلگامش ، يأخذ گلگامش صديقه الجديد الى معبد "إي-أنا"، و يقدمه لأمه الكاهنة العظمى ننسون قائلاً :

        "هو ذا البطل الأقوى في البلاد و المكين ،
        إن قوته مثل قوة الشهاب النازل من السماء ،
        و هو فارع الطول ، و باسل في القتال ."

        فتحت أم گلگامش فاها و تحدثت
        قائلة لگلگامش ...

        "يابني .... في بوابته
        بمرارة أنت .....
        .................
        إنك تمسك .....
        .... في بوابته ....
        بمرارة هو ........
        ليس لأنكيدو أهل و لا أقارب ،
        و شعره الكث ينسدل بلا هندام ،
        إنه مولود في البرية و ليس له أخ ."

        واقفاً هناك ، أصغى أنكيدو لكلامها ،
        و راح يتفكر به ، ثم قعد و انتحب ،
        و اغرورقت عيناه بالدموع ،
        و فُتَّ في عضديه ، و تلاشت قوته .

        أمسكا ببعضهما و ....
        و عقدا كفيهما مثل .....
        گلگامش .....
        و خاطب أنكيدو قائلاً:

        "يا صديقي ، لم اغرورقت عيناك بالدموع ؟
        و قد فُتَّ في عضديك و تلاشت قوتك ؟"
        رد أنكيدو عليه ، على گلگامش:
        "يا صديقي ، إن الحزن يأخذ بمجامع قلبي ...

        و عندما أنتحِبُ فإن رجليَّ ترتجفان ،
        و يتغلغل الرعب في فؤادي ."

        يصوّر النص المخروم أعلاه مأساة أنكيدو : إبن البرية الحر والمتفرد ، المجلوب من التلال و مجمعات الرعاة الريفية الى المدينة العاصمة حيث التيه وسط أهلها الغرباء ، الذين عقّدتهم الحضارة ، و ولّدت لديهم مسلمات متحذلقة عن مواصفات الأنسان المحترم تجـعلهم ينظرون اليه نظرة دونية بسبب منشأه غير المديني . و لذلك نجد أن أم گلگامش لا تتوانى – بحضوره – عن وصفه بكونه إنساناً مقطّع الجذور لا عزوة له و " لا أهـل له و لا أقارب" ، كما تعرِّض به لعدم لياقة مظهره بسبب "شعره الكث المنسدل بلا هندام" ، و لكونه "محروم الأخ" الذي يستطيع شد أزره . و ما يزال البدوي و أبن الريف العراقي حتى زماننا هذا رمزاً للغباوة ، و لـ "فقدان الأصل" ، و عدم النفع ، و موضوعاً للتندّر عند بعض أبناء المدينة .
        هذه الماساة تبرر إعتبار أنكيدو أقدم و أعظم شخصية تراجيدية متغربة في تاريخ العالم ، لكونه أول حالة موثقة للغريب الشهم المقطَّع الجذور المستدرج إغواءً من البيئة الحياتية-الإجتماعية التي كرّس نفسه لها و التي يحن اليها إلى بيئة "غريبة" لا يحس أنه ينتمي اليها و لا يستطيع ممارسة وظائفة المحببة اليه فيها أو التي يشعر أنه قد خلق للإيفاء بها . والرمزية واضحة في عبارات أنكيدو الذي يحس فجأة بغربة الإنسلاخ الإجتماعي عن وسطه حال سماعه كلمات الكاهنة ننسون ، و هذا الإحساس يصيبه ليس فقط بالضعف الجسدي الشديد – لعدم وجود هدف رفيع ينجزه – بل و أيضاً بالإحباط النفسي ، و بالكآبة لهذه النظرة الدونية غير المبررة نحوه ، و التي تجرح كرامته ، و هو ما "يجعل الرعب يتغلغل في فؤاده" . فهو لا يستطيع أولاً فهم سبب اعتبار أهل المدينة-العاصمة أن الحرمان من الأهل و الأخوان لبطل مقدام – و مكتفٍ ذاتياً – من طرازه منقصةً لشخصه ، و لا السبب في إعتبارهم شعره المنسدل بلا هندام سُبَّةً له . و ليس هذا بالأمر الغريب عن ثقافة المجتمع المديني العراقي القديم و الحديث و الذي يشهد تاريخه الطويل على مآسي غربة الآلاف من أبناءه العظام المرتحلين من الريف إلى المدينة حيث يتحولون الى أُضحوكة المجالس هناك رغم مواهبهم الفذة حسب مقولة "من ترك داره قَلّ مقداره". و تليق بهؤلاء كنية "الآلهة الغريبة المغدورة" ، حيث تثبت سير حياة العديد منهم أنهم مخلوقات متفردة و قديسة بكل المقاييس . و في حالة أنكيدو إزاء ننسون ، نجد أحدى أبكر تجليات الفكر الإجتماعي المديني التزويري المبني على "وصم الإنسان" أولاً بالنقصان كوسيلة للتدجين ، و من ثم – بعد تجذر هذا الوعي بتعقد المجتمع الخانع المدجن – تعظيم هذه الذات الإجتماعية المدجنة بالإستعلاء عن طريق "وصم الآخرين" من الأغيار بالدونية ، بدلاً من إعتبار الإنسان قيمة عليا تتفوق على قيمة كافة الظواهر الطبيعية الأخرى ؛ و كل قوم بما لديهم فرحون .
        و السبب الثاني لمأساة أنكيدو يتأتى من عقابيل الوعي بالنقصان نتيجة تأثره المحتوم بثقافة "قطيعه الجديد" في المدينة العاصمة لأن الوضع الإجتماعي هو الذي يحدد الوعي الإجتماعي . فإذا كانت أم صديقه الملك گلگامش - الإلهة الحكيمة و الريم البرية ننسون - على قناعة تامة بأن أنكيدو ليس "كـامل الأوصاف" و لا "عظيماً مثل الإله" (حسبما سبق لشمخت و أن أكدت له ذلك) بدليل "عدم إمتلاكه للعـزوة و المظهر اللائق" ، فلا بد أنها تقول الحق . و لذلك فإن الواقع يفرض على أنكيدو أن يعي حالاً هذه الحقيقة العارية بكل مرارتها . و الوعي المفاجيء بالحرمان أو النقص القَدَري الكائن خارج حدود الإرادة الذاتية أمر مأساوي دائماً لدى العظماء . و يدرك گلگامش مأساة أنكيدو المركبة هذه ، و حاجة صديقه الماسة الى القيام بعمل فذ يعيد النشاط إليه و يستعيد أمجاده فيزيل الغم عنه ، و لذلك فأنه يسارع الى مـواساته كصديق ، و يتخذه أخاً له ، و من ثم يقترح عليه مصاحبته للسفر الى غابة الأرز لقتل حارسها التنين الشرير "خمبابا" ، و هذا هو موضوع الفصل التالي . إن ستراتيجية گلگامش هذه بالغة الأهمية ، فهي تقارع فكرة "وصم الآخر" بفكرة إعتبار الأنسان – كل إنسان – سيد مصيره ، و سأعود إلى هذا الموضوع عند الكلام عن گلگامش بعد موت أنكيدو.
        و لكن كيف نفسر موقف ننسون في إشارتها المباشرة و المتعمّدة الى كون أنكيدو شخصاً مـحروماً من العزوة و من الأخوة و من لياقة المظهر ؟ أكبر الظن أن إشاراتها هذه قد جاءت ضمن إطار ستراتيجية تداولية محسوبة لتوعية أنكيدو بما هو محروم منه أولاً ، و من ثم تدجينه بجعله يمتن لها و لگلگامش اللذين سيأخذان على عاتقهما مهمة تعويضه عما هو محروم منه مثلما سنرى . و عندها لا بد لإبن البرية البريء و الشهم أن يخلص كل الاخلاص لأولياء نعمته الجدد ممن يسدّون خواء الغربة عنده و يعيدون إليه ثقته بنفسه ، ولذلك نجد أن النصوص السومرية الأقدم للملحمة تصف أنكيدو بإعتباره خادماً لگلگامش و الأدنى مرتبة من الصديق المؤاخي له ( 22) .أما كيف يمكن التوفيق بين هذا الوعي المديني المتعالي لننسون على ربيب البر أنكيدو و بين لقبها الشعبي-الأسطوري-الديني "ريم البر" فهذا إشكال لا حل له ، و هو أحد مظاهر المعضلة الأزلية المميزة لكل الأساطير الدينية المبنية على الذاكرة الإجتماعية-الفولكلورية الهلامية ، و على الغموض و التناقض بإحتمال هذا التفسير أو ضده ، أو حتى اللاتفسير ، ضمن إطار هيمنة ثقافة التقديس المطلق للأفكار الميتافيزيقية . ولكن هذا الإشكال يُظهر أيضاً أن وعي ننسون – في نهاية المطاف – هو وعي مؤسسي مديني مدجَّن و مخلص تمام الإخلاص لمصالح المعبد و الدولة و المجتمع ، ولهذا فإنه يتعالى على الوعي المثالي و البراءة الذي تتأسس عليه آيديولوجيته . و حيال مثل هذا الوعي التسلطي ، فإنه ليس ثمة أمل لأنكيدو غير الأنصياع و التسليم بوعي قطيعه الجديد ما دام قد إختار – مرغماً – إنتماءً جديداً له . و سنرى بعدئذٍ كيف أن وعي أنكيدو للإختلاف بين وضعه القديم والجديد يحرك تطوره الذاتي ، و من ثم تطور فعله الدرامي-الملحمي-التاريخي .

        3/ التكامل

        فتح گلگامش فاه
        قائلاً لأنكيدو:
        ..............
        ".... خمبابا الشرس ،
        لنذبحه فتزول قوته !

        في غابة الأرز يسكن خمبابا ،
        لنخيفه في موطنه !"
        فتح أنكيدو فاه ،
        قائلاً لگلگامش :

        "لقد سبق لي ، ياصديقي ، و أن عرفته في المرتفعات ،
        عندما كنت أجوب هنا و هناك مع القطيع .
        هناك تمتد الغابة المجهولة مسافة ستين فرسخاً ،
        فمن الذي يجروء على الولوج إليها ؟

        أما خمبابا ، فإن صوته هو الطوفان ،
        و خطابه هو النار ، و زفيره هو الموت .
        فما الذي يجعلك تريد القيام بهذا الأمر ،
        إنها لمعركة مستحيلة أن تكمن لخمبابا."

        فتح گلگامش فاه
        قائلاً لأنكيدو:
        "سأتسلق يا صديقي منحدرات الغابة ."
        ..
        فتح أنكيدو فاه قائلاً لگلگامش :
        "ياصديقي ، أنّى لنا الذهاب إلى موطن خمبابا ،
        و هو حامي غابة الأرز الذي
        حباه إنليل بالمقدرة على إرعاب الرجال ؟"

        "تلك رحلة لا ينبغي القيام بها ،
        وخمبابا رجلٌ لا ينبغي النظر إليه .
        فحارس غابة الأرز طويل الباع ،
        إنه خمبابا ، و صوته هو الطوفان .

        خطابه هو النار ، وزفيره هو الموت ،
        و هو يسمع همس الغابة على مبعدة ستين فرسخاً .
        فمن الذي يجرؤ على دخول غابته ؟
        الإله أدد في المنـزلة الأولى ، وخمبابا هو الثاني .

        و من الذي يعارضه من بين آلهة الإگيگي ؟ (23)
        و لكي يحمي غابة الأرز ،
        فقد حباه إنليل بالمقدرة على إرعاب الرجال ،
        فإن توغلت في غابته فستأخذك الرعشة ."

        فتح گلگامش فاه للتحدث
        قائلاً لأنكيدو:
        "مالي أراك يا صديقي تتحدث بحديث الضعفاء ؟
        إن كلماتك الخائرة تثبط عزمي .
        .....
        [ أين هو الإنسان الذي يستطيع ألإرتقاء إلى السماء ؟
        و حدها الآلهة تحيى خالدة مع الشمس .]
        أما البشر فأيامهم معدودات ،
        و أفعالهم كلها ذاهبة في مهب الريح .

        [كيف يحصل هذا ؟
        إنك خائف و نحن مازلنا هنا !
        سأتقدم المسيرة و إن كنت مليكك ،
        فتهتف بي : تقدّم فلا خوف عليك .

        فإن سقطت فسأترك بعدي إسماً خالداً ،
        و سيتحدث الرجال عني قائلين:
        إن گلگامش قد سقط في ساحة المعركة
        ضد خمبابا الرهيب .

        و لآماد طويلة بعد مولد ذريتي في بيتي ،
        سيلهجون بذلك و يتذكَّرونني ."]

        "أنت الذي ولدت و ترعرعت في البرية ،
        و حتى السباع تهابك ، و لقد عركت كل الأخطار .
        و الأبطال يولون أمامك الأدبار ،
        و قلبك مجرب و ثابت الجنان في الحراب ."

        [فتح أنكيدو فاه
        قائلاً لگلگامش:

        "يا مليكي ، إن كنْتَ قد عَزمتَ على دخول ذلك البلد ،
        فعليك أولاً أن تقصد ألبطل شمش .
        أبْلِغْ إله الشمش فالبلد بلده ،
        و الأرض التي يُقطع منها الأرز تعود له ."

        أخذ گلگامش طفلاً أبيض بلا شيَّة
        و معه طفلاً أسمر ثانٍ
        حملهما على صدره ،
        و رفعهما في حضرة شمش .

        و حمل بيده صولجانه الفضي ،
        و قال لشمش المجيد :
        "إنا عازم على الذهاب إلى ذلك البلد
        و حقك ياشمش ، إنني ذاهب لا محالةَ .

        إنني أتضرع إليك يا شمش ،
        فبارك روحي ،
        و ارجعني إلى ميناء أوروك سالما .

        إنني أتضرع إليك ،
        فامنحني حمايتك ،
        و أجعل فألي حَسَناً .
        فما قيمة أرض الحياة بالنسبة إليك ؟

        أيها الإله شمش ، إصغ لي ،
        إصغ لي يا شمش ،
        و استمع إلى مقالتي:

        في هذه المدينة يموت الإنسان كسير الفؤاد ،
        و يفنى البشر و في قلوبهم حسرة ،
        لقد نظرت من أعلى السورِ ،
        و شاهدت الأجساد تطفوا على النهر .

        ومثلها سيكون مصيري ،
        أنني أعلم ذلك علم اليقين ،
        فحتى أطول الرجال لا يستطيع بلوغ السماء ،
        و لا يستطيع أعظمهم الإحاطة بالأرض .

        لذا فقد عزمت دخول ذلك البلد ،
        لأنني لم أؤسس بعد اسمي منقوشاً على الآجر ،
        مثلما هو مكتوب في مصيري .

        سأذهب إلى البلد الذي يقطع منه الأرز ،
        و سأرفع إسمي عالياً مع أسماء الرجال العظام .
        و حيثما لا يوجد أسماء الرجال ،
        سأرفع النصب للآلهة ."

        سالت الدموع على وجهه و قال :
        "إيه ياشمش ، إنها لرحلة بعيدة .
        فقد كتب علي أن أذهب إلى بلاد خمبابا .

        فإذا كان مقدّراً لي أن لا أنجز هذا ،
        فلماذا زرعت في نفسي ياشمش
        الرغبة الجامحة فيه ؟
        و أنّى لي الظفر إن لم تباركني ؟

        حتي إذا ما متّ في تلك البلاد ،
        فسأموت قرير العين .
        و إن عدت ، فسأقدم لك النذور
        و العطايا المجيدة و أسبح بحمد شمش ."

        قَبِلَ شمش تَقْدُمةَ دموعه ،
        و رقّ له مثل الإنسان الرحيم .
        و عيّن حلفاء أقوياء لگلگامش ،
        كلهم ابناء أُم واحدة
        و وضعهم في كهوف الجبال .

        و سخّر له الرياح : ريح الشمال و الإعصار و العاصفة ،
        و الرياح الجليدية و الدوّامة و ريح الجنوب الحارقة .
        سخرها له كالأفاعي و التنانين و النار المحرقة ،
        كالحيّات التي تجمد القلب و مثل الطوفان المهلك ،
        و مثل شوكة الرعد .
        هكذا كانت هي ،
        و هذا ما أسعد قلب گلگامش . ]

        "لنسرع يا صديقي بالذهاب إلى مصهر المعادن !
        .........
        لنجعلهم يصبّون لنا الفؤوس أمامنا !"

        أمسك أحدهما بيد الآخر و أسرعا إلى المصهر ،
        حيث عقد الحدادون مجلساً إستشارياً .
        فصبوا فؤوساً كبيرة و حراباً زنة كل واحدة منها ثلاثة طالنتات ،
        و صبوا خناجر كبيرة وزن كل نصل لها طالنتان ،
        و نصف طالنت وزن زخارف مقابضها ،
        و نصف طالنت وزن الذهب المطعم فيها ،
        و حمل گلگامش وأنكيدو عشر طالنتات لكل منهما .

        سَدَّ گلگامش أبواب أوروك ذات الطباق السبع ،
        و عقد اجتماعاً للمجلس ،
        و الحشد يتجمع حوله .

        في شارع أوروك المدينة المسورة جلس گلگامش على عرشه ،
        و في شارع أوروك المدينة المسورة ،
        جلس الحشد أمامه .
        فتكلم گلگامش قائلاً
        لشيوخ أوروك المدينة المسورة :

        "إسمعوني يا شيوخ اوروك ،
        سأركب الطريق إلى خمبابا الشرس .
        و سأواجه الإله الذي يتحدث عنه الرجال ،
        و الذي تردد البلدان إسمه بإستمرار.

        سأدحره في غابة الأرز ،
        لتعرف البلاد مدى عظمة ذرية أوروك .
        لذا إسمحوا لي ببدء الحملة ،
        فسأقطع أشجار الأرز ،
        و أصنع لنفسي إسماً خالداً إلى الأبد ."

        ثم وجّه گلگامش كلامه
        إلى شباب أوروك المسورة :

        "إسمعوني ياشباب أوروك الراعية ،
        يا شباب أوروك يا من تفهمون القتال .
        ساطأ بقدمي الطريق البعيد لموطن خمبابا ،
        و سأخوض معركة لا أعرف نتائجها.

        سأركب طريقاً لا أعرفه ،
        فامنحوني بركاتكم كي أبدأ رحلتي ،
        عسى أن أرى وجوهكم ثانية بخير ،
        فأعود داخلاً من بوابة أوروك منشرح القلب .

        و عند عودتي سأحتفل بعيد السنة الجديدة مضاعفاً ،
        سأحتفل بالعيد مرتين في العام .
        لذا أقيموا الإحتفالات الآن و ابدأوا الأفراح ،
        و اجعلوا الطبول تقرع أمام البقرة البرية ننسون ."

        قدم أنكيدوا إستشارته للشيوخ ،
        ولشبان أوروك العارفين بالحرب :

        "قولوا له ألّا يذهب إلى غابة الأرز ،
        فتلك رحلة لا يجب القيام بها .
        وخمبابا رجل لا يجوز النظر إليه ،
        فهو حارس غابة الأرز الطويل الباع .

        خمبابا هذا صوته الطوفان ،
        وكلماته النار ، و زفيره الموت .
        و هو يسمع همس الغابة على مبعدة ستين فرسخاً ،
        فمن الذي يجسر على دخول غابته ؟
        إن الإله أدد هو الأول و خمبابا هو الثاني .

        و من الذي يستطيع الوقوف ضده من الإگيگي ؟
        و لكي يحمي أشجار الأرز ،
        فقد منحه إنليل المقدرة على إرعاب البشر ،
        فإذا توغلت في الغابة فستأخذك الرعشة ."

        قام المستشارون الشيوخ ،
        و قدّموا لگلگامش ألنصيحة النصوح :
        "إنك شاب يا گلگامش تركبك العاطفة ،
        و كل هذا الذي تتحدث به لا تفهم معناه ."

        سمع گلگامش كلمات المستشارين الشيوخ ،
        و نظر إلى أنكيدوا ضاحكا ..
        "ياصديقي كم أنا خائف ألآن ،
        فهل ينبغي لي أن أبدل رأيي لكوني أخاف ؟"

        تكلم شيوخ أوروك المسورة
        قائلين لگلگامش :

        "عد سالماً إلى ميناء أوروك ،
        و لا تعتمد يا گلگامش على قوتك حسب ،
        أُنظر بعيداً و انظر عميقاً و اجعل ضربتك الوثقى !

        و الذي يتقدم منكما ينقذ رفيقه ،
        و الذي يعرف الطريق يحمي صديقه .
        دع أنكيدو يتقدم أمامك ،
        فهو يعرف الطريق إلى غابة الأرز .

        إنه مجرَّب في الحراب وعارفٌ بالقتال ،
        و هو الذي سيحرس صديقه و يحافظ على رفيقه ،
        سيعيده أنكيدو سالماً إلى زوجاته !"

        و قالوا لأنكيدو :
        "إننا ، في مجلسنا هذا، نضع المَلِك في رعايتك
        فعد به سالماً إلينا و كن بديلاً لنا !"
        فتح گلگامش فاه قائلاً لأنكيدو:

        "تعال ياصديقي نذهب إلى القصر الجليل ،
        إلى حضرة الملكة العظيمة ننسون .
        إنها ذكية وحكيمة و تعرف كل شيء ،
        و ستثبِّت أقدامنا بمشورتها الطيبة ."

        أمسك أحدهما بيد الآخر ،
        و ذهب گلگامش و أنكيدو إلى القصر الجليل .
        في حضرة الملكة العظيمة ننسون ،
        صعد گلگامش و مَثُل أمامها .

        خاطب گلگامش ننسون قائلاً:
        "سأطأ بأقدامي - ياننسون - أنا الجسور ،
        الطريق البعيد إلى مسكن خمبابا ،
        سأواجه معركةً لا أعرفها.

        سأركب طريق المجهول ،
        و هاأنا اتضرع إليك كي تباركي رحلتي ،
        كي أرى وجهك ثانية بسلام ،
        و أعود سعيد القلب عبر بوابة أوروك .

        و عند عودتي ساحتفل بعيد السنة الجديدة مضاعفاً ،
        سأحتفل بالعيد مرتين في العام .
        فلتبدأ الإحتفالات الآن و تقام الأفراح ،
        و اجعلي الطبول تقرع أمامك ."

        أصغت البقرة البرية ننسون طويلاً بحزن ،
        إلى كلمات إبنها گلگامش و أنكيدو .
        و ذهبت الى بيت الإستحمام سبع مرات ،
        و استحمت بماء الطرفاء و السدر .

        لبست فستاناً جميلاً لتزيّن نفسها ،
        و اختارت قلادة لتزيّن صدرها .
        و بعد أن إرتدت عصابتها ، وضعت عليها التاج ،
        و عندما رأتها البغايا ، سجدن على الأرض .

        تسلقت السلالم و صعدت الى السطح ،
        و على السطح أقامت مجمرة لشمش .
        نثرت البخور و رفعت ساعديها متضرعة لشمش :
        "لم إبتليت ولدي بروحٍ وثّابة ؟

        لقد أصابه مَسُّك الآن ، وسيركب
        الطريق البعيدة الى موطن خمبابا .
        سيواجه معركة لا يعرفها ،
        و سيركب الطريق الذي يَجْهلُ .

        طوال أيام رحلته إلى هناك و العودة ،
        من بلوغه غابة الأرز ،
        و حتى ذبحه لخمبابا الشرس ،
        ليخلِّص البرية من الشر الذي تبغض ،

        كل يوم وأنت ترحل بدورتك على الأرض ،
        لتذكِّرك العروس الجسور آيا :
        "أن إجعله برعاية حراس الليل !"
        في المغرب ....

        لقد فتحت ياشمش الباب للقطعان كي تخرج ،
        لأن .... تتقدم للأرض .
        و المرتفعات تتشكل و السماء تتنور ،
        و بهائم الأرض ... تجعلها تَـتوهج بألقك .

        لابد للتساؤل عن الدافع الحقيقي وراء إصرار گلگامش على القيام بهذه الحملة أن يجرنا الى ألتفكير بالواقع الإقتصادي لدولة مدينة أوروك التي كانت تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات في أقصى الزاوية الجنوبية لمساره القديم ( الكائن إلى الشرق من مساره الحالي) و على مبعدة حوالي أربعين ميلاً عن سواحل الخليج العربي الذي كانت تقع عليها مدينة "أورى". و يتضح من المدونات المسمارية أن هذه الدولة – المعروفة في التاريخ بإسم سلالة أوروك الأولى – كانت تسيطر على كل سهل جنوب وادي الرافدين (من شمال بغداد إلى الخليج) مع أجزاء من بلاد عيلام (وادي نهر الكارون – وإسمه القديم "أوكنو" و الذي كان يصب في الخليج العربي و ليس شط العرب ألذي لم يكن قد تكوَّن بعد)( 24) . الواضح من نصوص الملحمة أن إقتصاديات هذه الدولة كانت مزدهرة و ذلك بفضل الإستقرار السياسي و وفرة المياه و الأراضي الزراعية الخصبة و تربية الدواجن و المواشي و صيد الأسماك . كما إزدهرت فيها الصناعات الحرفية و أهمها الصناعات المعدنية . و علاوة على هذا و ذاك ، فقد كانت أوروك هي أيضاً العاصمة الدينية للسومريين ، و محجَّهم ، و سوقهم التجارية-الدينية الغنية . و أخيراً ، فقد كان الإستقرار السياسي فيها مستتباً بفضل نظامها السياسي الذي يجمع بين الأوتوقراطية (الملك يسيطر على العرش وأمه تسيطر على المعبد) و الديمقراطية (مجلسي الشيوخ و الشباب) و العسكرتارية (الجيش الحسن التدريب القادر على حماية الدولة) .
        تاريخياً ، فأن السهل الرسوبي لبلاد سومر القديمة في وسط و جنوب العراق كان محروماً من الأخشاب و التي كان بأمس الحاجة اليها لعدة أغراض حيوية من أهمها البناء (صناعة السقوف و الأبواب و الشبابيك و الأعمدة) ، و في صناعة الأثاث و القوارب و السفن و العربات و الأسلحة و الجسور و السدود و معدات الزراعة والحرث و غيرها من الإستعمالات . و يبدو أن زراعة أشجار النخيل لم تكن منتشرة على نطاق واسع في تلك الفترة (حوالي 2800 - 2700 ق.م.) على أرض جنوب وادي الرافدين الكثيرة الأهوار لكي تغطي بعض تلك الإحتياجات على الأقل . و أقرب الأمكنة إليه التي تتوفر فيها الأخشاب الثمينة هي كل من بلاد الشام (جبال لبنان و الأمانوس) و جبال زاگروس . و للمصدر الأول أفضلية واضحة على المصدر الثاني بسبب قلة وعورة جباله ، و لتوفر إمكانية نقل الأخشاب منه بيسر بواسطة نهر الفرات حيث كانت أغلب المدن السومرية مشيدة على ضفافه الجنوبية . و هناك سبيلان للحصول على الأخشاب الجيدة من جبال بلاد الشام ، إما سلماً عن طريق التجارة أو حرباً بتنظيم الحملات العسكرية لقهر السكان المحليين و نهب ما يمكن نهبه من الأخشاب من غابات بلادهم . و لقد إختار گلگامش سبيل الغزو . و لما كانت الحرب تحتاج دائماً إلى تبرير دعائي ، لذا فإن الملحمة تروّج المسوغ الأخلاقي-الديني المتمثل بقتل التنين الشرير للغابة السوداء . و المقصود بيافطة "التنين الشرير" كونه إلهاً أو ملكاً نجساً أو "مارقاً" مثل الشيطان الرجيم الذي تعتبر محاربته واجباً مقدساً على الأتقياء في كل العصور؛ رغم أن إنليل هو الذي "حباه بالمقدرة على إرعاب الرجال" . و من يريد الحرب لا يعدم إختراع تبريرات لها ، مثلما لا يعدم إيجاد مهللين لها من تجار الحروب . و أقوى تبرير للحروب على مر عصور التاريخ هو – طبعاً – التبرير الديني-الأخلاقي لكونه التبرير الوحيد القادر على تحويل بشاعة ذبح البشر إلى عمل بطولي مقدس في أذهان المحاربين المتَّقين . هنا نجد أن السومريين هم أول من يستخدم ستراتيجية "تكفير" أو "أبلسة" (demonization) العدو في الدعاية الحربية أو الحرب الدعائية لتسويغ الغزو. و هذه الستراتيجية هي أعقل من الأُسطورة الأمريكية القائلة بأن أشرف و أنبل سبيل لـ"تحرير العراق من الشيطان المارق صدام" هو تدمير البلد بآلاف الصواريخ الغبية و القنابل الجبارة أولاً ، و فرض الحصار المبيد جماعياً عليه ثانياً ، و إحتلاله ثالثاً ، و من ثم إستكمال تدميره إقتصادياً وسياسياً وحضارياً كلياً ، و تقتيل شعبه ثالثاً بتسليط الأحزاب المليشيوية-الفئوية عليه ، و شن آلاف الحملات التدميرية على مدنه . و على العكس من الرئيس الأمريكي "بُش الإبن" الذي باشر حربه الصليبية "المقدسة بالقذارة" بلا تفويض شرعي ضد العراق – الذي سبق للمخابرات الأمريكية و أن سلطت قادته من الشياطين "المارقة" على رقاب شعبه المظلوم – فإن غزوة گلگامش المقدسة لم تبدأ إلا بعد حصول گلگامش التقي على المباركة الشرعية و الأكيدة لإله العدل شمش له بفضل الوعود التي حصل عليها الأخير بنشر عبادته و ببناء معبد جديد على شرفه . و هذا ما يثبت أولاً بأن كل الآلهة – مثل بعض البشر و الحكومات – ترحب دائماً بالرشاوى الدسمة ، و يثبت ثانياً بأن الدعاية الحربية السومرية القديمة قبل ما يزيد على أربعة آلاف عام كانت أقل رياءً و صفاقةً ، و هي بالـتالي أنجعَ ، من تلك التي أنتجتها ماكنة الدعاية الحكومية الأمريكية إبان حرب إحتلال العراق عام (2003) . و على العكس من الحرب الأخيرة ، فقد كانت غزوة گلگامش لبلاد الشام مؤكدة النتائج بدليل تلك الأخشاب الضخمة و الكثيرة التي جلبها گلگامش من غابة الأرز لشعب أوروك السعيد مثلما سنرى ، في حين لم يشغل "بُشْ الإبن" نفسه بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي زوّد حلفاؤه في الغرب صدام بها و قبضوا أثمانها من أنهار الدماء للشعب العراقي المحاصر، بل تركها تحت الأرض كي تسمم مئات الأجيال من العراقيين التعساء المغلوبين على أمرهم و ذلك حسب القوانين و الأصول النافذة المفعول للشرعية الدولـــية الممثلة بمنظمة "الأمم المتحدة الأمريكية".
        و لما كان المنتصرون في كل الحروب هم دائماً الزعماء و ليس الجنود ، لذلك نجد أن الملحمة لا تضيع وقتاً في ذكر آلاف المقاتلين من أبناء أوروك الذين لابد أن يكونوا قد جُندوا لأغراض هذه الغزوة عندما تصورها باعتبارها إنجازاً شخصياً خالصاً لگلگامش و أنكيدو . و هنا نجد أقدم مثالٍ على الإختزالات التاريخية لمنجزات الشعوب عن طريق تظهيرها جملة و تفصيلاً لحساب قادتها الميامين . و يلاحظ أن النص السومري الأقدم لهذه الغزوة يذكر صراحة أن گلگامش قد اصطحب معه في رحلته هذه خمسين مقاتلا شاباً روعي في إختيارهم عدم إعالتهم لأم أرملة و لا لزوجة و أطفال (25). و هذا ما يوحي أنه كلما تطورت الآلة الحربية للدولة الشمولية كلما أصبحت عملية الأختزال لمصلحة "القائد الرمز" أتم .
        و تدشّن هذه الغزوة في تاريخ الشعوب و الميثولوجيا البشرية أولى بعثات الأبطال إلى المجهول في مهمات صعبة و محفوفة بالمخاطر لجلب الكنوز (أخشاب الأرز) و قتل الأشرار (التنين الشيطان) . و سيزودنا التاريخ بعدئذ بقصص رحلات الروّاد لآلاف الأبطال الأسطوريين و الحقيقيين المتطوعين من أمم أخرى في مثل هذه البعثات البطولية في العوالم المـجهولة ؛ سواءاً كانت لجلب الفروة الذهبية أو الكأس المقدسة(26) أو قتل التنانين من كل نوع(27) أو الحروب الصليبية و الإستكشافات الجغرافية ، أو كانت حروباً للنهب الأستعماري أو رحلات لإستكشاف الفضاء . و إذا ما وضعنا جانباً الأُطر الآيديولوجية و الدعائية التي تحاط بها هذه البعثات البـطولية ، فإن أهدافها النهائية هي إقتصادية-سياية بحتة ، و تتمثل بالإستحواذ على مصادر جديدة للثروة و للقوة و للهيمنة .
        و إذا ما عدنا إلى الإطار ألآيديولوجي ، فإنَّ نص الملحمة - الذي يذكر صراحة بلسان گلگامش أمام الإله أوتو (شمش) عن عزمه على " تأسيس إسم لشمش حيثما لا يوجد إسم له " - يوضح أنَّ گلگامش كان يعتبر بعثته نوعاُ من "الحملة المقدسة" لقتل الإله المحلي خمبابا بغية نشر عبادة الآلهة السومرية و خصوصاً شمش و إنليل (مردوخ-بعل) و عشتار محل عبادته . و لا ريب أنه قد نجح في مسعاه ذاك ، فقد بقيت هذه الآلهة تُعبد هنا و هناك في بلاد الشام و شبه الجزيرة و اليمن ( أحياناً بأسماء محلية ) حتى الفتح الإسلامي ، و بقيت الدعاية لها من القوة و التأصل طوال ثلاثة آلاف عام بحيث أن حتى التوراة تنقل وقائع تخلي بعض اليهود عن العبادة ألوحدانية ليهوه لصالح بعل و عشتار (28). و من الشام إنتقلت عبادة الآلهة السومرية عن طريق الفينيقيين إلى الأغارقة سكان بلاد اليونان القديمة [و من بعدهم الرومان] و الذين صاغوا مجمع آلهتهم على غرار مجمع الآلهة السومري . و هكذا فقد كانت الديانة السومرية أول دين ذي طابع عالمي في تاريخ البشرية .
        و الأمر الآخر المهم في الفكر الديني السومري هو عدم وجود فكرة "شعب الله المختار" لديهم . و مثلما سنرى بعدئذٍ ، فإن عالمية الفكر الديني السومري تنطلق من فكرة أن الشعوب آلهتها واحدة ، ولذلك فإن الإله شمش – مثلاً – هو إله الشاميين مثلما هو إله أهل أوروك و أريدو و نفر الخ . و التميز المسموح به ينحصر بالتميز الشخصي و القائم على الإستحقاق بفعل الإنجاز الفردي ، و ليس على الأفضلية المؤسسة على إمتياز الإنتماء إلى دين معين أو قبيلة بذاتها أو المنطلقة من تمييز "رباني" فوقاني يسبغه المؤمنون بالدين أو المنتمون للقبيلة أو العشيرة على أنفسهم بأنفسهم عبر فبركة آيديولوجيا تقسيم البشر إلى مجموعتين :مجموعة "نحن أصحاب الإمتياز من الرب" ، إزاء كل المجموعة الأخرى من "الآخرين الشياطين من أعداء الرب" ، أو "الأغيار من الغرباء" .
        ننتقل الآن إلى نوع النظام السياسي السائد في مملكة اوروك الأولى . ألواضح من نص الملحمة أن هذا النظام كان ملكياً أوتوقراطياً و وراثياً . و في حالة وفاة الملك و عدم وجود خلف له ، يمكن لأم الملك أو زوجته أن تصبح هي الملكة ، خصوصاً إذا كانت ذات شخصية قوية و مؤثرة إجتماعياً و دينياً و لم يكن لديها منافسون أقوياء ؛ و بعكسه يتولى الملوكية أقوى مدعٍ للعرش . و في حالة گلگامش ، يتضح من المدونات السومرية أن أمه الملكة ننسون كانت – مثل زوجها الملك المؤله "لوگال بندا" – تجمع بين صفتي الملكية و الإلوهية على دولة أوروك بعد وفاة الأخير . ثم تزوجت الملكة المقدسة ننسون ( و هي أيضاً كاهنة معبد إي-أنّا ) من كاهن "كُلّاب" المدعو "لِلّا" أو "لِللو" ، فولدت منه گلگامش الذي أصبح بعدئذ الملـك الخامس لسلالة أوروك الأولى . و عندما يغيب گلگامش عن أوروك فإن أُمه تعود إلى ممارسة مهامها الملكية مكانه(29) بمعاونة مجلسي الشيوخ و الشبان . و من المهم ملاحظة كيف أن الطقس الذي تؤديه ننسون للإتصال بالإله شمش هو نفسه الطقس الذي تؤديه المرأة يوم عرسها في ليلة دخول عريسها عليها ، و هو يؤشر مرة أخرى لقداسة فكرة الجماع الجنسي عند السومريين باعتباره أهم فعل تواصلي لتوحد البشر مع الآلهة عبر الإنتشاء بشهوى الإستسلام لها .
        و يوضح نص الملحمة وجود مجلسين إستشاريين للملك هما مجلس الشيوخ ومجلس الشباب ،و اللذين يمثلان أول تجلٍ فطريٍّ لنظام الحكم الديمقراطي في التاريخ . و لكونهما مجلسين إستشاريين ، فإنّ واجبهما هو تقديم المشورة و النصح . و بوسع الملك تجاوز قراراتهما ، ولكن ليس تجاوز إبلاغ كيانيهما في القضايا المصيرية . و هذا يعني أن من واجب الملك أن يقدم مشروعه للمجلسين للمناقشة قبل الإقدام على تنفيذه و ليس بـعد تنفيذه ؛ و يحاول الحصول على مباركتهما بعد شرح دواعي تقديم المشروع لهما . و النقاش يتم بـمقارعة الحجة بالحجة للحصول على الإجـماع الـمطلوب في إطار الحرص على مصلحة الدولـة . و بـعد الإتفاق على الرأي النهائي ، فإن المجلسين يعملان مع الملك يداً بيد لتنفيذه . ولذلك فإنّ الشيوخ – بعد فشل جهودهم في ثني گلگامش عن عزمه – يقدمون النصح لگلگامش و لأنكيدو حول كيفية تحقيق أهداف الحملة بنجاح ؛ أي أنّهم يتحولون من معارضين للقرار إلى مساهمين إيجابيين في تنفيذه لمصلحة شعب و دولة أوروك و مليكهم . كما نجد أن گلگامش – بتوجيه من أنكيدو – يقيم طقساً رمزياً مهماً يسبق تقديم القرار للمجلسين ، ألا و هو إستصدار موافقة إله العدل و الحكمة أوتو . هذا الطقس مهم جداً لأنه يعني بوضوح أنه ليس للملك الحق في إتخاذ قرارات لا ترضى عنها الآلهة ، مثل القرارات المتهورة أو الظالمة ، بل إن من واجبه الإلتزام بتوجيهاتها بإعتباره ظلها على الأرض ، و المعبر عن إرادتها العادلة ، كتعبير عن التكامل بين السلطة السياسية و السلطة الدينية المستند على "سلطة الحق". و بإمكان الباحث أن يعتبر شكل الإطار الديمقراطي لمثل هذا النظام السياسي المميز لدويلات المدن السومرية في عصر فجر السلالات – على الأقل بشكله التجريدي – متقدماً على زمنه بكثير . وأساس هذا النظام هو ثقافة الشورى المنوّه عنها سابقاً والمستندة على مبدأي الإلتزام بالأصول و الأعراف الدينية-الإجتماعية أولاً ، و إلإحتكام لآراء "ذوي الشأن" أو "أهل الحل والعقد" ، و الإستفادة منها ثانياً ، و كذلك توخي العدل ثالثاً . و المراد من المبدأ الأول كسب ودِّ الآلهة ومؤسساتها الدينية و طبقة رجال الدين ، فيما يراد بالمبدأ الثاني كسب الرأي العام و المجتمع ككل من خلال كسب إرادات و عقول رجالاته من الشيوخ و الشباب . أما المبدأ الثالث ، فيجمع بين رضا الآلهة و المجتمع . و يشبه الشكل التنظيمي لهذا النظام الديمقراطي مؤتمر القبيلة أو العائلة الكبيرة برياسة قائدها ذي الكلمة المسموعة المعترف بها . و يمكن القول بكل ثقة أن هذا النظام كان أرقى نظام ديمقراطي عرفه الشعب العراقي في كل التاريخ حتى عامنا هذا (2006م) ، بل و حتى في المستقبل المنظور في ضوء سيادة ممارسات "الديمقراطية القذرة" حالياً . و للأسف ، لم يقيِّض التاريخ لهذا النظام السياسي الأوَّلي أن يتطور إلى أمام ، و ذلك لنفس السبب الأقتصادي الذي أدى إلى قيامه : طبيعة العلاقات الإنتاجية . لقد نشأت جذور الديمقراطية السياسية كإنعكاس فوقي للعلاقات الإجتماعية للمشاعية الإنتاجية و ما تستلزمه المصالح الإقتصادية المشتركة لأفرادها من عدم التصرف بأموال المشاعة إلا بموافقة بقية الشركاء للحيلولة دون الإضرار بمصالحهم المشتركة و ذلك بالإلتزام بثقافة الشورى . و إستمرت هذه الثقافة تطبَّق بهذا الشكل أو ذاك حتى نهاية عصر فجر السلالات بفضل تداخل المصالح و توازن الصراع بين السلطة الإقتصادية للقصر و المعبد و الملكية الفردية الحرة في ظل نظام إنتاج زراعي-رعوي-حرفي صغير تلعب فيه مؤسسة المعبد و القصر دور أكبر مالك للأراضي ، مع وجود الملكية الفردية للأراضي الزراعية و الحيوانات و غيرها من وسائل الإنتاج . و باستثناء أروقة المعابد الكبيرة ، لم يكن يوجد العبيد على نطاق واسع في هذا النظام ؛ خصوصاً و أنه كان بالإمكان إستخدام أعمال السخرة الجماعية بتجنيد المواطنين الأحرار لتنفيذ المشاريع الضخمة للمنافع العامـة كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، و هذا ما يلغي أو يقلل الحاجة إلى قوى العمل المجانية للـعبيد . و لهذا ، فإن أنكيدو إبن البرية الغريب لم يُستعـبد عندما دخل مدينة أورورك ، الأمر الذي يعزز فرضية سيادة مبدأ حرية الأنسان بالولادة في المجتمع السومري إبان عصر فجر السلالات . كل هذا يؤيد الإفتراض أن مجتمع سلالة أوروك الأولى لم يكن مجتمعاً طبقياً ، و ما تقتضيه من وجود طبقات مستغِلة و مستغَلة .
        بعد ذلك بحوالي خمسمائة عام ، أنشأ بطل عراقي أخر مثل گلگامش ، و هو سرجون الأكدي ، الدولة الأكدية ألتي وحَّدت كل أرض العراق القـديم (الهلال الخصيب حالياً) ، و تعدت ذلك ببناء أول إمبرطورية في التاريخ ، فانتهت بذلك السيادة السياسية للسومريين حوالي عام (2330 ق.م) . و في ظل هذه الدولة-الامبراطورية ، حُسم الصراع الإقتصادي بين سلطة المعبد و القصر لصالح الأخير (30) ، بعد أن تركزت الثروة بأيدي القصر على حساب ملكية المعابد (31)، وكذلك بفضل حروب التوحيد التي شملت تركيا الحالية و إيران و سوريا-فلسطين و البحرين و حتى عُمان . و لقد جلبت كل هذه الحروب جيشاً من أسرى الحرب إلى العراق القديم ، مع ثروات ضخمة بـهيئة غنائم منقولة ، والتي خلقت طبقة أرستقراطية- عسكرية جديدة حاكمة تمتلك قوة العمل (العبيد من أسرى الحرب) ، و رأس المال (غنائم الحرب من الأموال المنقولة و الجزية المنتظمة المفروضة على الأقاليم المحكومة ) لإستثمار الأرض و العقارات لحساب القصر و لحسابها ، و هذا ما أنهى سيادة علاقات الأنتاج القديمة القائمة على مبدأ حرية الإنسان بالولادة (32) ، و تكامل السلطة بين القصر والمعبد . و لما كانت هذه الطبقة الجديدة الصاعدة هي جزء من آلة الدولة العسكرية ، لذا فقد إقتضت مصالحها الأقتصادية أن تستند على سلطتها ألمركزية القوية و المستبدة لتدافع عن مصالحها ؛ و لا مكان في هذه السلطة الغاشمة لآراء أفراد الشعب في مجلسي الشيوخ و الشباب من غير اللاعبين الكبار بالأموال و قوة العمل من أفراد الأرستقراطية الملكية و القادة و الحكام العسكريين و وكلائهـم . و شيئاً فشيئاً، إمتدت شهية هذه الطبقة الأرستقراطية إلى مدينيهم المفلسين من أبناء جلدتهم الأحرار ليصبحوا عبيداً لديها، و لتكتسب بذلك مصدراً لا ينضب لقوة العمل المملوكة ، و التي تعوض عن شحة الأسرى في عصور الإنحطاط الإمبراطوري . و في ظل مثل هذه التشكيلة الإجتماعية-الإقتصادية ، لم يعد ثمة مكان أو ضرورة للمؤسسات الديمقراطية ، بعد أن تحولت إلى عبء ثقيل على الجيوب و الأحلام المريضة للحكام الطغاة . و هكذا فقد أُسدل الستار على عصر الديمقراطية الفطرية السومري المجيد في مدن جنوب و وسط العراق ، و لم يسمح حكام العراق - المحليون والأجانب على حد سواء - و منذ ذلك التاريخ بقيام أية مؤسسات ديمقراطية حقيقية فيه حتى الآن (عام 2006 م) ، حيث تم و يتم فيه إرتكاب أرعب الجرائم في تاريخ البشرية بإسم إرادة الشعب العراقي الـمغلوب على أمره ، إما تـحكّماً ، أو تزويراً . أما عند البدو ، فقد بقيت بعض أسس و تجليات هذا النظام الديمقراطي الفطري قائمة فيه حتى يومنا هذا ، بفضل فاعلية وضيفتها الإجتماعية ، و إن تفاوتت هذه الأسس والتجليات تفاوتاً مـكانياً و زمانياً و قبلياً و شخصياً .
        و يعلمنا التاريخ أنه بدون إنجاز الوحـدة الداخلية بين مختلف المكونات الإجتماعية للعراق و سيادة السلام الاجتماعي فيه فإنه ليس بالامكان لقيادة البلد إيلاء الاهتمام الكافي لرعاية مصالحها الداخلية و الخارجية و التأثير إيجابياً بمقدرات الامور فيها ، هذا إن لم يؤدي الصراع الإجتماعي إلى التشرذم و فقدان القيادة المركزية أصلاً . هذا هو الدرس الذي تنقله الملحمة لأبناء العراق في كل العصور عبر رمزية إتحاد المكوّنين الرئيسيين للشعب العراقي آنذاك و هما البدو (أنكيدو / الطفل الأسود) مع الحضر (گلگامش / الطفل الأبيض) عندما توضح بشكل ضمني أثر هذا الإتحاد على رفع المظالم عن شعب أوروك و نجاحه في توسيع نطاق هيمنة سلطة دولته على الجوار .
        نعود الآن إلى موضوعة وعي السومريين لعلاقة الإنسان بالآلهة مثلما تصورها الملحمة . و لعل أهم وجه لهذه العلاقة في الملحمة هو صراع الإرادات ، و به ترتبط موضوعة التلاقي و التقاطع بين إرادة الإنسان و إرادة الآلهة . أساس هذا الصراع و محركه هو التطلع المشروع و الطموح لدى الإنسان لتحقيق المعجزات بتجاوز حدود المستحيلات و بلوغ شأو الآلهة باقتحام السماء . و هذا الصراع هو سلطوي بالدرجة الأولى ، يحكمه مدى التقاطع المترتب على هذا الصراع بين مصالح الأنسان و مصالح الآلهة في الحفاظ على القوة و السيطرة و المهابة و المكاسب . و مثلما يحصل في الصراع بين جبّارين (أنكيدو و گلگامش على سبيل المثال) فمن الممكن لهذا الصراع أن يتحول إلى التكامل و التعاون عن طريق إيجاد قاسم مشترك بين مصلحة الطرفين ، و من ثم الإتحاد معاً لتوجيه أسلحتهما إلى طرف ثالث (خمبابا على سبيل المثال) . و تتأثر إمكانيات تحقق مثل هذا التلاقي سلباً و إيجاباً بدرجة قوة الإغراء للمكاسب التي يحصل عليها كل من الطرفين بموجب الإتفاق المبرم ، و ذلك وفقاً لمبدأ "هات و خذ" ، أي حساب "الأرباح و الخسائر" للطرفين . فإذا بقيت كفَّة قيمة المكاسب متوازنة نسبياً بين الطرفين ، فيمكن التلاقي بينهما ، سيما و أن كل طرف يعرف جيداً ما لديه من أسباب القوة و مدى بأس غريمه . أما إذا مالت كفة الميزان لصالح طرف واحد و على حساب وجود و حقوق الطرف الثاني ، أي إذا ما كانت الخسائر ثقيلة على أحد الأطراف (تنطوي على "كسر عظم" حسب التعبير العراقي) ، فإن الصراع بينهما يمكن أن يستمر سجالاً بلا غالب و لا مغلوب عند توازن القوى ، أو أن يتصاعد مع تغيرات توازن القوى حتى النهاية المرة بإنتصار أحد الأطراف ، أو فنائهما معاً . و في الصراع ، فإن كل شيء يعتمد على توازن القوى ، طبعاً . و تنطبق هذه القواعد على الصراع بين الأشخاص و الجماعات و الدول ، و بين السلطة و المعارضة ، و على صراع الطبقات فيما بينها . و يمكن القول أن كل صراع – حربياً كان أم سياسياً ، شخصياً أم إجتماعياً : طبقياً أو وطنياً أو قومياً أو دينياً أو طائفياً أو قبلياً – يقبل قاعدة "هات و خذ" إذا ما توفرت الإرادة للإتفاق عند الطرفين لأعتبارات شتى مثل حـقن الدمـاء ، أو الجـنوح إلى السلم ، أو التعايش المشترك و تبادل المصالح ، أو الإصابة بالإعياء نتيجة الإستنـزاف توازن القوى ، أو التحصُّل على المكاسب أو الحقوق "الجزئية" نتيجة للتنازلات المتبادلة ، أو التخوّف من العواقب الوخيمة ، أو منع الإنهيار الداخلي-الذاتي المحتمل أو الناشيء ، أو كإجراء مرحلي لحين حصول تغير ما في الوضع قد يقلب الموازين . و في حال وجود حقوق للطرفين ، فإن كل إنتصار "حاسم" لا بد أن ينطوي على هضم حقوق أحد الأطراف ، ولذلك فلابد له أن يتجدد عاجلاً أم آجلاً .
        و قد عرف السومريون هذه القواعد ، فطبَّقوها لأول مرة على الصراع بين الأنسان و الآلهة . و صوروا هذا الصراع غير المتكافيء على غرار صراع المتهم البريء أو التائب المتواضع أمام قاضٍ عادل ، أو الخصومة بين المواطن المطيع و الملتمس أمراً أمام مليك متنوّر و متفهم . و لم ينسوا قاعدة "هات وخذ" . و لكنهم أهتموا كثيراً بوجوب تضرع الإنسان أمام الإله كشرط أساسي للإستجابة لطلبه ، فالآلهة السومرية لا تغفر العقوق و التعالي عليها من بني البشر أبداً ، لكي لا يتحول الإنسان إلى إله ينافس الآلهة على سلطتها ، و لكي يحفظ كلٌ مركزه . و گلگامش يدرك هذه الحقيقة جيداً عندما يتساءل :"أين هو الإنسان الذي يستطيع ألإرتقاء إلى السماء ؟" ثـم يـؤكد : "و حدها الآلهة تحيى خالدة مع الشمس ". و إزاء خلود الآلهة خلودَ الشمس ، فإن الإنسان " أيامه معدودات " ، و "أفعاله كلها ذاهبة في مهب الريح " ، و لا خيار لديه إلا أن "يترك بعده إسماً خالداً". هذا هو أُس الصراع الداخلي-الخارجي الذي يعيشه گلگامش المشغول بالقصور الذاتي للحي الفاني ، و التطلع المشروع لهذا الفاني للخلود التاريخي بفضل الإنجازات العملية الفذة على وجه الأرض . ومن واجب "التابع" أنكيدو أن يبارك مثل هذا المسعى النبيل لدى مليكه گلگامش "فيهتف به – مثلاً- قائلاً : تقدّم فلا خوف عليك ". و لهذا فإن گلگامش يعاتب أنكيدو على معارضته لمسعاه في تثبيط عزمه ، بدلاً مـن أن يضع يده بيده و يتـقدم المسيرة ، و يتـهمه بـ"الخوف" أو "الخَوَرْ"، ويبين له عزمه الأكيد بكونه "سيتقدم المسيرة و إن كان مليكه "، و أن الرجال سيتحدثون عنه قائلين : "إن گلگامش قد سقط في ساحة المعركة ضد خمبابا الرهيب" لكي يتخلد ذكره في ذاكرة الأجيال . و يلاحظ هنا ألمعية مقولة "خلود الشمس" ، والتي أخذتها التوراة بعبارة "وحدها الشمس تبقى مشرقة إلى الأبد" و ربطتها بسياق تعارضها مع واقع موت الإنسان و عودته "من الطين إلى الطين".
        أما أنكيدو فإن همه منصب على وجوب أن يأخذ گلگامش بعين الإعتبار قوة خمبابا ، و كون الإله إنليل هو الذي "حباه بالمقدرة على إرعاب الرجال" ، و عدم التجاوز على حق الإله شمش الذي يعود له البلد. و لذلك فإنه يخاطبه بالقول :
        "يا مليكي ، إن كنْتَ قد عَزمتَ على دخول ذلك البلد ،
        فعليك أولاً أن تقصد ألبطل شمش .
        أبْلِغْ إله الشمش فالبلد بلده ،
        و الأرض التي يُقطع منها ألأرز تعود له ."

        إذن أنكيدو يدرك حقيقة التناقض الكامن بين رغبة گلگامش الإنسان في قتل خمبابا و نهب أرزه الثمين المقدس و بين مصالح الآلهة ، و أهمها الإله شمش الذي تعود له ملكية غابة الأرز . و يبدو أن العراقيين القدماء كانوا يؤمنون أن الشمس – مثل الراعي أو الفلاح أو العامل – تعود إلى "بيتها عند الغروب" ، و لذلك فإن أرض لبنان الكائنة إلى الغرب من العراق تعود إلى شمش . و لا يجوز لگلگامش دخول "بيت شمش" و قتل حارسه المصطفى خمبابا الذي يمتلك المقدره على إرسال الرياح الغربية – بمشيئة إله الهواء أنليل – دون إستحصال الإذن المسبق من شمش . كل هذا يؤكد المفهوم السومري بكون الإنسان و الأرض و مواردها الطبيعية هي ملك للآلهة ، و أنه لابد من إستصدار تفويض مسبق منها عندما يزمع الملك (گلگامش) قتل ملك آخر (خمبابا) و إحتلال أرضه و سلب كنوزها (الأرز) . و قد سبق الكلام عن أثر هذه الفكرة في تحوّل المعابد الرئيسية في العراق إلى أكبر مالك لوسائل الإنتاج في عهد فجر السلالات العراقي ، بل و البؤرة لنشوء المدن الكبيرة و تأسيس دويلاتها الثيوقراطية-الديمقراطية-العسكرية "تحت أجنحة الألهة ".
        و يتبيَّـن من الحوار مدى تَـوحُّد شخصيتي كلاً من گلگامش و أنكيدو إتحاداً ملازماً بحيث يصبح رأي الواحد منهما هو الوجه المكمَّل للآخر. و ستكون المحصلة الأخيرة هي دائماً تحقق إرادتي "الإثنين في الواحد". ففي هذا السياق يوافق گلگامش على رأي أنكيدو و يستحصل موافقة شمش ، و من ثم يوافق أنكيدو على المشاركة في مسعى گلگامش لغزو غابة الأرز ، و سيتبادلان الأدوار بعدئذٍ .
        و رمزية الطقس الذي تصفه الملحمة لعملية "المرافعة و إستصدار الإذن" واضحة من الرموز التالية :
        • الطفلين بلا شيَّة ( البراءة من العيب أو الذنب و توافر حسن النية) .
        • الحمل على الصدر (حب گلگامش لكل مكونات شعبه و إهتمامه بتحقيق مستـقبل زاهر لـه) .
        • الصولجان المحمول باليد (سلطة الملكية الممنوحة من طرف الآلهة لگلگامش) .
        • توكيد العزم على الغزوة (سياسة الأمر الواقع و وجوب التعامل معها بأخذها بعين الإعتبار).
        • القَسَم بشمش (القسم واجب البر ، و الحنث به ينال من قدسية شمش نفسه) .
        • التضرع و ذرف الدموع أمام شمش (التواضع أمام الآلهة : گلگامش لا ينافس الآلهة و هو ليس شخصاً متكبراً) .
        • طلب المباركة و النصر من شمش ( توكيد إيمان گلگامش بتحكم الآلهة بمصائر البشر) .
        • تقليل أهمية أرض الحياة بالنسبة لشمش (التفاوض – هات و خذ) .
        • الترافع أمام الإله عن هَمِّ الأنسان المحكوم – على العكس من الإلهة – بالموت المحتم و حاجتة إلى نوع من الخلود ( مشكلة الإنسان الفاني).
        • لما كانت الآلهة خالدة فإن بإمكانها أن تتنازل قليلا فتمنح الفرصة لگلگامش لتخليد إسمه (الحل لمشكلة الإنسان يكمن في تنازل الإلهة عن بعض إمتيازاتها).
        • أن مثل هذا الخلود الإسمي للإنسان لا يمكن يحط من قدرة الآلهة فالأنسان لن يبلغ شأوها أبداً (يمكن للآلهة أن تقبل ببعض التنازلات للإنسان دون أن ينال هذا التنازل من سلطتها).
        • أن الحملة تهدف أيضاً إلى رفع إسم شمش في أرض الحياة و جلب النذور السخية له (وحدة المصالح و المشاركة – هات و خذ) .
        • أن توق گلگامش للحملة قد غرزته في نفسه إرادة شمش نفسه (مسؤولية الآلهة عن تطلعات و "فكر" الإنسان).

        و يقبل الإله شمش مرافعة گلگامش "مثل الإنسان الرحيم" ، ثم يعين له حلفاء "كلهم ابناء أُم واحدة و يضعهم في كهوف الجبال" . و للعبارة الأخيرة أهميتها الرمزية البالغة المعنى . النص ينطلق أولاً من مفهوم موروث بكون "أبناء الأم الواحدة يشكلون صفاً متراصّاً أكثر من أبناء الأب الواحد " . هنا الرحم الواحد يؤشر للإرادة الواحدة ؛ و في هذه الإشارة إحالة إلى واقعين تاريخيين-إجتماعيين مختلفين و متباعدين . أولهما عصر المشاعة البدائية الملتفة حول سلطة الأم (البطن الواحدة) ، و ثانيهما صراع الأخوة المنحدرين من أب واحد لزوجتين إثنتين . و بالنسبة للأشارة الثانية فهي الأقرب تاريخاً . و يزخر التاريخ بالعديد من قصص الصراعات الدامية بين أبناء القادة (الدينيين والسياسيين) النابعة أصلاً من الصراع بين الزوجتين الضرتين و أبنائهما على نيل إمتيازات و ميراث زوجهما (قصص التوراة مثلا ، على وجه الخصوص) (33).
        أما الأشارة الأولى ، فهي الأبكر تاريخاً و الأقرب إلى الحقيقة بسبب السياقين النصي و الزمكاني ، لكون الأخوة "أبناء البطن الواحدة" يقطنون "كهوف الجبال" بالتحديد و ليس أي مكان آخر ، ضمن إطار مجتمع رعوي بالدرجة الأولى . و لا يمكن تصور توحد إرادة الأخوة من أبناء بطن واحدة ممن يسكنون العديد من كــهوف الجبال و في منطقة واسعة نسبياً (جبال لبنان الغربية و أنتـي لبنان و الأمانوس ) بعيداً عن مفهوم الإنتماء للمشاعة الرعوية الأمـومية السائدة عبر كل هذه المنطقة . و يصور النص مدى التآزر بين أفراد المشاعة الأمومية في الصراع المسلح بفضل رابطة الأرحام . و من مظاهر هذا التآزر الموروث اليوم هو مفهوم رابطة الأرحام عند اليهود و الشيعة الإمامية – رغم الإختلاف الجوهري في تطبيقاته و دواعيه بين القومين . و في اللغة العربية ، فإن من معاني مفردة "البطن" هو "العشيرة" أو "ما دون القبيلة" ، من أبناء الأم الواحدة (34).
        أما المعنى الثاني للنص أعلاه فهو أن السكان المحليين في أرض الحياة (سوريا-لبنان) قد "تحالفوا في الحرب" مع گلگامش ، و لهذا فقد أضطر خمبابا أن يقاتل وحيداً في المعركة بعد أن تخلى عنه شعبه . وهذا يعني أن الحرب الدعائية لأوروك قد نجحت في كسب ود سكان أرض الحياة خلال هذه الحملة المقدسة و ضمان تعاونهم ، و التي تشتمل فيما تشتمل عليه من أهداف إلى نشر عبادة شمش في بلاد الشام القديمة .
        والآن لابد من التساؤل عن العلاقة بين مفهومي "خلود الإنسان" في العالم الآخر و مفهوم تحكم الأنسان بمصيره على الأرض عند السومريين ، لكونهما مترابطين . ألواضح أن هَمّ گلگامش في نيل الخلود هو هَمّ دنيوي محض ، و هذا ما يؤكد أن السومريين كانوا غير مهتمين بالأخرويات أو معولين عليها للظفر بالخلود الأخير ، بل أن العكس هو الصحيح بفضل تركيزهم على حياة الإنسان على الأرض ، و على محصلة عمله فيها و ذلك إنطلاقاً من إيمانهم بكون الإنسان هو سيّد ذاته بشرط إسترضاء الآلهة (القدر) ، و هو الذي يصنع مصيـره و يصنع بذلك نفسه ذاتها ؛ و إعتبارهم الإنسان ذاتاً أرقى من جميع المظاهر الأخرى ، بأستثناء الآلهة طبعاً. أما مفهومهم عن الآخرة فهو أبعد ما يكون عن خيار ثنائية الخلود في الجنة أو النار الذي سيسود بعدئذٍ ، بل هو مفهوم أحادي عن أرض الظلام الواحدة و التي تتفاوت فيها حظوظ الموتى مثلما سنعرف بعدئذٍ .
        و بعد أن ينجح گلگامش في نيل بركة شمش ، فإن الأخير "يسخِّر له الرياح : ريح الشمال و الإعصار والعاصفة ، و الرياح الجليدية و الدوامة و ريح الجنوب الحارقة ". و مفهوم "تسخير الرياح" من طرف الآلهة للملوك موضوع بالغ الأهمية الإقتصادية-السياسية بالنسبة للعراقيين القدماء ، لأن اقتصادهم الرعوي-الزراعي-التجاري يعتمد بدرجة كبيرة على مؤاتاة تلك الرياح الجالبة للمطر و مياه الأنهر أو المسببة للجفاف أو الفياضانات المخربة للحقول الزروعة (هبوبها المفيد منها في الوقت المناسب أو عدمه) ، و لإيمانهم بأن غياب مثل هذه المؤاتاة إنما هو مظهر من مظاهر غضب الآلهة (إنليل خصوصاً بإعتباره سيد الهواء) على ظلها في الأرض : ملك البلاد . هكذا يمتزج الفكر الديني بالمصير الإقتصادي و السياسي في علاقة منطقية شكلية .
        وبعد أن ينفّـذ گلگامش مشورة أنكيدو في "ترضية شمش" و نيل مباركته و مباركة شيوخ و شباب أوروك للحملة ، يأتي دور أنكيدو لتنفيذ رغبة گلگامش باستحصال مباركة أمه ننسون للحملة و الأستعانة بدالَّتها على شمش . و يبيّن وصف النص للطقس الذي تؤديه الشكل النموذجي لمستلزمات الإتصال بالآلهة عند السومريين : الغسـل ، و التزين بالملبس و الحلي ، و لبس العصابة و إعتمار التاج ، و تسلق سلالم الزقورة -المعبد ، و حرق البخور على السطح ، و من ثم التضرع إلى السماء برفع اليد . و يجمع هذا الطقس بين مراسيم الزفاف و الصلاة . أما إشارة النص إلى "بغايا المعبد" فتقدم دليلاً إضافياً لما نوقش من قبل بخصوص هذه الطبقة من نساء المعبد مثل شمخة اللائي يكتسبن القدسية بفضل ما يجلبن من الإيرادات لإله المعبد (= مجتمع المعبد).
        و أخيراً ، تأتي الإشارة إلى ذهاب گلگامش و أنكيدو إلى مصهر المعادن ، و قيام الحدّادين بعقد مجلس إستشاري لهم . هذه الإشارة تبين وجود "نقابة صنف" للحدادين في أوروك على الأقل منذ بداية الألف الثالث ق.م ، و أن الحاجة إلى تصنيع أسلحة جديدة و ثقيلة للمعركة القادمة ( أي إختراع التقنية الحربية الجديدة ) يتم الإيفاء بها عن طريق التشاور الجماعي بين المتخصصين من "أهل الصنف" لتقديم الحلول العملية و ذلك وفق مبدأ "أن الحاجة هي أم الإختراع". و إذا ما أخذنا بعين الإعتبار خلو السهل الرسوبي العراقي من الحديد و النحاس و القصدير ، فإن تطور صناعة التعدين في أوروك لابد أنها كانت تعتمد على إستيراد المعادن عبر النشاط التجاري الخارجي .

        ملاحظة / الهوامش سيرد شرحها في الجزء الأخير .
        قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

        Comment

        • نجمة الجدي
          مدير متابعة وتنشيط
          • 25-09-2008
          • 5278

          #5
          رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

          الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /5


          رابعاً/گلگامش و أنكيدو ضد خمبابا

          بعد وصف الملحمة رحلة گلگامش و أنكيدو إلى ما تسميه الملحمة صراحة "أرض الحياة " أو "جبال لبنان و سوريا" ، و بعد سرد گلگامش وقائع خمسة أحلام مرعبة تراءت له في منامه و يتولى أنكيدو تفسيرها كلها لصالـحه و يشجعه على المضي قدماً في مسعاه لقتل خمبابا ، يتواجه الإثنان مع خمبابا أخيراً :

          "لقد بلغنا مكاناً لاينبغي لبشر تجاوزه
          لنجرد أسلحتنا و نوجها إلى بوابة خمبابا !"
          ... أبلغ گلگامش صديقه :
          "أنه مباغت مثل هجوم العاصفة خمبابا هذا
          الذي سوف يسحقنا مثل إله العواصف ."
          .....
          فتح خمبابا فاه للكلام
          قائلاً لكلامش :
          "دع الحمقى يا گلگامش يستشيرون الأجلاف و الهمج !
          ما سبب مجيئك هنا أمامي ؟"

          "تعال يا أنكيدو ، أنت يا هلام بيض الأسماك ،
          يا من لا يَعرف أباه ،
          يا فرخ الغيالم و السلاحف ،
          يا من لم يرضع حليب الأم !
          يا من راقبته و هو شاب ولم أتحرش به ،
          تُرى ، أكان ...ك يُشْبِعَ معدتي ؟

          انك بالخيانة تأتي الآن بگلگامش أمامي ،
          و تقف هناك يا أنكيدو كمقاتل غريب !
          سأقطع عنق و مريء گلگامش ،
          و أرمي لحمه لطير الجراد و العقبان و النسور !"

          فتح گلگامش فاه
          مخاطباً أنكيدو :
          "يا صديقي ، لقد انقلبت سحنة خمبابا !
          و رغم البسالة التي بلغنا بها منزله لقهره ،
          إلا إن قلبي لا يؤاتيني ...."

          فتح أنكيدو فاه ليتكلم
          مخاطباً گلگامش :
          "لم تتحدث يا صديقي بحديث الضعفاء ؟
          إن كلماتك المثبطة تؤرقني .

          ياصديقي إن مهمتنا واحدة ،
          و مايزال النحاس يصب في قوالب الأسلحة .
          فهل نجمر المصهر ساعة فحسب ؟
          و هل ...الفحم لساعة ؟
          إن من يكسر السوط يجلب الطوفان .

          لا تتخاذل ، و إياك و الإنسحاب ،
          ...و أجعل ضربتك هي القاصمة !"


          ضرب گلگامش الأرض ... و واجهه برأس شامخ ،
          و عند كعبيه إنفلقت الأرض .
          فدمر بدورانه قمم جبال سوريا و لبنان ،
          و اسودَّ الغمام الابيض ،
          و انهمر الموت عليهما كالضباب .

          فارسل شمش على خمبابا الرياح القوية :
          رياح الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب ؛
          و الصاعقة و القارعة و العاصفة و الإعصار ؛
          ريح الشيطان و ريح البرد و دوامة الرياح .

          هبت الرياح الثلاثة عشر ،
          فاسود وجه خمبابا و تسمر في مكانه .
          عجز عن الكر أو الفر ،
          عندها تمكنت أسلحة گلگامش منه .

          فتوسل خمبابا بگلگامش للإبقاء عليه قائلاً :
          "انك مازالت في مقتبل العمر ياگلگامش ،
          فقد ولدتك أمك تواً و أنت حقاً أبن ننسون البقرة البرية.
          لقد سويت الجبال بإرادة شمش ،
          انك ابن لب أوروك ، أنت الملك گلگامش !

          ... ياگلگامش ، إن الرجل الميت لا يستطيع ...
          حياً من إجل سيده ...
          إبقِ على حياتي ياگلگامش ...
          و دعني أبقى هنا أحكم بإسمك غابة الأرز...
          ... الأشجار بقدر ما تريد...
          و ساحرس لك أشجار الآس ...
          والخشب الذي تفتخر به في قصرك !"
          .....
          فتح أنكيدو فاه ليتحدث ،
          مخاطباً گلگامش :
          "لا تصغي ياصديقي لكلمات خمبابا ،
          و تجاهل توسلاته !"

          فتح خمبابا فمه ليتحدث ،
          قائلاً لأنكيدو :
          "أنت خبير بدروب غابتي ، و بدروب...
          و تعرف جيداً كل فنون الخطاب .

          كان عليَّ أن أمسك بك ،
          و أعلقك على شجرة عند الطريق في الغابة ،
          كان عليَّ أن أنثر لحمك لطير الجراد و العقبان و النسور ..
          .....
          إن حياتي يا أنكيدو رهن كلمة منك ،
          قل لگلگامش أن يحفظ حياتي !"
          ....

          "فتح أنكيدو فاه ،
          مخاطباًگلگامش :
          "يا صديقي ، هذا هو خمبابا حارس غابة الأرز ،
          إقضِ عليه و أذبحه و بدد سلطته !
          قبل أن يتناهى إلى سمع أنليل الجبار خبر فعلنا هذا ،
          و إلا فإن الآلهة العظيمة ستغضب علينا .
          ...انليل في نفر و شمش في لارسا...

          وأقم لنفسك إسماً خالد الذكر :
          إسم كلكاش الذي ذبح خمبابا الشرير !"
          سمع خمبابا...و...لعنهما بمرارة :

          "عسى أن لا يكتب لهما العمر الطويل ؛
          و عسى أن لايدفن أنكيدو أحداً غير گلگامش ..."

          ضرب گلگامش عنق خمبابا ،
          و أنكيدو يشجعة ،
          فخر صريعاً و سالت الغدران بدماءه ...
          ......

          فتح انكيدو فاه
          مخاطباًگلگامش :
          "لقد قطعنا يا صديقي أشجار أرز شامخة ،
          فروعها تمتد إلى السماء .
          ساصنع باباً ارتفاعها سبع قصبات ،
          وعرضها قصبتين وسمكها ... (35)
          و إلى بيت أنليل على الفرات ساحملها ،
          ليفرح به أهل نفر ،
          و يهنأ بها أنليل ."
          ....
          صنعوا مركباً و وضعوا خشب الأرز عليه ،
          و أمسك أنكيدو بالدفة ،
          وگلگامش يحمل رأس خمبابا !

          أول ملاحظة بصدد النص أعلاه هو تبادل الأدوار بين أنكيدو و گلگامش بخصوص مواجهة خمبابا عبر جملتي : " لم تتحدث يا صديقي بحديث الضعفاء ؟ إن كلماتك المثبطة تؤرقني ." وهذا ما يؤكد ملاحظة أن شخصيتي گلگامش وأنكيدو تتوحدان بعد عناقهما التاريخي في أسواق أوروك بحيث يصبحان شخصية واحدة برأسين ، أو رأس واحد لشخصين . و تبادل الأدوار هذا يساهم في إدامة "الأحتكاك" التكاملي بينهما ضمن وحدة واحدة ، و تطوير حبكة الفعل الدرامي للملحمة مثلما نراه في التردد بين قتل خمبابا و الإبقاء عليه .
          و رغم أن قتل خمبابا كان مطلوباً على الأقل من الناحية الإعتبارية بإعتبار أن الظفر برأسه هو الرمز للإنتصار ، إلا أن قتله لا يبدو أمراً ضرورياً بعد أن أبدى إستعداده التام للتعاون مع گلگامش و التحول إلى تابع مطيع له يؤمن تجهيزات منتظمة من الأخشاب لأوروك . و يمكن تصور أن قتله له دلالاته الرمزية المهمة ، و منها إعلان انتهاء ملكية خمبابا لغابة الأرز المقدسة كثروة إقتصادية ، و من ثم التأسيس لحق گلگامش – الحالي و المستقبلي – في إقتلاع ما يريد من أخشاب منها لحساب أوروك ، و ليس أقلها بناء المعابد للآلهة في بلاد سومر . و إذا ما شئنا التعمق ، فيمكن إعتبار خمبابا حارس غابة الأرز ممثلاً لطبقة من جماعة الرعاة الاحرار الذين يستوطنون الغابة و يعتاشون على مواردها على نحو جماعي ضمن إطار غلبة إقتصاد جمع القوت الممتزج بالإقتصاد الرعوي ؛ و أن مقتل خمبابا هو التعبير الرمزي لأنتهاء سلطة هذه الجماعة الإقتصادية بإنهاء القاعدة المادية الذي يرتكز عليها هذا الإقتصاد لصالح إقتصاد الملكية الزراعية ، و إلإستحواذ على موارد الطبيعية لتركيز الثروة بيد الطبقة الجديدة . إذن فخمبابا هو في الملحمة ليس إلا نسخة غابات جبال لبنان من إبن البرية أنكيدو قبل إنضواء الأخير في صف أساطين إقتصاد الجماعة الزراعية لأوروك ، و مصيره المأساوي المحتم يؤشر حتمية موت إقتصاد جمع القوت في الشام بفعل الغزو العراقي القديم ، مثلما يؤشر قيام المزارع قابيل بقتل شقيقه الراعي هابيل إلى هيمنة الإقتصاد الزراعي (36). و لذلك نجد خمبابا يذكِّر أنكيدو أنه لم يتعرض له بسوء عندما كان يأتي مع قطيعه لغابة الأرز بسبب أنتمائهما الطبقي المشترك ، و هو يعتبر إنسلاخه الطبقي عن إنتمائه السابق و إنتقاله إلى صف گلگامش و جلبه للأخير لغزو غابة الأرز المقدسة فعلاً "خيانياً" من قبل راعي المشاعة الذي "لا يعرف من هو والده" ؛ كما يعتبر إستشهاد أنكيدو بالأمثال لدفع گلگامش إلى الإجهاز عليه مجرد "دعاية تبريرية" جوفاء ليس إلا . أما اللعنات التي يصبها خمبابا على گلگامش-أنكيدو فستتحقق كلها ، مثلما ستتحقق لعنات أنكيدو على شمخة بعدئذٍ . لماذا ؟ لأنها "دعوة مظلوم" ، كما هو واضح ، بسبب سيادة شريعة الغاب في فعل قتله ، و ليس إعتبارات سلطة الحق و التفاوض ؛ خصوصاً و أن خمبابا يوافق – مثل أنكيدو قبله - على الصلح مع گلگامش وفق مبدأ "إنضم إلى صف من لا تقوى على دحره" ، و أن گلگامش يميل أولاً إلى القبول بسلام التراضي هذا لولا إلحاح أنكيدو عليه بالرفض و اللجوء إلى فعل القتل. وفي هذا مؤشر إلى تفضيل فعل الإبادة للخصم في "الفتوحات" حيثما تصبح الهيمنة الإقتصادية-السياسية على المحك .
          و يلاحظ أن المصير التراجيدي لخمبابا يتسبب به الإله شمش بعد أن نجح گلگامش في كسبه إلى صفه في الصراع ، على غفلة من الإله إنليل حامي خمبابا ، و لهذا فإن أنكيدو يستعجل گلگامش لقتل خمبابا قبل أن يتدخل إنليل لصالحه . هكذا تتجلى جدلية إنتقال صراع المصالح البشري إلى صراع المصالح بين الآلهة و هي تصطف إلى جانب هذا الطرف ضد ذاك في الصراع ؛ فلكل قوم آلهتهم الأثيرة التي ترعى مصالحهم ، و لابد لآلهة التشكيلة الإجتماعية الإقتصادية الثورية الصاعدة أن تنتصر على آلهة التشكيلة الناكصة المهددة بالإندثار . أما إشارة النص إلى أن الغدران قد "سالت بدمائه" فإذا ما إستبعدنا عنها الإعتبارات الإسلوبية للمبالغة – و هي إعتبارات جدية – فقد نمسك بخيط رفيع يشير إلى المذبحة المفترضة التي حصلت للمدافعين عن غابة الأرز خلال تلك الحملة العسكرية .
          قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

          Comment

          • نجمة الجدي
            مدير متابعة وتنشيط
            • 25-09-2008
            • 5278

            #6
            رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

            الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /6




            خامساً : گلگامش و أنكيدو إزاء عشتار و ثور السماء

            نقترب الآن من ذروة الصراع (climax) في الملحمة . فبعد عودة گلگامش منتصراً إلى أوروك ، تعشقه الإلهة عشتار و تعرض عليه الزواج منها . غير أن گلگامش يصدها و يهينها شر إهانة ؛ فتسارع عشتار إلى أبيها إله السماء آنو و تقنعه بتسليمها ثور السماء لكي ينتقم لها من گلگامش . و لكن گلگامش و أنكيدو يكتشفان نقطة ضعف (العدو) الثور بمباغتته من الخلف بدلاً من مواجهته ، فيـجهزان عليه أولاً ، ثم يوغلان في إهانة عشتار .

            غسل گلگامش شعره الكثيف و نظّف سلاحه ،
            و أرسل غدائر شعره على أعطافه .
            رمى جانباً لباسه الوسخ ،
            و تلفّع بالحلل النظيفة ، و بالزنار لفها ،
            ثم إعتمر تاجه .

            رنّقت عشتار المبجلة جمال گلگامش بإشتياق ، فنادته :
            "تعال يا گلگامش وكن بعلي .
            إمنحني ثمرك ، نعم إمنحني ،
            و لتكن زوجي و أنا زوجك !

            سأسرج لك عربة من اللازورد و الذهب ،
            عجلاتها من الذهب و قرونها من الكهرب .
            تسحبها الأُسوْد المصطفة و البغال الضخمة ،
            فتدخل بيتنا وسط عبق الأرز .

            و إذا ما وطأت قدماك البيت ،
            فستلثمهما العتبة و الدكة .
            و سينحني لك الملوك و الأمراء و الحكام ،
            و سيهبونك نتاج الجبل و السهل هدايا !

            و ستلد عنـزاتك ثلاثاً و تلد نعاجك التوائم ،
            و سيحمل حمارك أحمالا لا تقوى على حملها البغال .
            و سيعدو حصانك مجيداً في عربته ،
            و سيكون ثورك أقوى ثور يحمل النير !"

            فتح گلگامش فاه مخاطباً عشتار المبجلة :
            "إذا ما إتخذتك زوجة لي
            .........
            من اين سيأتي طعامي و زادي ؟
            فهل ستقدمين لي خبز الآلهة ؟
            و هل ستصبين لي شراب الملوك ؟
            .....
            من ذا الذي يقبل بك زوجة له ؟
            و أنت البَرَدُ الذي لا يورِّث أي ثلج ،
            و الباب الخلفي الذي لا يصد الزمهرير و لا الحر ؟

            أنت قصر يذبح .... الصناديد ،
            أنت فيل يمزق غماء رأسه ،
            أنت القير الذي يلوث أكف حامله ،
            أنت قربة الجلد التي تمزق أيدي حاملها ،
            أنت حجر الكلس الذي يوهن جدار "الأشلر".

            أنت مدك الأسوار عند الأعداء ،
            فردة حذاء تقرص قدم صاحبها .
            أي عرسانك إستطاع تحملك أبداً ؟
            و أي صنديد من مقاتليك صعد السماء ؟

            تعالي أقص عليك قصص عشاقك :
            لقد أخذت دُموزي حبيب صباك ،
            ........... من ساعده ،
            و حكمت عليه بالنواح عاماً بعد آخر . (37)

            و عشقت طير الـ" ألألولو" المرقش ،
            و لكنك ضربته أرضاً و كسرت له جناحها .
            و ها هو يقف في الغابات و يصرخ "جناحي! جناحي !" (38)

            و أحببت الأسد الكامل القوة ،
            و لكنك حفرت له سبع حفر وسبعاً .

            و أحببت الحصان الشهير في الحروب ،
            فحكمت عليه أن يكون مصيره السوط و المهماز و اللجام .
            و جعلت مصيره العَدْوَ سبع فراسخ كل يوم ،
            و كتبت عليه شرب الماء المطيَّن .
            و كتبت على أمه "سليلي" البكاء على الدوام .

            و أحببت الراعي صاحب القطيع ،
            الذي منحك أكواماً من الخبز الفاخر ،
            و ذبح الخرفان لك يوماً بعد يوم .
            و لكنك ضربته و مسخته ذئباً . (39)
            و يطارده الآن رعاته الشبان أنفسهم ،
            فيما كلابه تنهش فخذيه .

            و أحببت "إيشوللانو" بستاني أبيك ،
            الذي كان يجلب اليك التمر في السلة
            كل يوم لتزدهي مائدتك .
            فرمقته و قابلته ،

            و قلت له ”تعال يا أيشيللانو ،
            دعني أذق رجولتك !
            مُدَّ يدك و مسِّد لي مفاتني !"

            فاجابك أيشيللانو:
            "و ما حاجتك بي ؟
            ألم تخبز أمي فآكل خبزها ،
            حتى أكل خبز الخنا و العار ؟
            و هل ألوذ بالبردي من الزمهرير ؟

            فلما سمعت قوله ، ضربته ومسخته قزما ،ً
            و أشغلته وسط همومه .
            فلا هو بالصاعد و لا هو بالنازل ،
            فهل ينبغي لك أن تعشقينني لكي يكون لي نفس المصير ؟ "

            فلما سمعت ألإلهة عشتار مقالة گلگامش ،
            إستبد بها الغضب وصعدت إلى السماء .
            و عرَّجت أمام أبيها آنو ،
            و بحضور إمها "آنتم" سالت دموعها و قالت:
            "يا أبتاه ، إن گلگامش يحقُّرني مراراً ،
            و هو يفتري أفحش الإفتراءات عليَّ ،
            إنّه يقذف بي و يشتمني أيضاً .

            فتح آنو فاه للكلام
            قائلاً للجليلة عشتار :
            "إيه ، ألم تكوني أنت التي إستفزيتي الملك گلگامش
            و لذلك فقد إفترى أفحش الإفتراءات عليك
            و قذف بك و شتمك أيضاً ؟"

            فتحت عشتار فاها لتتحدث ،
            قائلة لأبيها آنو :
            "يا أبتي ، أرجوك أن تسلمني ثور السماء ، (40)
            كي أذبح گلگامش في عقر داره !
            فإن لم تسلمني ثور السماء ،
            فسأنسف بوابات العالم الأسفل حتى مثوى ساكنيه .
            و أمنح العالم الأسفل قيامته ،
            و أبعث الموتى لياكلوا الأحياء ،
            و أجعل عديد الموتى يكتسح الأحياء !" (41)

            فتح آنو فاه و قال لعشتار :
            "إن أردت مني ثور السماء ،
            فاجعلي الأرملة في أوروك تكتنـز محصول الحنطة لسبع سنين ،
            و إجعلي المزارع يجمع أعلاف سبع سنين ." (42)

            فتحت عشتار فاها وقالت
            لأبيها آنو :
            " قد إكتنـزت .......... فعلاً ،
            و ........... قد أنبتُّ فعلاً .

            و الأرملة في أوروك قد إكتنـزت محصول الحنطة لسبع سنين ،
            و المزارع جمع أعلاف سبع سنين .
            و بغضب الثور سأنتقم لنفسي ."
            سمع آنو كلام عشتار ،
            و وضع بيديها حبل خطم الثور .

            يوضح النص أعلاه أبعاد الرؤية السومرية-الأكدية لشخصية إلهة الحب و الخصب و الحرب عشتار و هي أقوى إلهة أنثى في مجمع الإلهة السومري-الأكدي (أسمها السومري إنانا) . لما كان الإنسان العراقي القديم قد صور أصلاً كل الآلهة في هيأة البشر ، لذا فإن صياغته لأخلاق الآلهة كانت بشكلها العام صياغات تتماهى مع الأخلاق البشرية "الأرضية" البحتة ، و التي هي أبعد ما تكون عن التسامي و المثالية . هذا الإبتعاد عن المثالية السماوية يتجلى بشكل أوضح من غيره في تصويرهم للإلهة عشتار لكونها إلهة أنثى ، و ذلك ضمن سياقات صناعة الوعي و الثقافة الذكورية المنحازة في المجتمع العراقي القديـم . و لهذا نجد رسمهم لشخصيتها في ملحمة گلگامش يعكس كل رذائل الرجال الطامعين المستهترين ، و لكن بإسم إمرأة . و يمكن إجمال مكونات هذا التصور بالنقاط ألمدرجة أدناه :

            • الغلمة "الشبق الجنسي".
            • الإغواء بالثروة و الجاه .
            • الإستحواذ و الخيانة الزوجية .
            • الطمع و إستغلال الآخرين .
            • الغضب الأعمى و الغيرة .
            • حب الإنتقام .
            • تهديد الآلهة .
            • الأستهتار بمصائر الرجال و الناس .

            و عملية "التفريغ" لعورات الرجال هنا في شخصية عشتار لها أهميتها الإعتبارية المهمة لأنها تسهم في صناعة صورة الأنثى (العشيرة : من العِشْرة) المحكومة بالمفاسد العشتارية أعلاه و غيرها بحكم "طبيعتها أصلاً"، و هذا ما يسوغ مراقبتها دائماً، و التشكيك في نوايا كل أعمالها ، و معاقبتها بصرامة لأدنى خطأ ، و إحتقارها كمخلوق أدنى من الـرجل ، و بضمن ذلك شتمها بشكل مقذع و من دون مسوغ و لا رادع مثل شتم گلگامش لعشتار . كما أن هذا التصور يوفر تسويغاً مريحاً لآثام الرجال بإتاحته لهم التبرير الكهنوتي لمسح هذه الآثام بقرون عمامات الآلهة و بإرادتها بإعتبار أنها هي الطرف الذي يضع نواميس الشر مثلما يضع نواميس الخير . وهذه الصورة قريبة من الصورة التوراتية المعهودة لحواء التي أغوت أدم بأكل التفاحة و سببت سقوط الأنسان . و مثلما لا يمكن إلقاء اللوم في سقوط الإنسان على عاتق آدم – لعصيانه أوامر ربه – بسبب إغواء حواء له ، فإنه لا يمكن أيضاً إلقاء اللوم أي رجل في إرتكابه المعصية طالما أن هذه المعصية تحصل مع المرأة أو بحضور المراة ، لأن الذنب يقع دائما عليها بإعتبارها كبش الفداء المتخصص بمسح أدران آثام الرجل .
            و الدليل النصي الأول لإجراء عملية التفريغ و الإسقاط هذه لوساخات الرجل على رأس المرأة نجده في القصة السومرية المقابلة لقصة حواء التوراتية أعلاه ، ألا و هي أسطورة "إنكي و ننخورساك"(43) التي تعود للألف الثالث ق.م. ففي هذه القصة الأقدم – التي تتأسس قصة سقوط آدم التوراتية عليها أصلاً – تعرض الحقائق كما هي ، و ليست بالمقلوب مثلما تفعل التوراة . و تصف هذه الأسطورة حياة الآلهة و الإنسان في أرض السعادة المسماة "دِلمون" المشرقة و النظيفة والتي تجري فيها أربعة أنهار (جنات تجري من تحتها الأنهار)، حيث لا وجود للأمراض و لا الحيوانات المفترسة و لا الحشرات اللادغة و لا الترمل و لا الشيخوخة و لا الطمث النسوي و لا الموت . و يتولى الإله أوتو-شمش جلب المياه العذبة للساكنين . و في هذا الفردوس ، تتولى الإلهة الأم ننخورساك (التجسيد السومري القديم لفكرة المرأة الخالقة للحياة أو أم المخلوقات ) زراعة وإنماء ثمانية أنواع من النباتات من الماء . ثم يقوم الإله الذكر إنكي بقطع و إلتهام الخيرات الزراعية الثمانية تلك . فتحل عليه لعنة ننخورساك ، و تمرض ثمانية من أعضائه ، و يشارف على الموت ، و تتوارى ننخورساك (المشاعة الأمومية) عن الأنظار . و بفضل ذكاء الثعلب (طبقة كهنة المعبد) ، يتم إقناع ننخورساك (المرأة المهانة التي تترك البيت) بترك مخبئها و العودة لإشفاء (أخيها و زوجها الرجل) إنكي . و من الأعضاء التي تشفيها ننخورساك هي "ضِلع" إنكي ، و هي تفعل ذلك بخلقها للإلهة "نِنْ-تي" ، و لإسمها معنيان: "سيدة الضلع" ، و كذلك "السيدة التي تـحيى" (= حوّاء التـوراتـية) (44).
            و لا يمكن المبالغة في الأهمية الرمزية لهذه القصة . فننخورساك هي الإلهة الأم (و أصلها هو "الأرض الأم" = المشاعة الإمومية )، وهي التي تتولى إستنبات وتنمية الخيرات الزراعية في الإقتصاد الأمومي – بفضل الماء الذي يجلبه للأرض الإله الذكر "اوتو-شمش" – وذلك عبر عمليات شاقة تشتمل على خلق ثلاثة أجيال من الإلـهات مـن المـاء ( = تطوير المحاصيل عبرالزراعة الإروائية) . و عهدها الأمومي هو عهد قيام الفردوس على الأرض في الذاكرة الجماعية للعراق القديم . و مع تطور الإقتصاد الزراعي و إزدياد خيراتـه ، يأتي الرجل "أنكي" ( = المجتمع الرجولي) ، فيسرق لنفسه الثروات الإجتماعية التي خلقها و أنماها المجتمع الأمومي ، فتلعنه النساء اللائي إغتصب منهن الرجل القاعدة الإقتصاديـة للمشاعة ، و يقاطعن الرجال السرّاق ، و يقسمن "على عدم النظر اليهم حتى وفاتهم". فيخسر الرجال جراء ذلك عون النساء اللائي يحتاجون ألى أجسادهن و كدهن و تجربتهن التي تنقصهم في الإنتاج الزراعي و في معالجة الأمراض الإجتماعية ، الخ . و يكاد المجتمع الذكوري أن يشرف على الإنقراض (الموت) جراء مقاطعة مجتمع النساء له لكون المرأة هي أصل الحياة و الخلق و أصل الرجل نفسه . و لكي يستطيع الرجال تفادي التفسخ و الموت فإنهم يلجأون إلى نشر الدعايات المخادعة (الثعلب = طبقة رجال الدين) ليس لإستعادة خدمات المرأة حسب ، بل وكذلك لإتمام تدجينها ، و إقناعها بالتخلي عن مقاطعة أو معارضة النظام الجديد ، و لتكريس إعادتها في خدمة المصالح الحيوية للمجتمع الرجولي . ومع أن النص الوارد إلينا لهذه القصة مخروم في موضع إدراج وسيلة الإقناع التي يستخدمها الثعلب لحمل ننخورساك على العودة ، إلا أنها لا يمكن أن تبتعد كثيراً عن تعويضها عن "سيادتها الإجتماعية-الإقتصادية" بمنحها "السيادة الدينية : السيطرة على أملاك المعابد" الذي تلتحق به أغلبية نساء المشاعة . و لهذا السبب ، يزدهر إقتصاد المعبد بعدئذ بفضل إنضمام نساء المشاعة إليه ، و تحولهن من قوة عمل ضمن إقتصاد المشاعية إلى قوة عمل مسخرة لخدمة إقتصاد المعبد ، و بضمنه البغاء المقدس ، و كذلك بفعل خلق الوعي الإجتماعي الجديد عبر الدور التخديري الجديد و المهم الذي يكتسبه كهنته في الصراع. يلاحظ هنا أن كلاً من جنة الفردوس للمجتمع الأمومي و جنة أقتصاد المعبد هما ثمرتا جهد المرأة ، تماماً مثل جنة بيت العائلة الحالي ، و أن جهنم هي نتاج إستحواذ الرجل على السلطة و ليس إغواء المرأة (حواء) حواء للرجل (آدم) . و هكذا تعود ننخورساك إلى دورة المجتمع و الإقتصاد الجديدين ، فتـضع الرجل المريض إنكي "عند فرجها" ، لتشفي أمراضه الواحد بعد الآخر كما لو كانت تطببه بإعادته إلى رحم إمه و إعادة إنشاء أو تخليق كل عضو مريض من أعضائه (يلاحظ تقارب مبدأ هذا الأسلوب في التطبيب مع تقنية تخليق الخلايا الجذعية الحالي). و الستراتيجية المستخدمة هنا لإقصاء سلطة مجتمع النساء هي من نمط "التمَسْكُن للتمكّن" بإستغلال المشاعر الرؤوم للمرأة بغية إستدرار عطفها على "أخيها أو إبنها"الرجل "الضائع" بدونها ، وحبس مشاعيتها الجنسية ضمن أسوار المعبد و لمنفعته ، وتحريم التزوج بها . غير أن البراءة و السعادة تنتهيان مرةً وإلى الأبد على أرض دلمون الفردوسية بعد غياب مجتمع المشاعة الأمومي بسبب ظلم المحتمع الرجولي الذي يسرق الثروة الإجتماعية ، و ليس بسبب ظلامة المرأة التي تخسر دورها الإقتصادي-الأداري-الإجتماعي المتقدم . و مثلما يحصل دائماً في الصراع بين المرأة و الرجل ، فإن النسخة التوراتية من هذه الأسطورة تحول الظالم إلى مظلوم ، و العكس بالعكس . و لا بد أن نلاحظ هنا – عرضاً – قوة المعرفة الحدسية الشعبية للسومريين والتي تجعلهم يربطون ، بحق ، بين نشاط الشمس و بين سقوط الأمطار. و كإنعكاس لفقدان ننخورساك (الولّادة و أم كل الأحياء) لمنـزلتها السامية ، نجد أن ترتيب إسمها في قوائم إثبات الآلهة الأقدم عهداً يرد متصدراً قبل إسم الإله أنكي ، في حين أن القوائم الأقرب عهداً تدرج إسمها بعده (45).
            أما النص الثاني الذي يشير إلى المجتمع الأمومي التي تسيطر عليه المرأة فهو ذلك المنقول آنفاً عن الصراع بين عشتار و گلگامش في الملحمة . هنا نجد أن الإلهة عشتار – بإعتبارها سيدة المشاعة الأمومية – تحتفظ لنفسها بحق إختيار أزواجها حسبما تريد لإقتدارها على الصرف على بيت الزوجية. و عندما يغضبها هؤلاء الأزواج بحماقاتهم أو تجاوزاتهم عليها ، فإنها تعاقبهم مثل كل سيدة حازمة تتحكم بمصائر أفراد المشاعة التابعين لها. و لما كان الإنسان العراقي القديم قد صوّر الآلهة في هيأة البشر، لذا فإن أخلاق الآلهة هي أخلاق بشرية . و لكون عشتار هي سيدة المشاعة الأمومية ، فهي قادرة على "دفع مهر الرجل" الذي تختاره هي بالذهب و اللازورد و المواشي وغيرها ، أي نقداً أو عيناً ؛ في حين ينبغي على الرجل الذي يريدها زوجةً له أن يتولى هو تقديم المهر لـها . و تضم قائمة أزواجها العديد من الشخصيات الأسطورية التي ستستعيرها من الفولكلور العراقي القديم بعدئذٍ كل الأساطير الشعبية للمصريين و اليونانيين والرومان إلى اليهود و المسيحيين و العرب . و لكن دعوة عشتار لگلگامش بالزواج لا تلقى آذاناً صاغية منه ، فلماذا ؟ ربما لأنها دعوة إلى العودة إلى سيادة المجتمع المشاعي الأمومي المفكك ، و هذا ما يرفضه الملك گلگامش إنسجاماً مع مصالح و أسس ثقافة المجتمع الرجولي الذي يترأسه ، و القائم على فرية إلصاق كل العورات بالمرأة لـ "حرقها إجتماعياً" بتلويث سمعتها أو تلبيسها لبوس إبليس - مثلما يحصل في الصراع مع خمبابا - لمنعها من التسيّد إقتصادياً من جديد على حساب مجتمع أوروك الذكوري . و لا يمكن تصور وجود سبب مقنع آخر لرفض گلگامش الزواج بعشتار ، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن عشتار إلهة قوية ، و أن گلگامش ليس إلا ثلث إله ، و أن زواجه منها يمكن أن يهبه الخلود الذي ينشد . ولكن الملحمة لا تتحدث بالقلم العريض هنا، و تكتفي بالترميز الملحمي ، و إن كانت تنوه تلفيقاً إلى خشية گلگامش من خيانة عشتار له (مثلما فعلت مع أزواجها السابقين) و تدنيسها لجسده (كناية القير الملوث للبدن) و ذلك ضمن ثقافة "دونية المرأة" التي تمارس حرية الإتصال الجنسي بالنسبة للرجل و إرتباطها بالشر . إذاً ، فان رفض گلگامش للزواج من عشتار مرده تحريم المجتمع الذكوري على الرجل الزواج ببغي المعبد (و التي تطلق عليها النصوص الأكدية إسم "العشتارية" ، أي نسبة إلى عشتار) لسببين هما : ملكيتها للمعبد و حرية الإتصال الجنسي التي تتمتع بها ، كل هذا رغم ولع گلگامش السابق بالعذراوات من بنات العوائل الأوروكية (46).
            أما موضوعة تزاوج البشر مع الآلهة فهي فكرة أثيرة في العراق القديم ، و تنطلق من مبدأ وجود إتصال مادي حسي متواصل بين الإلهة و الناس ، سواء كان ذلك بالإيمان بكون الآلهة تأكل و تشرب الارزاق التي يقدمها لها البشر لتأمين الموارد للمعبد ، أو الإيمان بإمكان الإتصال فعلياً بكل إله عن طريق الأتصال جنسياً ببغايا المعبد الخاص به و انفس السبب الإقتصادي أعلاه . وكل هذه المعتقدات توضح فقدان الحدود الفاصلة بين الناس و الآلهة ، و إيمان العراقيين القدماء بالمنـزلة الراقية للإنسان الذي يستطيع ليس فقط معارضة إرادة هذه الآلهة أو تلك – بعون إلهه الحامي شمش – بل و كذلك مقارعة الآلهة والإنتصار عليها أحياناً . و لقد إستعارت الديانتان اليهودية و المسيحية فكرة إتصال البشر الحسي المباشر بالرب من الديانة السومرية ، على الأقل بالنسبة إلى موسى (كليم الله) و عيسى (إبن الله) .
            نعود إلى الصراع بين گلگامش وأنكيدو مع عشتار و الثور السماوي . تنص الملحمة نفسها على أن الثور السماوي يرمز إلى الجفاف الذي يدوم سبع سنين (كناية عن المدة الطويلة). و بالنسبة إلى أرض العراق الرسوبية فإن شحة الأمطار و مياه الأنهار موسماً بعدآخر يمكن أن تكون له آثاره الكارثية على الزراعة و الرعي والإقتصاد والمجتمع ككل. و لكون الإلهة عشتار هي إلهة الخصب ، لذلك فإن غضبها على الملك گلگامش يجر الويلات على شعب أوروك . و مثل قصة نصيحة يوسف لفرعون المستعارة من هذه الملحمة ، يبدو أن عشتار قد جعلت أرامل أوروك و مزارعيها يتحسبون لعهد المحل القادم ، فيصار إلى تخزين الأرزاق مسبقاً ، و هذا ما يخفف من النتائج السلبية للجفاف . و على العكس من قصة يوسف ، الذي تصوره الحكاية و هو يصد حب سيدته مثل گلگامش ، وإن كان الصحيح هو العكس بدليل الحكم عليه بالسجن ، فإن الذي ينبِّه شعب أوروك إلى خطر المجاعة القادمة و يساعدهم في إعداد العدة لها هي عشتار و ليس گلگامش . و هذا ما يثبت أن الإلهة عشتار لم تكن تريد العقاب الجماعي لشعب أوروك ، و إنما المقصود هو معاقبة جناية مليكهم گلگامش الجاحد لحبها ، و إن كانت مصائر الشعوب لا يمكن أن تنفصل دائماً عن مصير حكامها .
            ثم تأتي إشارة الملحمة إلى خوارات الثور التي تودي بحياه العشرات من أهل أوروك ممن يسقطون في الهاوية ، وهي إشارة تقبل أكثر من تفسير واحد للكارثة الحاصلة : العواصف ، الصواقـع ، الـهزات الأرضية ، البراكين ، النيازك الساقطة من السماء ، أو كلها مجتمعة ، ربما بإستثناء البـراكين التي لا وجود ظاهراً لها على أرض العراق . أما الثور نفسه فيبدو أنه التجسيد المادي للكارثة و الخطر المحدق بشعب أوروك – بضمنه الغزو الأجنبي بقيادة ملك يتدرع باللازورد – خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار الكمية الكبيرة من اللازورد التي يغنمها منه البطلان ، و السهل الرسوبي العراقي يخلو منه تماماً . هنا الملحمة تفسر تلك الكارثة التي أحاقت بشعب أوروك بسبب الغزو الخارجي على إعتبار أنها التجلي الفعلي على الأرض للغضب السماوي على گلگامش الملك . أما أسلوب سيطرة گلگامش (الثور الأرضي) و أنكيدو (راعي البر) على الثور السماوي و نحره فتذكرنا بإسلوب قتل الثيران في كريت القديـمة و أسبانيا حالياً . و أخيراً ، فإن موضوعة القتل البطولي للثور – مثل أغلب الموضوعات الأخرى للملحمة – ستصبح ثيمة أساسية في أساطير ألعديد من الشعوب بعدئذٍ لتوكيد القوة الجسدية للإنسان-البطل في قراع الإعداء .
            أما ألفعلة العدوانية التي تثير الإستغراب فهي قيام أنكيدو برمي فخذ الثور المقدس على الإلهة عشتار ، و التي لا تتناسب مع ما عهدنا فيه من الحرص على الإستقامة و التروّي و عدم التهور خلال غزوة غابة الأرز ، و في سياق حمله گلگامش على الإقلاع عن التمسك بحق الليلة الأولى . هذه الفعلة العدوانية غير الضرورية (الخطأ المأساوي : Tragic Flaw) إزاء عشتار تبين أن أنكيدو قد أصبح ملكياً (=گلگامشياً) أكثر من الملك گلگامش نفسه ، فـعلام هـذا التحول ؟ ذكرنا سابقاً فكرة إتحاد شخصيتي گلگامش و أنكيدو و تبادلهما الأدوار منذ عناقهما في ميدان أوروك . أما الآن ، فيجب أن نعرج على واقع إن إتحادهما بات يشكل قوة بشرية (أرضية) هائلة و غير معهودة لا قِبَلَ حتى للأدوات الإلهية التقليدية (السماوية) على مواجهتها . و لما كانت هذه القوة الأرضية الهائلة غير معصومة من التهور – مثل قذف أقوى الآلهة بفخد إله سماوي قتيل مقدس – لذا فإن هذه القوة الجديدة الغاشمة باتت تتهدد سلطة الآلهة نفسها ؛ و لا بد للآلهة بالتالي أن تعمد إلى إضعافها بـ"تفتيتها" بأن تجعل أحدهما كبش الفداء للثاني مثلما سيتبين من المبحث التالي . و يبدو أن فعل الإضعاف هذا آتٍ للقوة المتهورة الأعظم حالياً و هي الإمبريالية الأمريكية سواء بالتفتيت بانسلاخ أوربا و أمريكا اللاتينية عن فلكها أو عن طريق خلق المعادل الإيجابي : الصين ، الهند ، روسيا ، إلخ .

            ملاحظة : شرح الهوامش سيرد في الجزء الأخير .
            قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

            Comment

            • نجمة الجدي
              مدير متابعة وتنشيط
              • 25-09-2008
              • 5278

              #7
              رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

              الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /7



              سادساً/ أنكيدو و الموت

              في الحلم يرى أنكيدو كبير الآلهة إنليل و هو يصدر بحقه حكم الموت . فيتصور أمامه البوابة العظيمة التي أقامها من خشب الأرز لمعبد إنليل ، و يلعنها لأنها لم تؤمن له الحظوة له عند إنليل . ثم يتجه بتفكيره إلى الراعي الصياد و شمخة اللذين كسباه للتمدين ، فيلعنهما . و لكن شمش (الكاشف عن الحق) يقنعه بالتراجع عن لعن شمخة ، و يذكّره بأفضالها عليه ، فيمنحها بركته مجدداً . ثم يرى حلماً ثانياً و قد أمسك به ملك الموت و أدخله في غياهب العالم الأسفل . وبعد أن يصف الحلم لگلگامش ، يمرض مرض الموت . و على فراش الموت ، يبث إنكيدو أحزانه لصديقه گلگامش ، و كيف أنه سيموت على فراشه بدل من أن يبني إسماً له بالإستشهاد في ساحة المعركة . و تلك ثيمة سيرددها بعده أغلب الفاتحين عبر التاريخ . و إستناداً إلى النص الناقص الذي لدينا ، فإن أنكيدو يموت في اليوم الثالث عشر من مرضه (يلاحظ شؤم الرقم الأخير). و في النص المجتزأ التالي سأركز على الأجزاء التي تكشف عن أبعاد الصراع بين أنكيدو و الموت .

              في الليل ، رقد الرجال في فراشهم ،
              و لما غفا إنكيدو رأى حلماً .
              فإستيقظ ليروي حلمه ،
              قائلا لصديقه گلگامش :
              "ما الذي جعل كبار الآلهة يعقدون مجلسهم ؟"
              .......
              ..... و جاء الفجر .

              بدأ أنكيدو كلامه مع گلگامش :
              "يا أخي ، أيّ حلم (رهيب) رأيت الليلة ،
              لقد إجتمع آنو و إنليل و إيا و شمش السماوي ."
              فقال آنو لإنليل:
              "هذان اللذان نحرا ثور السماء ،
              و قبله خمبابا حارس غابة الأرز الكثيفة ،
              إختر أحدهما للموت."
              فقال له إنليل :
              "ليمت أنكيدو و ليس گلگامش."
              فرد شمش السماوي على البطل إنليل قائلاً :
              " ألستَ أنت الذي أذن لهما بذبح الثور السماوي ،
              و كذلك فعلت مع خمبابا قبله ؟
              فلم ينبغي لأنكيدو البريء أن يموت الآن ؟"
              غضب أنليل البطل على شمش السماوي ،
              و قال له :
              "و أنت ، لم زحفت معهما كما لو كنت رفيقهما ؟"

              رقد أنكيدو أمام گلگامش ،
              و دموعه تسيل كالسواقي.
              و قال له :
              "يا أخي ، كم أنت عزيز عليَّ ،
              سوف لن يَدَعوني أصعد مرة أخرى لرؤياك .
              سأجلس مع الموتى ،
              و أعبر عتبة الموت ،
              و لن أرى أخي العزيز مرة أخرى ."
              .....
              .....
              رفع أنكيدو عينيه كمن يخاطب الباب
              خاطب الباب كما لو كانت إنساناً :
              "يا باب خشب الغابة الذي لا يعقل ،
              إن لي فهماً لا تملكينه .
              إخترت خشبك الفاخر من مسافة فرسخين ،
              حتى وجدت شجرة الأرز الشامخة .
              إن شجرتك يا باب لا تدانيها شجرة في غابة الأرز ،
              إرتفاعك إثنتان و سبعون ذراعاً ،و عرضك أربع وعشرون ذراعاً
              و سمكك ذراع واحد .
              لقد صنعت عمودك و محورك من الأعلى إلى الأسفل من قطعة واحدة ،
              أنا الذي صنعتك و حملتك و رفعتك في نفر .
              لو كنت أعلم أيها الباب أنك ستجازينني بهذا ،
              لو كنت أعلم أيها الباب أنك ستكافئينني بهذا ،
              لرفعت فأسي و لطوحت بك أرضاً ،
              ولحولتك ألى طوف عائم إلى إيبابّارا .
              لكنت إلى إيبارار ، معبد شمش ، قد جلبتك ،
              و لوضعت الأرز عند مدخل إيبابارا .
              و لأقمت تمثال طير الصاعقة و الثور العملاق ،
              ...... لوضعته عند مدخلك .
              لكنت ... المدينة .... شمش
              و في أوروك ......
              لأن شمش أصغى لقولي ،
              وفي الخطر ... أسعفني بالسلاح .
              أيتها الباب ، أنا الذي صنعتك و نصبتك ،
              فهل أستطيع الآن تهشيمك و إسقاطك ؟
              عسى أن يأتي بعدي ملك فينزل بك حقده ،
              أو ... يعلقك حيث لا يستطيع أحداً أن يراك ،
              و عسى أن يزيل إسمي و ينقش إسمه بدلاً منه ."
              .....

              لما سمع گلگامش قول صديقه أنكيدو ،
              سالت دموعه فجأة كالسواقي .
              فتح فاه و قال لأنكيدو :
              "أنت يا من أعطاك إنليل الفهم ،
              ومنحك الحكمة .... فكيف تجدف؟
              لم تتفوه بهذه الكلمات المجدفة ؟
              إن حلمك مخيف و لكنه غريب ،
              و شفتاك المحمومتان تأزّان كدبيب الذباب .
              إن الوهم كبير لأن الحلم غريب .
              و مثلما تورث الآلهة الحزن لمن يبقى حياً،
              كذلك الحلم يثير الحزن عند اليقظة .

              سأدعو لك متضرعاً أمام الآلهة العظيمة ،
              دعني أقصد شمش و أتوسل عند إلهك.
              و بحضورك سأصلي إلى آنو أبي الآلهة،
              و عسى المستشار العظيم إنليل أن يصغي لصلواتي بحضورك ،
              و عسى تضرعاتي أن تجد دالَّة عند إيا ،
              فسوف أصبُّ تمثاله بالذهب بلا حدود ."
              ......

              "يا صديقي : لا تبذل الفضة و لا الذهب ولا ....
              إن الكلمة التي يتفوه بها إنليل ليست مثل ...الآلهة .
              و الأمر الذي يصدره لا رجعة فيه ،
              و ما يمضي عليه... لا يمحوه .

              يا صديقي إن مصيري قد تقرر ،
              فالناس يموتون قبل أوانهم . "

              و عند الضياء الأول للفجر ،
              رفع أنكيدو رأسه يندب شمش.

              تحت أشعة الشمس سالت دموعه ،
              ......
              "أتوسل إليك يا شمش ، إن حياتي عزيزة ،
              أما الصياد صاحب الفخاخ ،
              الذي جعلني لا أبلغ شأو صديقي ،
              فعسى أن لا يداني أبداً صديقه .
              و عسى أن يُخرب كسبه و يُبدد رزقه ،
              و يُـبخس نصيبه أمامك ،
              فاجعل البيت الذي يدخله تغادره الآلهه من الشباك ."

              و بعد أن لعن الصياد حتى ارتاح قلبه ،
              قرر لعن البغي شمخة .
              " تعالي يا شمخة لأقرر مصيرك ،
              و ألعنك لعنةً تدوم إلى الأبد .
              سأنزل بك لعنةً عظيمة
              تلازمك من الآن فصاعداً .
              لن تنالي عائلةً تقرين بها عيناً،
              و لن تهنأي وسط الأهل .
              و لن تجلسي في غرفة العرس أبداً ،
              و ستوسخ الارض أجمل ثيابك .
              و سيلطخ السكارى ثياب عرسك ،
              و لن تصيبي أي شيء جميل .
              ....
              لا المأدبة و لا البركة تدخل بيتك ،
              و سرير السرور سيصبح تخت النكد .
              و في تقاطع الطرقات سيكون مكان جلوسك ،
              و عند الأطلال ستنامين و في ظلال الخرائب ستقفين .
              و ستنهش الأشواك قدميك ،
              و سيلطم خدك السكارى و الصاحون .
              و سيتهمك .... و يرفع الدعوى عليك ،
              و لن يسقف سطح بيتك أي عامل بناء .
              و سيعشعش البوم في غرفة نومك ،
              و لن تقام الولائم على موائدك .
              ......
              أنتِ التي أوهنتني أنا النقي البريء ،
              نعم في البرية أوهنتني أنا النقي البريء ."

              سمع شمش كلام أنكيدو ،
              و من السماء صاح بصوتٍ مباشر :
              "يا أنكيدو لم تلعن البغي شمخة ؟
              و هي التي أطعمتك الخبز اللائق بإله ،
              و سكبت لك الجعة اللائقة بالملوك ،
              و التي ألبستك أزهى الحلل ،
              و جعلتك رفيقاً لگلگامش الوسيم ؟

              والآن فإن صديقك و أخاك گلگامش ،
              سيوسدك سريراً مجيداً ،
              سيسجيك سرير الفخر ،
              و سيجعلك على يساره في كرسي .....
              .....
              و سيلثم قدميك كل حكام العالم الأسفل ،
              و سيبكيك و يندبك شعب اوروك ،
              و سيسود الحزن كل الناس عليك .
              و سيطلق گلگامش غدائر شعره حداداً عليك ،
              و سيرتدي فراء الأسد و يجوب البراري ."

              سمع أنكيدو كلمات البطل شمش ،
              فهدأ قلبة المكلوم ،
              و استكان صدره المجروح .
              "تعالي يا شمخة : سأثبت مصيرك .
              إن الفم الذي لعنك سيباركك أيضاً .
              سيغرم بك الحكام و الوجهاء أيضاً ،
              و لأجلك سيضرب الرجال على مبعدة فرسخ منك أفخاذهم ،
              و حتى مسافة فرسخين سيهزون لحاهم ،
              و ما من مقاتل يتوانى عن رمي حزامه لك ،
              و سيمنحك الجواهر و الذهب و العقيق ،
              و يهديك الأقراط و الحلي .
              ......
              و ستجعلك عشتار ... الآلهة تدخلين بيوت أغنى الناس ،
              و لأجلك سيترك الزوج زوجته و إن كانت أم سبعة (أولاد) ."

              ثم تملك القنوط ذهن إنكيدو ،
              فاضطجع و راح يتفكر .
              و صارح صديقه بأفكاره :
              "يا صديقي ، لقد رأيت حلماً الليلة .
              عصفت السماء ، فرددت صداها الأرض ،
              و أنا أقف وسطهما .
              فرأيت رجلاً متجهم الوجه ،
              مخيف القسمات كطير الصاعقة ،
              أكفه مخالب سبع و أظافره براثن نسر .
              أمسكني من شعري و سيطر عليّ ،
              ضربته و لكنه إرتد كالحبل متفادياً ضربتي .
              و ضربني فقلبني مثل القارب ،
              و تحت قدميه سحقني مثل الثور البري ،
              و ملأ جسدي بسمومه ."
              ......
              "إنقذني يا صديقي......
              لقدكنتَ خائفاً منه ، لكنكَ....
              ......ضربني و مسخني حمامة ."

              "شَدَّ ذراعيَّ مثل جناحي طائر ،
              و أخذني مأسوراً إلى بيت الظلام : مملكة إركاللا.
              إلى البيت الذي لا يغادره الداخل إليه ،
              إلى الطريق الذي لا عودة منه ،
              إلى البيت الذي يحجب الضياء عن سكانه ،
              الذين زادهم التراب و طعامهم الطين .
              هناك يرتدون ثياب الريش كالطير ،
              و لا يرون الضياء و يحيون في الظلام ...."

              يوضح النص أعلاه أن الآلهة هي التي تحدد مصير و مقدرات كل إنسان ، فمن يعيش من البشر بعز فهم أعزاء بمشيئة الآلهة ، و من يحيى بذل فهم أذلاء الآلهة . كما أن الآلهة هي التي تتحكم بحياة و موت الإنسان . رأيناها سابقاً و هي تخلق أنكيدو ، و نراها الآن و هي تحكم عليه بالموت . و لكن لماذا يقع إختيار الآلهة على موت أنكيدو و ليس گلگامش ؟ يمكن تحري الإجابة على هذا السؤال في ثلاث أو أربع مسائل مترابطة : أولاهما سماوية بحتة و ترتبط بالهدف الأصلي من خلق أنكيدو و المتمثل بكبح جماح تهور گلگامش و تسلطه على مواطنيه من أهل أوروك ، و هذه المهمة قد أنجزت ، و لم تعد هناك ثمة حاجة لوجود أنكيدو الذي أصبح "فائضاً" على اللزوم قدر تعلق الموضوع بـهذا الغرض . أما الثانية فهي أرضية و ترتبط بحتمية سيطرة إقتصاد إنتاج القوت على إقتصاد جمع القوت الذي يمثله أنكيدو و خمبابا قبله بعد نشوء دولة المدينة العاصمة القوية . أما الإحتمال الأرضي الثالث فهو موضوعة عدم و جود مكان (= مستقبل) للغريب الوافد في المدينة ، و حتمية عودته إلى أصله : التراب ، لكونه ، ببساطة ، غريب لا ينتمي إلى التمدين . و هذه الموضوعة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بسابقتها . أما الموضوع الواضح فهو إصرار أنكيدو على ذبح خمبابا ، وكذلك دوره في قتل الثور البري و رمي فخذه على عشتار . تعددت الأسباب و الموت واحد .
              و نلاحظ كيف أن الملحمة تصور إجتماع الآلهة كما لو كان إجتماعاً لكبار رجال العائلة الأبوية في أوقات الأزمات حيث لا مكان للمرأة (ننخورساك) في الإجتماع . الأب الأكبر آنو هو الذي يبدأ بالكلام ، و يحدد الخط العام للإجراء المطلوب : موت أحـد ثـنائي الخطر : گلگامش أو أنكيدو . و لا يناقش قراره أحد . بعدها يقرر إبنه الأكبر إنليل (إله الأرض و الرياح و الهواء و الروح ، و الذراع التنفيذي لآنو) أن الذي يجب أن يموت هو أنكيدو و ليس گلگامش ، و لا يعطي سبباً لهذا الأختيار . يعترض عليه شمش الأدنى منه منزلة على إختياره هذا لكونه هو الذي سمح للبطلين بقتل خمبابا و الثور السماوي ، أي أنه هو الذي يتحمل مسؤولية مقتلهما ؛ فيرد إنليل بكون شمش قد "رافقهما المسيرة كواحد منهما" ، أي أنه قد تواطأ أو إشترك معهما في فعل القتل . و لا يستطيع شمش إنكار ذلك ، فيسكت علامة على نزوله عند قرار مولاه إنليل ، و ينتهي الأجتماع . هنا تراتب المراكز هو الذي يحدد من هو صاحب الكلمة العليا . و لكن لماذا يستبقي إنليل گلگامش ؟ أغلب الظن لأنه الملك ظل الآلهة على الأرض ، علاوة على أعتبارات مواصلة السرد الملحمي . و يلاحظ هنا أن إتهام إنليل لشمش بالتواطؤ مع البطلين يستبطن فكرة أن موت گلگامش سيضعف من قوة شمش بإعتباره الإله الحامي له . الإجتماع عملي و شديد الإقتضاب ، و يبين أن مصلحة الكبار هي فوق كل الإعتبارات الأخرى .
              أما وصف أنكيدو لـ "بيت التراب" ، أو العالم الأسفل ، فهو يوضح فكرة العراقيين القدماء عن أحادية هذا العالم (أي عدم وجود ثنائية "الجنة" إزاء "النار") ، و عدم وجود بعث بعد الموت ، لكون هذا العالم هو "أرض اللاعودة" . فكل الموتى يؤخذون هناك بعد مسخهم طيوراً عند الوفاة ، و يحشرون حشراً فيه كما لو كانوا نزلاء أبديين لسجن هائل مظلم ، حيث لا تخضر الأشجار ، و تصاب كل الأحياء بالوهن الشبيه بالتخدير . و الوضع النهائي للموتى هناك هو وضع "ترابي" بكل معنى الكلمة . هنا تتكرر فكرة العودة "من التراب و إلى التراب" . و غياب فكرة الجنة في الآخرة أمر بالغ الأهميةً هنا ، لأنه يقطع السبيل أمام إستثمار هذه الفكرة كوسيلة لإقناع الطبقات المنهوبة لتحمل الظلم و الإستغلال ، و إرجاء الأنتقام من الظالم و إقامة العدل و التطلع إلى الرفاهية و الخلاص من الإستغلال إلى مرحلة مـا بعد الـموت . فبدون الموت لا تستطيع الآلهة السيطرة على البشر الأحياء والموتى في نفس الوقت ، و بدون الموت لا يستطيع الحكام و لا المستغلون إستغلال البشر و السيطرة عليهم . فبفضل حتمية الموت تستطيع الآلهة السيطرة على الإنسان لأنها تـحتكر لنفسها سلطة إنزال المـوت به . وهي لا تكتفي بهذا الإمتياز ، بل تلاحق الإنسان بمواصلة القبض على عنقه بعد الموت عن طريق تحـكمها بمصيره في العالم الأسفل . إذن فغاية خلق الأنسان أصلاً هو إستبقاءه خادماً أبدياً للآلهة في الدنيا (العالم الأرضي) ، و نزيلاً عاجزاً لسجن الآخرة (العالم الأسفل) .
              ثم تأتي موضوعة مناجات إنكيدو للباب الخشبي الذي أقامه لمعبد آنو . وهذه قـطعة فنـية فريدة و متقدمة على زمنها في صياغـة "الصوت" ( tone ) . و الباب هو تعبير المتحدث الإنسان عن مرارة موقفه الإستنكاري من المخاطَب الجماد و إزاءه . هنا الباب الجامد يمثل سلطة الإله إنليل الحيوية على الأرض . و مرارة موقف أنكيدو هي التعبير الذاتي عن الإكتشاف المتأخر للإنسان لجحود الآلهة لخدماته الجليلة لها ، و إستهتارها العشوائي بمصيره . و رمزية فكرة تدمير الباب أو قيام ملك آخر بوضعها "حيث لايراها أحد" واضحة ، و تؤشر رغبة الإنسان المخذول في الإنتقام من الآلهة التي تتخلى عن الإنسان عبر محو رموزها المادية – على الأقل تلك التي ساهم المخذول نفسه في إقامتها – و بالتالي الحكم عليها بالموت نسياناً . و يبدو أن الزمن قد حقق أمنية أنكيدو هذه ، حيث لا نرى الآن رمزاً لإنليل إلا و هو مطمور تحت الأرض ينتظر معاول المنقبين من البشر للكشف عنه من غياهب النسيان و إعطائه حياة جديدة ، لا لعبادته ، و إنما لـ "تشريحه" بـحثياً مثلما نفعل الآن . و سيخلف الأرض بعد موت أنكيدو ملوك آخرون فيستبدلون إنليل بمردوخ ، أو بآشور ، أو بعل ، أو زوس ، أو جوبيتر، الخ . و على العكس من سلبية إنليل ، نجد أن موقف شمش ثابت في مناصرته لأنكيدو و گلگامش في كل الملحمة و على طول الخـط . و تلك كناية عن فائدة الشمس لكل البشر ، و عن أبدية سلطة الحق التي يمثلها شمش . وحسناً فعل العراقيون القدماء عندما ربطوا بين العدل و بين النور و المعرفة و الكشف عن الحقائق المستورة .
              و لا بد من التطرق هنا إلى موضوعة "لعن البشر لبعضهم" و التي ما تزال رائجة في العراق و البلدان المجاورة . و لعل هذه الممارسة تنبع من الإيمان بكون دعوة المظلوم مستجابه . و إنكيدو يعتبر نفسه مظلوماً بإعتباره إبن البرية البريء الذي تغويه إمراة يكتسب عبرها المعرفة التي لا يربح منها غير الموت وهو في عز الشباب . و لعناته على الراعي الصياد و شمخة كلها قابلة للتحقق لأنها تنطلق من وعي بوضعهما الإجتماعي-الإقتصادي القائم على التقلب. و يبدو أن تدخل شمش لتأنيب أنكيدو على لعنه لشمخة في محله ، و لا بد أنه ينطلق من إحساسه بسلطة الحق التي لا تجيز نكران الجميل ، و لا تعليق الموت المحتم للإنسان على شماعة الغير من الرجال و النساء زوراً .
              قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

              Comment

              • نجمة الجدي
                مدير متابعة وتنشيط
                • 25-09-2008
                • 5278

                #8
                رد: كتاب الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة - دكتور حسين علوان حسين

                الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /8 ، و هو الجزء الأخير



                سابعاً/ گلگامش و البحث عن الخلود

                يُصدم گلگامش بالموت المبكر لصديقه أنكيدو بعد مرض يلازمه أثني عشر يوماً ، و يستبد به القلق من مصير مشابه ينتظره ، و يتطلع لنيل الخلود . فيترك أوروك ، و يجوب الأرض بحثاً عن الإنسان الوحيد الخالد : "اوتو-نابشتي" ، و هو نوح الطوفان لدى العراقيين القدماء . و بعد أسفار طويلة و شاقة و خطيرة عبر بحار خطرة (تذكرنا بأسفار عوليس بعده في ملحمة الأوديسة) ، يلتقي گلگامش بأوتونابشتي الذي يروي له قصة الطوفان ، حيث تقرر الآلهة إفناء البشر بسبب آثامهم بإغراقهم بالطوفان ، ولكن الإله أيا (أنكي) يبوح لأوتونابشتي (زيوسودرا السومري) بسر الطوفان القادم ، فيصنع الأخير مركباً مربعاً بستة طوابق يملأه بالحيوانات و البذور . و بعد إنتهاء الطوفان الذي يسلطه إنليل على البشر ، تقرر الآلهة المجتمعة بهذه المناسبة منح أوتونابشتي و زوجته إمتياز الخلود و السكن في فم الإنهار . و بالنظر لغياب سياق يجبر اللآلهة على الإجتماع مجدداً لإتخاذ القرار بخصوص رغبة گلگامش ، فإن فرص تكرار حصول مثل هذا الخلود معدومة . ثم يرشد أوتونابشتي گلگامش إلى نبات شوكي بحري يمنح من يتناوله الخلود . و يفلح گلگامش في الحصول على النبات المذكور في عملية غطس تتطابق مع أسلوب صيد اللؤلؤ في الخليج العربي ، و لكنه لا يتناول هذا الترياق مباشرة ، بل يقرر نقله لأهل أوروك كي يقهروا الموت سوياً معه . وفي الطريق إلى هناك ، يخلع گلگامش ملابسه ليسبح في بحيرة ، فتسرق الأفعى منه ذلك النبات ، و يعود گلگامش إلى أوروك مثلما خرج منها قبل عشرين عاماً : صفر اليدين ، كناية عن عدمية البحث عن الخلود عند الآلهة ، و حتمية الموت على كـل حي .
                و يتقبل گلگامش أخيراً واقع هذه الحتمية المرة . ثم نعود إلى مقدمة الملحمة ، و إلى الإشارة إلى الأسوار العظيمة التي بناها گلگامش لأوروك لحمايتها من الأعداء كوسيلة لتخليد إسمه على الأرض ، بفضل منجزات عمل الإنسان نفسه ، و ليس بفضل عمل آلـهته ، أو بتأثير العقاقير (النبات البحري = إكسير الحياة) . و هكذا تنتهي هذه الوثيقة الإنسانية القديمة المكتنزة بالمعاني عن واقع الإنسان العراقي القديم ، و التي تتميز بالتوكيد على إستيعاب القيم البشرية ، و القبول بالحدود المحكوم بها البشر (47) ، مع إرشاد البشر إلى سر الـخلود : العمل النافع . و هي قصة تعلم الأنسان كيفية مواجهة الواقع ، مثلما هي قصة النضج البشري ؛ حيث يبدأ گلگامش شاباً متهوراً قادراً على إجتراح كل شيء و رافضاً لكل رادع ، و ينتهي أخيراً بتفهم و قبول حتمية سلطان الموت ، و بلوغ مرحلة النضج الخلقي و الفكري(48) .
                و لعل من المناسب أن نختتم هذه الدراسة بما يجب تسميته في تاريخ الأدب العالمي بـ"نصيحة شيدوري" ، أو مبدأ "متّع نفسك" ؛ وهي أول صياغة أدبية في التاريخ تتقدم بها الملحمة لما سيعرف بعدئذ في الأدب الغربي بموضوعة "إستمتع (إقبض على) بيومك" (carpe diem) ، في محاولة لدفع الإنسان لأن يتولى بنفسه خلق جنتة على هذه الأرض بإسعاد نفسه و من هم حوله بمباهج الحياة ، و ليس التطلع الفارغ إليها في أي مكان خيالي آخر ، و ذلك على لسان صاحبة الحانة "شيدوري" التي تبين لنا مدى حكمة المرأة في وعيها لسر سعادة الإنسان في الحياة:

                خاطبت صاحبة الحانة گلگامش قائلة :
                "إيه يا گلگامش ، إلى متى تجوب الأصقاع ؟
                أن الحياة التي تبتغي لن تنال .
                فالآلهة عندما خلقت الإنسان ،
                كتبت الموت على بني البشر ،
                و أستبقت الخلود لنفسها .
                أما أنت يا گلگامش فاملأ كرشك ،
                و متّع نفسك دوماً ليل نهار ،
                و اجعل كل أيامك مليئة بالحبور .
                أرقص و العب صباح مساء .
                و اجعل رداءك نظيفا ،
                إغسل يديك ، و استحم بالماء ،
                و تمعّن بالطفل الذي يمسك بكفيك .
                و اجعل زوجتك تتمتع بعناقك المتكرر ،
                فذلك هو قدر الأنسان الفاني ."



























                الملاحظات
                1.
                Kramer, Samuel Noah (1956) From the Tablets of Sumer. Colorado: Falcon Wings Press.
                Sandars, N. K. (1972) The Epic of Gilgamesh. Harmondsworth: Penguin Books.
                و من المصادر الحديثة المهمة بالإنكليزية عن العراق القديم :
                في التاريخ :
                Roux, George (1992) Ancient Iraq. (Third Edition) Harmondsworth: Penguin Books.
                Kuhrt, Amelie (1995) The Ancient Near East. London: Routledge.

                في الأدب و الأساطير :
                Dalley, Stephanie (1989) Myths from Mesopotamia. Oxford: OUP.
                Foster, Benjamin, R. (1995) From Distant Days: Myths, Tales and Peotry of Ancient Mesopotamia. Bethseda: CDL Press.

                في الدين :
                Jakobson, Thorkild (1976) The Treasures of Darkness. New Haven: Yale University Press.
                Black, Jeremy & Green, Anthony (1992) Gods, Demons, and Symbols of Ancient Mesopotamia. London: British Museum Press.

                في الخلفية الفكرية:
                Bottero, Jean (1992) Mesopotamia: Writing, Reasoning, and Gods. Chicago: Chicago University Press.

                في الحياة الإقتصادية و الإجتماعية :
                Postgate, J. N. (1992) Early Mesopotamia: Society and Economy at the Dawn of History. London: Routledge.

                2.
                تروي أسطورة "إيْـنُـمّا إليْـش (عيلش) = حينما في العلا" أو "قصة الخليقة البابلية" (و التي يعود تاريخها إلى بدايةالألف الثاني ق.م) عملية خلق الكون من جسم "مائي" أولي ثلاثي التكوين قوامه الـ "آبسو" (المياه العذبة) و "مـمّو" (الغيوم) و "تعّامة" (المياه المالحة) ، و الأخيرة تسمى "أم الجميع". ومن تزاوج مكونات هذا "العماء" الأولي تولد مجموعتان من الآلهة القديمة (بقيادة تعّامة و أبنها كنگو ، و هو زوجها بعدئذ) و الآلهة الجديدة (بقيادة إنليل). الآلهة القديمة سكونية ، لأنها تؤثر الركود و الراحة ؛ في حين أن الإلهة الجديدة دينامية ، و تفضل الصخب و الحركة .و تندلع الحرب بين المجموعتين في إطار الصراع بين القديم و الجديد (= نفي النفي) ، فيقتل إنليل أم الآلهة تعّامة (و هي جدته) و إبنها كنگو ، و يصنع من الأولى الأرض و السماء و من دم الثاني يخلق الإنسان . وبفضل هذا الأنتصار ، تُسَلّم بقية الآلهة بسيادة الإله "الذكر" أنليل على مجمعها . ويلاحظ أن هذه القصة تصور قيادة المجموعة الأولى من الآلهة بإعتبارها "سكونية"(تمضي أغلب وقتها في البيت). و لكون تعّامة هي سيدة هذه المجموعة ، فهي تمثل قيادة مجتمع المشاعية الأمومي . أما المجموعة الثانية التي يقودها إنليل ، فتصورها القصة بتميزها بـ "الحركية" . و دينامية الصراع بين الطرفين تفضي ألى إنتصار العائلة البطرياركية بقيادة إنليل (أو مردوخ) . و لعل أعمق رمزية لهذه القصة الرائعة هي إعتبارها أن الولادة الحقيقية للإنسان لم تبدأ إلا بعد أنتصار العائلة الأبوية ، كما لو أن الإنسان لم يكن موجوداً في ظل سيادة المشاعة الأمومية . ينظر :
                Roux, George (1992) Ancient Iraq. (Third Edition) Harmondsworth: Penguin Books. (97f)

                3.
                George, Andrew (1999) The Epic of Gilgamesh. London: The Penguin Press.

                4.
                قدّم موقع جرمو - الكائن عند كتف حصوي يشرف على وادٍ جاف عميق في سفوح جبال كردستان العراق (السليمانية) - أدلة مادية على الإنتقال المتسلسل و غير المنقطع للإنسان من مجتمع جمع القوت إلى مجتمع إنتاج القوت بممارسة الزراعة علاوة على الرعي . حيث كشفت بعثة "بريدوود" عن أثنتي عشر طبقة بناء سكني متتالية تبدأ بطبقات ذات أسس طينية في الأسفل ثم تتطور إلى أسس صخرية . و لم يـوجد الفخار إلا في الثلث الأعلى من هذه الطبقات . و علاوة على ذلك ، فإن قرية جرمو تعتبر أقدم مستوطنة زراعية ثابتة في العالم . يـنظر :
                Braidwood, R. J. (1960) Prehistoric Investigations in Iraqi Kurdistan. Chicago: Chicago University Press.
                Braidwood, R. J. (1974) “The Iraq-Jarmo Project”. In G. R. Willy (ed.) Archaeological Research in Retrospect. Cambridge: CUP.

                5.
                تكمن الرمزية في حقيقة أن كل الأساطير هي إنعكاس فني للواقع . يقول جورج لوكاش : "إن هدف الفن العظيم برمته هو تزويدنا بصورة عن الواقع بحيث أن التضاد القائم بين المظهر الجوهر و الخاص والعام.. الخ ينحل فيها إلى درجة التكامل الكلي ."
                Lukacs, Georg (1970) “Art and Objective Truth”. In Writer and Critic and other Essays. London: Merlin Press.
                6.
                إقليم لورستان الحالي هو أقرب موطن جبلي من اوروك في ضوء الإشارات المتكررة للنص على كون إنكيدو "إبن الجبال ".

                7.
                بعد خلق الكون ، يقرر إنليل (مردوخ) :
                سإخلق الأنسان المتوحش لولو ،
                لابد لي أن أخلق الإنسان المتوحش ،
                فيتحمل مسؤولية خدمة الآلهة
                كي تكون مرتاحة !

                ينظر :
                Roux, George (1992) Ancient Iraq. (Third Edition) Harmondsworth: Penguin Books. (100f)

                و لابد من ملاحظة المقايسة بين تقنين الواجب الديني للبشر برسم خدمتهم للآلهة و بين تقنين الواجب الإجتماعي للمرأة برسم خدمتها لرب البيت .

                8.
                تمثل عشتار كوكب الزهرة ، وتشتمل رموزها على النجمة و النخلة . و تتباين وظيفتها من مكان لآخر و من زمان لآخر بين الحب و الحرب و الخصب و السحر. و يمكن دائماً جمعها بالزواج مع الإله الذكر للمدينة المعينة (مثل عشتار أربيل و عشتار حلب). و لذلك فقد إنتشرت عبادتها في كل أرجاء الشرق الأدنى بإعتبارها سيدة السماء ، و صارت رمزاً لكل النجوم. و أسمها مخلد الآن بمعنى "النجمة" في عدة لـغـات هندوأوربية شرقية و غربية ، منها في الكردية "ئه ستيره" و في الفارسية "سيتاره" و في الإنكليزية "ستارstar" و الفرنسية "آستر astre" و الألمانية "شتيرن Stern".

                9.
                ينظر عقاب إيواء العبد الآبق في شريعة حمورابي المتأخرة .

                10.
                Gordon, C. H. (1962) Before the Bible. London.
                و الجدير بالتأكيد هنا هو أن البغاء المقدس ماهو إلا التكريس الديني للإرث التاريخي الذي كان سائداً في ممارسة المرأة في المجتمع الأمومي حق الحرية الجنسية . علماً بأن المرأة السومرية بقيت تمارس - بهذا الشكل أو ذاك – حقها التقليدي في تعدد الأزواج على الأقل لغاية عهد "أوروكاجينا" حاكم لگش (حوالي 2355ق .م) و الذي عمد إلى إستخدام القانون لإلغاء هذا الحق التقليدي . ينظر:
                Siebert, E. (1974) Women in the Orient Near East. Leipzig.

                11.
                الآلهة الأربعة العظام هم آنو و إنليل و إنكي و ننخورساك . و بتقادم الزمان و تغيّر السلطان ، يتم رفع إسم هذا الإله أو ذاك من قائمة الأنونّاكي ( = أولاد آنو ) هذه لإستبداله بغيره أو لإضافة إله أو مـجموعة آلهة جديدة . و مهما تزايد عددها ، فإن العدد الفعّال فيها ضمن كل هيكل لا يزيد عادة عن ثلاثة ، و البقية تبقى مجرد أسـماء مبجلة . و بالتدريج يتم إختزال وظائف مجموعة من الإلهة بإلحاقها بغيرها من الآلهة وصولاً إلى التوحيد بالدعاية لعبادة الشمس فقط أو القمر فقط أو السماء فقط . يُذكر في هذا الصدد أن أحد الرقم الطينية – الذي يعود أصله إلى حوالي عام ( 2000 ق.م.) ، و يحتوي ما لا يقل عن واحد و خمسين إسماً – يدرج على الأقل ثلاثة عشر إلهاً بإعتبارهم مجرد تجليات متنوعة لمردوخ أمام عباده من البشر :

                ...... هو مردوخ الزراعة .
                لوگال-أگي... هو مردوخ مجاري الأنهار
                نيريگ هو مردوخ القوة
                نرگال هو مردوخ الحرب
                زكاكا هو مردوخ المعركة
                بعل هو مردوخ الملكية و السلطة
                نبو هو مردوخ التجارة ؟
                سن هو مردوخ نور الليل
                شمش هو مردوخ العدول
                أدّو هو مردوخ المطر
                كيشباك هو مردوخ الصقيع ؟
                سگ هو مردوخ الخضرة ؟
                شوكامونو هو مردوخ السواقي ...

                ينظر :
                Pinches, T. G. (2005) The Religion of Babylonia and Assyria. Web Book Publication.

                12.
                ننورتا هو التجلي الأقرب عهداً لننگرسو ، إله الحرب ، و هو البشير و الرياح الجنوبية و إله الآبار و السـقي .

                13.
                بخصوص حماقات الآلهة ، ننقل – على سبيل المثال – نص الملحمة عن ردة فعل الآلهة بعد إصدارها الأمر بإبادة البشر بالطوفان و إنغمار الأرض بمياهه :

                حتى الآلهة إرتعبت من الطوفان ،
                و انكفأت هاربة إلى السماء ،
                و تكرمشت كالكلاب في العراء .
                و صرخت بعلة-إيلي ( = ننخورساك) مثل إمرأة في المخاض ،
                و ولولت بصوت رخيم .

                "لقد تحولت الأيام الخوالي إلى الطين ،
                لأنني نطقت بالشر في مجلس الآلهة .
                أنّـى لي أن أنطق بالشر في مجلس الآلهة ؟
                وكيف لي أن أشن الحرب فأبيد شعبي ؟

                إنني أنا الذي ولدتهم و هم يعودون لي ،
                و لكنهم الآن يملأون المحيط كالأسماك !"
                فبكى لآلهة الأنوناكي معها ،
                بكوا معها بوجوه دامعة بالندم ،
                و شفاههم متيبسة تنتابها رجفة الحمى .

                14.
                طبع الدين العراقي القديم ( فكراً و ممارسة) أديان شعوب منطقة البحر الأبيض المتوسط برمتها بطابعه طوال ما يزيد على ثلاثة آلاف عام ، حيث جاءت تراكيب مجاميع (اي هياكل) آلهتهم مطابقة لمجمع الألهة السومري ، وكذلك العديد من أساطيرهم و معتقداتهم و طقوسهم ، حتى بالنسبة إلى الأديان التوحيدية ، مع بعض التعديلات بهذه الدرجة أو تلك . و بقدر تعلق الموضوع بملحمة گلگامش ، فلا نكاد نجد أي تفصيل أو مقولة فيها لم تتحول إلى جزء لا يتجزأ من صرح التراث البشري لكل هذه الشعوب و الذي لم يعد ملكاً للعراقيين القدماء حسب ، بل و للإنسانية جـمعاء .

                15.
                تاسس الفكر الديني العراقي القديم على مبدأ عبادة القوى الحيوية المعبر عنها في وحدة الذكر و الأنثى و أبناؤهما كما في العائلة البشرية تماما لأن الأنسان كان هو مقياسهم لكل شيء . وما تزال للفكرة الأخيرة تجلياتها في أكثر الأديان . ينظر كونتينو ، ص407.

                16.
                تسمي النصوص السومرية الأقدم عهداً گلگامش بإسم "بلگامش" ، و قد وردتنا خمس قصائد بهذا الخصوص وهي "بلگامش وأگا" ، و "بلگامش و هواوا" ، و "بلگامش و الثور السماوي " ، و "بلگامش و العالم الأسفل" ، و "موت بلگامش" أو "موت الثور البري العظيم". ينظر:
                George, Andrew (1999) The Epic of Gilgamesh. London: The Penguin Press.
                و توضح القصيدة الأخيرة أن الآلهة تقرر أن يصبح گلگامش بعد موته قاضياً في العالم الأسفل لكي يستطيع رؤية صديقه أنكيدو هناك ، و تسمح له بالعودة إلى الأرض خلال إحتفالات الألعاب الرياضية التي تقام في شهر آب من كل عام . كما تروي قصة دفنه بعد الموت مع حاشيته الأحياء في قاع الفرات بعد تغيير مساره أولاً ثم إعادته لمجراه لغمر قبور گلگامش و مرافقيه .

                17.
                Kramer, Samuel Noah (1956) From the Tablets of Sumer. Colorado: Falcon Wings Press.

                18.
                تنظر الملاحظة (2) بخصوص كنگو .

                19.
                بخصوص قصيدة الحب (أغنية باو) ، ينظر الفصل الثالث والعشرون لدى :
                Kramer, Samuel Noah (1956) From the Tablets of Sumer. Colorado: Falcon Wings Press.

                20.
                و إسمه الأكدي : "شار بوخي" (الملك-البوخة)، و يسمح له بالحكم مدة مائة يوم في العادة ، ثم يقتل ، ليعود الملك الحقيقي للعرش . أما كيفية التعرف على نذر السوء فتسند إلى مجموعة من المنجمين الأطباء – لتبين نذر المرض (الذي يعكس النجاسة لدى العراقين القدماء) لدى الملك – وكذلك العرافين ، لتبين نذر الشر الإقتصادية أو الطبيعية أو الخارجية . ينظر :
                أوبنهايم ، ليو "بلاد ما بين النهرين " ترجمة : سعدي فيضي عبد الرزاق . بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة ، ط2، 1986.

                21.
                لمبدأ فصل الحب عن الجنس صلته القوية بالسلوك العائلي مثل الإخلاص و الخيانة الزوجية ، الزواج الأحادي أو تعدد الزيجات ، الخ .

                22.
                ينظر الفصل العشرون من مؤلف كريمر المذكور في الملاحظة (19) .

                23.
                الإيگيگي هو إسم الجنس لمجمع الآلهة السومري .

                24.
                يتفق المتحصصون في جغرافيا العراق القديم أن نهري دجلة والفرات كانا يصبان في القدم كنهرين منفصلين في الخليج العربي ، و تحف بهما الأهوار .

                25.
                ينظر النص الذي يشير ألى مشاركة خمسين مقاتلاً في بعثة گلگامش لدى كريمر :
                Kramer, Samuel Noah (1956) From the Tablets of Sumer. Colorado: Falcon Wings Press.

                26.
                تنظر أسطورة البحث عن الفروة الذهبية اليونانية القديمة (جَيْسِنJason: ) و البحث عن كأس المسيح المقدسة في الأساطير المسيحية .

                27.
                تنظر قصص الأبطال : أوديسيوس و هرقل و فرساوس و جيسن و دانيال و القديس جورج و غيرهم كثير في الميثولوجيا اليونانية و التوراة و غيرها . يذكر أن ترجمة الدكتور محمد البهبيتي الروائية للملحمة الصادرة في الرباط عام 1980تربط بين گلگامش و ذي القرنين و هرقل و الخضر . ينظر :
                Qazanchi, F. (2005) “Some Prominent Translations of the Epic of Gilgamesh”. Translation by Suad Abid Ali. In Gilgamesh. (Baghdad) 1/2005, 15-18.

                28.
                ينظر على سبيل المثال سفر الملوك الثاني ، 10و 23 بصدد عبادة اليهود لبعل و لعشتار ("عشتاروت" أو "عشيرة/أشيرة") .

                29.
                يرد إسم گلگامش بإعتباره الملك الخامس لسلالة الوركاء الأولى ، حوالي 2700 ق.م . تنظر ص 135من :
                Roux, George (1992) Ancient Iraq. (Third Edition) Harmondsworth: Penguin Books.

                30.
                ن. م .س. ص128 و ما بعدها .

                31.
                ن.م.س. ص 196 و ما بعدها.

                32.
                بالنسبة للسومريين الأوائل ، يرتبط مبدأ حرية الإنسان بالولادة بالتفسير الديني للعلة من خلق الأنسان و المتمثلة بخدمة الآلهة . و لهذا فإن حرية الشخصية للأنسان مفترضة طالما كانت لا تـتقاطع مـع مصالح الآلـهة "و ممثليها على الأرض". و يعترف "تيومينيف" أن الرقم الطينية المكتشفة في معبد "إي-أنا" في الوركاء – و التي تقدم تفصيلات دقيقة جداً عن العاملين في المعبد المذكور – لم تقدم أية إشارة إلى وجود العبيد الذكور ضمن العاملين فيه . ينظر :
                جماعة من علماء الآثار السوفييت ، العراق القديم . ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي . بغداد : منشورات وزارة الإعلام ، 1976. ص105.

                33.
                النزاع بين يوسف و إخوته على سبيل المثال .

                34.
                مختار الصحاح للرازي .

                35.
                الأبعاد المذكورة ترد لدى طه باقر بالصيغة التالية : إثنان و سبعون ذراعاً للإرتفاع و أربع وعشرون ذراعاً للعرض . ينظر: باقر ، طه ( 1980 ) ملحمة گلگامش . بغداد : دار الحرية للطباعة ، ط4 ، ص119.

                36.
                المرجح أن الأصل السومري لقصة قابيل و هابيل التوراتية هو أقدم نص مسرحي في العالم قدمه لنا السومريون عن تنافس الراعي دوموزي و الفلاح إنكمدو للزواج من إنانا العذراء (عشتار) ، و يعرف بإسم "طلب يد إنانا" و أبطاله أربعة هم : شمش و إنانا و دموزي و إنكميدو . و يبدأ هذا النص المسرحي بطلب شمش من أخته عشتار قبول الزواج من دموزي الراعي . و لكن عشتار تفضل الفلاح إنكميدو لكونه الأغنى و الأقدر على إعالتها. وتحصل مناظرة بين الخاطبين بخصوص أفضلية أحدهما على الآخر في الرزق و المقدرة على خدمة إنانا . و يستطيع دموزي ببلاغته إقناع إنانا بتفضيله على إنكميدو . بعدها ينشب الخصام بين الإثنين عندما تدخل شياه دموزي حقل إنكميدو "رب السدود و الجداول" . وينتهي الصراع بتنازل إنكميدو و قبوله قيام دموزي بالرعي في حقله متى شـاء . و بدلاً من الخصام ، تنشأ الصداقة و التعاون بين الإثنين عندما يدعو دموزي منافسه إلى حفل عرسه ، فيوافق إنكميدو على ذلك ، بل و يجلب الهدايا الزراعية الثمينة من العدس والفول للعروس . هذه المسرحية تعكس وضعاً إقتصادياً رعوياً-زراعياً تكاملياً أقدم من ذلك العصر الذي ساد فيه الإقتصاد الزراعي و الذي أصبح الرعي نشاطاً ملحقاً به ، و هو الأمر الذي دعى إلى قلب أحداث قصة الصراع بين الفلاح قابيل و الراعي هابيل و التي تنتهي بقتل الفلاح للراعي للفوز بالمرأة . ينظر الفصل السادس عشر لدى:
                Kramer, Samuel Noah (1956) From the Tablets of Sumer. Colorado: Falcon Wings Press.

                37.
                في هذا الموضع من ترجمته الرائعة لملحمة گلگامش ، يشرح الأستاذ الدكتور طه باقر عادة العراقين القدماء في النواح على دوموزي-تموز بالقول :
                " يشير هذا إلى العادة التي عمت في تلك الأزمان من الندب و البكاء على تموز ، إله الخضرة و الربيع، حيث إعتقدوا أنه كان ينـزل إلى العالم الأسفل و يظل رهينة في ذلك العالم طوال نصف عام ، ثم يقوم إلى الحياة في النصف الثاني مقابل بقاء أخته المسماة كشتن-أنّا رهينة في العالم الأسفل بدلاً عنه . قارن هذا بما ورد في التوراة . سفر حزقيال (8-15) : "فجاء بي إلى مدخل بيت الرب الذي من جهة الشمال ، و إذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز" . و ظلت العادة شائعة بين الأقوام المتأخرة . راجع مثلاً رواية إبن النديم في فهرسته عن ممارسة النواح و البكاء على تمور "تاوز" عند أهل حران الذين يسميهم "صابئة" ".
                باقر ، طه ( 1980 ) ملحمة گلگامش . بغداد : دار الحرية للطباعة ، ط4 ، ص110.

                38.
                يلاحظ التشابه بين قصة الطائر ألولو المكسور الجناح و بين قصة "فيلوميلا" اليونانية التي يغتصبها زوج أختها الملك "تيريوس" و يقطع لسانها كي لا تكشف جرمه ، و التي تحولها الآلهة بعد الإنتقام من غاصبها إلى عندليب دائم الصراخ بإسم هذا المغتصب. ينظر :
                The Encyclopedia of Classical Mythology. (1965) Engelwood Cliffs: Prentice-Hall, Inc.

                39.
                يلاحظ التشابه الكبير بين قصة الراعي الذي تمسخه عشتار و الذي تنهشه الكلاب و قصة الراعي أكتايون (Actaeon) الأغريقية و الذي تمسخه الإلهة دايانا عجلاً بسبب وقوع بصره صدفةً عليها و هي عارية تستحم في الـغابة ، لتأكله كلابه . تنظر تفاصيل القصة في كتاب أوفيد الشهير "مسخ الكائنات"(Metamorphisis).

                40.
                يمثل ثور السماء التجسيد الأرضي لكوكبة الثور (برج الثور) السماوية .

                41.
                يتأتى خطر فكرة إكتساح الموتى للأحياء من حقيقة كون الأموات يشكلون "الأكثرية" مقارنة بالأحياء . و لذلك فإن إطلاق سراحهم بكسر البوّابات السبع للعالم الأسفل يؤدي ليس فقط إلى تسببهم بالمجاعة على الأرض (و إبادة الجميع) ، بل إنه يقلب موازين الحياة و الموت . نفس الفكرة يستخدمها دانتي في "الكوميديا الإلهية" و إليوت في "الارض اليباب" ، كما يستخدم دانتي الفكرة السومرية بوجود أبواب سبعة للعالم الأسفل و يسميها "دوائر الجحيم السبعة". تنظر :
                Dante Alighiery: The Divine Comedy. The Carlyle-Wicksteed Translation (1932) Cambridge, Mass. The Modern Library.

                42 .
                تلاحظ موضوعة جمع الأعلاف لمواجهة قحط سبع سنين في قصة يوسف الواردة في التوراة و القرآن الكريم .

                43.
                الإلهة ننخورساك هي نفسها "آرورو" و "بعلت–إيلي" ، و كانت تعتبر سابقاً أثيرة لدى آنو . ينظر :
                George, Andrew (1999) The Epic of Gilgamesh. London: The Penguin Press.

                44. ينظر:
                Kramer, Samuel Noah (1956) From the Tablets of Sumer. Colorado: Falcon Wings Press.

                45.
                تنظر الملاحظة (43) بخصوص ننخورساك .

                46.
                من ضمن المباديء الإجتماعية بحسب تعاليم شوروباك ، أنه لا يجوز للشخص المستقيم أن يتزوج من إمرأة مستهترة و لا من إمرأة "عشتارية" (بغي المعبد) . تُلاحظ هنا الموازاة بين المرأة المستهترة و بغي المعبد في تحريم الزواج بهن . ينظر :
                قاشا ، سهيل . "الحكمة في وادي الرافدين" . بغداد : مطبعة شفيق . ص 44.

                47.
                Moran, William L. (1991) “The Epic of Gilgamesh”. In Bulletin of Canadian Society for Mesopotamian Studies. 22 (15-22).

                48.
                Jakobsen, T. (1990) “The Epic of Gilgamesh: Romantic and Tragic Vision”. In Abusch, T., Huehnergard, J. & Steinkeller, P. Lingering over Words. Atlanta: Scholar Press. (231-49).
                قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                Comment

                Working...
                X
                😀
                🥰
                🤢
                😎
                😡
                👍
                👎