إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

Collapse
This is a sticky topic.
X
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • مستجير
    مشرفة
    • 21-08-2010
    • 1034

    عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
    اللهم صل على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما


    سلسة حلقات "عربية الوحي والعربية المحرفة"
    بقلم الشيخ ناظم العقيلي
    من على صفحته الرسمية على الفيسبوك

    (1)

    اللغة العربية متغيرة أم ثابتة ؟
    يقضي القانون العام للكون بأنَّ جميع الموجودات في حالة تغير دائم من نقص الى كمال ومن كمال الى نقص، وهو سنة الله تعالى في عالم الإمكان، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. وجاء في تفسير هذه الآية عن علي بن الحسين (ع) قال: (يحيي ويميت ويرزق ويزيد وينقص). وقال الشيخ الطبرسي في تفسير هذه الآية: (أي: كلُّ وَقْت وحين يُحدِثُ أُموراً ويُجَدِّدُ أَحْوالاً).
    فكان من شأن اللغات التغير والزيادة والنقصان، لأنها مرهونة بألسن الناس التي بدورها رهن بعوامل كثيرة داعية الى عدم الثبوت والجمود، منها خَلقية ومنها دينية واجتماعية وسياسية وربما حتى مناخية وجغرافية، فاللغة دائمة التغير والابتعاد عن أصلها وحقيقتها حتى تصل الى مرحلة المسخ والاندراس، وقد مرت البشرية ومنذ عصور سحيقة بما يمكن أنْ نسميه (غزو اللغات)، فمثلاً يقول الدكتور إسرائيل ولفنسن عن اللغة العبرية:
    (وفي القرن السادس والخامس ق.م. أخذت بعض الأمم تفنى بالحروب الطاحنة التي اشتعلت نيرانها بين الدول الكبرى ذي ذلك الحين كبابل وأشور ومصر من ناحية بتسرب اللغة الآرامية اليها وانتشارها بينها من ناحية أخرى.
    وكان انتشار اليهود بعد السبي البابلي في نواحي الفرات من الأسباب القوية التي أدت الى انتشار اللغة الآرامية بين الطبقات اليهودية ثم رسخت قدمها بينهم حتى شعر علماء اليهود وأحبارهم بالخطر المحدق بلغتهم القومية فنشطوا الى مقاومة اللغة الآرامية مقاومة شديدة وعملوا بكل الوسائل الممكنة لدفع خطرها عن لغتهم ...) تاريخ اللغات السامية ص96.
    فكل لغة بعد نشأتها تتعرض لعدة عوامل تعصف بها من كل جانب، فكل لغة تخوض صراعين؛ صراع داخلي، وصراح خارجي:
    الصراع الداخلي:
    ربما لا أكون مجازفاً إنْ قلت بأنَّ الصراع الداخلي للغة يبدأ من أول متلقي لها عن استاذها الأول، أو من أول جيل نشأت فيه اللغة، ولكن سأتجاوز هذا والخوض في تفاصيله، واتكلم بالقدر المتيقن الواضح للجميع، فالصراع الداخلي للغة ينقسم قسمين؛ زماني ومكاني، يتمثل العامل الزماني بتطاول الدهور والقرون على اللغة، مما يؤدي الى تغيرها وتبدلها وتفككها تدريجياً شيئاً فشيئاً، تبعاً لاختلاف الأجيال على المستوى الحضاري والثقافي والديني والسياسي وكذلك الخَلقي في أعضاء النطق، فهذه الأمور متفاوتة في الجيل الواحد، فكيف بعشرات أو مئات الأجيال ؟!
    ويبقى طول ثبات اللغة وجمودها على أصالتها مرهوناً بحَمَلتِها وانتشار ثقافة التدوين والكتابة، على أنَّ هذين العاملين يؤخران تغير اللغة وانحرافها لا منعه على نحو الاطلاق، ففي حالة دقة مراعاة حملة اللغة لها وانتشار ثقافة التدوين والكتابة يتأخر تغيير وانحراف اللغة ويسير ببطء، وربما لا يتضح التغيير والانحراف إلا بعد عدة قرون، أما إنْ فقد العاملان الحافظان فربما يتضح انحراف اللغة عن أصلها خلال قرن واحد من نشأتها.
    أما العامل المكاني، فيتمثل بانتشار أهل اللغة الواحدة في بلاد متباعدة عن موطن اللغة الأم، فيعيش أهل هذه اللغة على شكل قبائل أو أقوام منتشرة على سطح المعمورة، ثم كلما تقادم الزمان بهذه القبائل أو الأقوام، كلما زاد استقلال هذه الأقوام بعضها عن البعض الآخر، حتى يكون كل قوم أو قبيلة لهم عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الخاصة على مختلف الأصعدة، وهذا الاستقلال والاختلاف سينعكس سلباً على اللغة، حيث ستكون لكل قبيلة لهجة تختلف عن أخواتها، فتتعدد اللهجات للغة الواحدة بتعدد الأقوام والقبائل، وهذه اللهجات بمثابة اللغات العامية بالنسبة الى اللغة الفصحى، حتى يصل الحال الى أنْ تكون هذه اللهجات بعيدة كل البعد عن اللغة الفصحى الأم، وخذ مثالاً حياً اليوم اختلاف لهجات العرب باختلاف البلاد، فمثلاً العرب من أهل العراق يصعب عليهم لفظ حرف (الضاد) ويلفظونه (ظاء)، والعرب من أهل الشام يثقل عليهم لفظ حرف (الذال) فيلفظونه (زاي)، وحرف (القاف) فيلفظونه (ألف)، وعرب مصر يثقل عليهم لفظ حرف (الجيم)، والأمثلة كثيرة من هذا النوع، أما اللغة العامية في البلاد البعيدة عن أصل اللغة العربية كالمغرب العربي مثلاً فتجدها لغة لا يفهمها كل أو أكثر عرب الخليج وعرب الشام ومصر ...الخ، وكأنها لغة مستقلة لا يفهمها إلا أهلها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام عن الصراع الخارجي.
    والفرق بين نتيجة العامل الزماني والعامل المكاني أنَّ الأول يتجه فيه تغير اللغة وانحرافها عن أصلها بصورة موحدة تقريباً، بينما نتيجة العامل الثاني ستكون انحراف اللغة بصور متعددة كأنها مستقلة وإنْ اتفقت في بعض الأصول اللغوية العامة.
    الصراع الخارجي:
    لم يقتصر صراع اللغة على صراعها مع أبناء جلدتها والناطقين بها، بل هناك صراع أشد شراسة بكثير من الصراع الداخلي، وهو صراع اللغة ضد الغزو الذي يأتيها من الخارج، وهو صراع اللغات فيما بينها، فمنذ عشرات القرون نشب الصراع على قدم وساق بين اللغات المتعددة، فكل لغة لأي شعب ما تحيط بها لغات كثيرة لشعوب مجاورة، أو بعيدة ولكن ترتبط معها ببعض الروابط التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ومما لا شك فيه أنَّ تلك المجاورة والعلاقات تستلزم احتكاك اللغات بعضها بالبعض الآخر، من خلال اختلاط الشعوب وتسلط بعضها على البعض الآخر سياسياً أو ثقافياً ...، وبتطاول الزمان إما أنْ تبتلع اللغاتُ المتنفذة والمتسلطة اللغات الضعيفة والمقهورة وتقضي عليها تماماً، وإما أنْ تتداخل اللغات فيما بينها وتمتزج كامتزاج مجموعة ألوان عندما توضع في قارورة واحدة، والفرق أنَّ الألوان تمتزج خلال ثوان واللغات تمتزج خلال قرون من الزمن، وهذا الامتزاج قد يكون عن عمد وتخطيط، وقد يكون كنتيجة طبيعة عند اختلاط اللغات وتسلط بعضها على البعض الآخر، وهذا من النواميس الطبيعية التي لا ينكرها إلا مكابر. وبسبب انتشار أهل اللغة الواحدة في بلاد متباعدة، سينتج تغاير انفعال كل بلد باللغات الغازية، فتكون لكل لغة عدة لهجات مختلفة تبتعد عن اللغة الأم حسب شدة تأثرها باللغات احتكت واختلطت معها.
    والعوامل الأساسية لهكذا صراع ثلاثة: الأول الهجرة، والثاني التجارة، والثالث الحروب والغزو، وبالنسبة الى الهجرة فقد دأبت الشعوب والقبائل منذ القدم على الهجرة ابتغاء لمصالحهم الاقتصادية بالدرجة الأساس، فتجدهم يحطون رحالهم عند كل بقعة خصبة غنية بالماء والكلأ، وسرعان ما يرحلون عندما يضرب القحط أطنابهم بحثاً عن بلاد أخرى تضمن لهم قوتهم وقوت أنعامهم، والى جانب هذه الهجرات الجماعية توجد هجرات فردية، كأهل الحرف المختلفة الذين يتسللون من قبيلة الى أخرى.
    فنتج عن تلك الهجرات تجاور الشعوب والقبائل واختلاطها، وبالتالي اختلاط اللغات واحتكاكها، وتصمد اللغة صاحبة الأرض بما أوتيت من قوة، ولكن هذا الصمود لا يطول أو يبقى للأبد، وخصوصاً إنْ كانت اللغة المهاجرة أوسع ثقافة أو أكثر رواجاً وشهرة، فتتحلل عرى اللغات شيئاً فشيئاً لتنتج لغات هجينة تختلف عن أمهاتها وأصولها.
    والحال واضح عن التجارة والحرب والغزو، وخصوصاً تجارة الرقيق التي تأتي محملة بعدة لغات لتستوطن بلداً ما فتبث لغاتها وتأخذ أيضاَ من لغة البلد المضيف.
    وأرى من الضروري أنْ أنبه على ملاحظتين مهمتين:
    الملاحظة الأولى: أن تغير اللغات وامتزاجها بغيرها ثم تحريفها جزئياً أو كلياً لا يحصل بين ليلة وضحاها، ولا خلال سنين قليلة، بل الأمر يحصل تدريجياً خلال قرون تكثر أو تقل حسب شدة الصراع الداخلي والخارجي بين اللغات، وقد يسير بانسيابية ربما لا يشعر به عامة المجتمع، كما أنَّ أحدنا لا يلتفت الى تغير ملامح أولاده الذين يكبرون أمام عينيه، إلا إذا استرجع ذاكرة الماضي أو رأى صورهم في الصغر، بينما إنْ تركهم صغاراً ورجع اليهم وهم شبان يجدهم قد تغيرت ملامحهم الى درجة أنه ربما لا يعرفهم لأول وهلة إنْ رآهم قبل أنْ يُعرفونه بأنفسهم.
    نبهت على هذا الأمر لكي لا يتوهم أحد بأني أرمي الى القول بأنَّ اللغات تتغير بمجرد أنْ تختلط بغيرها هكذا خلال سنيين قليلة.
    الملاحظة الثانية: عندما قلت بأنَّ صراع اللغات سوف يفضي الى إما تحريف كلا الطرفين المتصارعين إنْ كانا متماثلين سطوة وثقافة وشهرة، وإما الى انتصار واضح وجلي للغة التي تتحلى بعوامل القوة والشراسة، ولكن انتصار اللغة الشرسة لا يعني أنها ستخرج من معركتها هذه سليمة الجسد من الجراح والكدمات، فهذا مخالف لعادة النواميس الطبيعية في أي صراع واقتتال، وتختلف نسبة جراح اللغة المنتصرة كثرة وعمقاً حسب طول الصراع وقوته، فقد تكون الجراح والكدمات بسيطة وطفيفة، وقد تكون عميقة، وربما تصل أحياناً الى فقدان بعض الأعضاء أو الأطراف.
    إذن فعند تتصارع اللغات لا تسلم لغة من التغيير والانحراف عن أصلها سواء كانت اللغة المنهزمة أم اللغة المنتصرة، وإنْ اختلفت نسبة التغيير والانحراف عن الأصل.
    ومن خلال صراع اللغات ستتولد من كل لغة عدة لهجات أو لغات، تبتعد عن أمها حسب ما نالها من تأثير تبعاً لطول الصراع وشدته، بل حتى لغة الأدب والكتابة لا تصمد طويلاً أو الى الأبد أمام الصراعات اللغوية، وخصوصاً إنْ اتصفت تلك الصراعات بالشراسة وطول المدة، فستنال حظها من التغيير والانحراف وإنْ كان أقل وأخف من الانحراف الحاصل في لغة المحادثة العامية، وخصوصاً إنْ كانت اللغة مشهورة بالأدب والتدوين.
    وبعد أنْ تتولد عدة لهجات من اللغة الواحدة، يفتح ميدان جديد تتصارع فيه تلك اللهجات، وميدان آخر تتصارع فيه مع لهجات اللغات الأخرى، وسيكتب النصر لأحدى اللهجات، وسيموت بعض اللهجات، ويبقى البعض الآخر موجوداً ولكنه خاضع ومتذلل للهجة المنتصرة، وهذه اللهجة المنتصرة لم تخرج بعد انتصارها سليمة تماماً من آثار اللهجات المهزومة، بل ستأخذ منها بعض الصفات رغماً عنها، فتكون هذه اللهجة المنتصرة قد مرت بطورين من الصراع، وقد ابتعدت أكثر عن اللغة الأم، وإذا كتب لهذه اللهجة أن تسود كثيراً، فستبسط نفوذها على أكبر رقعة ممكنة، وسيعتاد عليها أغلب المجتمع أو كله، وهكذا بمرور الوقت ربما ستكون هي لغة الأدب والتدوين، وتندرس اللغة الأم كلياً أو جزئياً.
    ثم يعود الأمر كما بدأ، فتعود نفس العوامل التي حرَّفت اللغة الأم، ومن الداخل والخارج، لينفصل من هذه اللغة المنتصرة عدة لهجات، وتتصارع هذه اللهجات فيما بينها، وأيضاً تتصارع مع لهجات اللغات الأخرى، لينتج هذا الصراع لهجة جديدة منتصرة ومتأثرة أيضاً بجراح عديدة، وهكذا ربما تتكرر هذه الصراعات مرات ومرات، وفي كل مرة تنتج لغة أو لهجة منتصرة منحرفة عن أصلها قد تم مسخها عدة مرات.
    يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه علم اللغة: (متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض تحت تأثير عامل أو أكثر من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً. فلا تلبث أن تنشعب الى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها. ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينها وبين أخواتها حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة ولحمة ونسب لغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه، ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد أن يكتمل نمو هذه اللغات.
    ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها الى العصر الحاضر .... وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيراً من آثار هذا القانون. فاللغة اللاتينية، وهي احدى لغات الفرع الايطالي المنشعب من الهندية – الأوربية، قد أخذت هي نفسها، في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى، تنشعب الى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها حتى انفصلت عنها انفصالاً تاماً، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها (الفرنسية، الايطالية، الاسبانية، والبرتغالية، لغة رومانيا ...) ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات ...) انتهى كلام الدكتور علي عبد الواحد، علم اللغة، ص172 – 173.
    وطبعاً اللغة العربية ليست بمنأى عن صراع اللغات، بل نالها ما نال نظيراتها من سائر اللغات في العالم، فقد خاضت اللغة العربية صراعات مريرة منذ أول نشأتها، حيث ولدت في أحضان أقوى اللغات آنذاك وهي اللغة العبرية والسريانية، فالراجح أنَّ اللغة العربية ولدت بعد الطوفان، ولا يوجد لها أثر بين الناس قبل ذلك، فإنْ قلنا بأنَّ أول من نطق بالعربية هو نبي الله هود (ع)، فإنَّ من مبعث نبي الله هود (ع) حتى ولادة إسماعيل بن إبراهيم الخليل (730) سنة – حسب بعض المصادر -، وهذه السبعة قرون كافية لتولد عدة لهجات عن عربية نبي الله هود (ع)، بل لم يبق منها إلا لهجة عامية من لهجاتها أو لهجة عامية منبثقة عن عدة صراعات وقعت بين لهجات عربية هود (ع)، وهذا يعني أنَّ في زمن نبي الله إسماعيل (ع) قد مرت بأكثر من مرحلة من الانحراف والابتعاد عن أصلها الموحى من الله تعالى، والقدر المتيقن أنَّ العربية في ذلك الوقت مُحرَّفة ولم تثبت خلال السبعة قرون، والدليل على ذلك أنَّ العربية قد تم تجديدها بالوحي أو الإلهام لنبي الله إسماعيل (ع)، كما نطقت بذلك الروايات الآتية:
    روي عن الباقر عليه السلام: (أن إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، فكان أبوه يقول له: - وهما يبنيان البيت - يا إسماعيل هابي ابن أي أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل: يا أبت هاك حجرا، فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة) بحار الأنوار ج12 ص87.
    وعنه (عليه السلام) انّه قال: (أوّل من شقّ لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه فهو أوّل من نطق بها وهو الذبيح) تحف العقول، لابن شعبة الحراني: ص297.
    وعن رسول الله (ص): (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، و هو ابن أربع عشرة سنة) الجامع الصغير: للسيوطي: ج1 ص435 برقم 2837.
    وأخرج ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم: (ان إسماعيل ألهم من يوم ولد لسان العرب وولد إبراهيم أجمعون على لسان إبراهيم) الدر المنثور، للسيوطي: ج4 ص273.
    وعنه (ص): (أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسانَ العربيَّ إلهاماً) الجامع الصغير ج1ص239..
    وعن ابن عباس: (أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل) المزهر، للسيوطي: ص27.
    فلو كانت اللغة العربية عند ولادة إسماعيل (ع) غضَّة كما نطق بها نبي الله هود (ع)، لما كان هناك داعٍ الى تجديدها بالوحي الى إسماعيل (ع)، أضف الى هذا أنَّ التعبير بـ (شق لسانه) و (فتق لسانه) و (العربية المبينة) و (العربية المحضة)، فيه إشارة واضحة الى أنَّ عربية إسماعيل (ع) تختلف كثيراً عن العربية التي كانت متعارفة عند القبائل العربية كحمير وجرهم، ويؤكد ذلك عدّ إسماعيل أول من تكلم بالعربية، أي أول من تكلم بها بعد اندراسها وتحريفها، هذا إنْ استبعدنا الاحتمال الآخر؛ وهو كونه أول من نطق بالعربية من ولد إبراهيم (ع).
    ويزداد الطين بِلة لو عرفنا أنَّ الأقوام العربية القديمة قد بادت وهلكت قبل مولد إسماعيل (ع)، حسب ما تذكر كتب التاريخ والأنساب، وهم (عاد، وثمود، وطَسْم، وجَدِيس، وأُميم، وعَبيل، والعَمالقة، وعبد ضَخْم، وجُرْهم الأولى، وغيرهم). فلك أنْ تتصور كم لهجة لكل قوم من هؤلاء، وكم يكون مجموع كل اللهجات، وكلها قد بادت بهلاك أهلها، فكم قد تغير من معالم العربية بتعدد هذه اللهجات، وكم مات من معالمها بموت هذه اللهجات واللغات ؟
    ثم نشأت العرب العاربة الباقية، في اليمن من قحطان بن عابر بن شالخ بن أد بن سام بن نوح (ع)، وهم قد تعلموا العربية من العرب البائدة، لأنَّ قحطان وكذلك ابنه يعرب لم يكن لسانهما في الأصل عربياً، كما تبين بعض المصادر، ولا يخفى على القارئ ما يشوب اللغة عندما تنتقل من قوم الى قوم آخرين. وقبيلة جرهم التي نزلت على إسماعيل (ع) في مكة كما نصت بعض الأخبار؛ هي من نسل جرهم بن قحطان بن عابر، أما قبيلة حِمير فهم من نسل حِمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر.
    فقد مرت اللغة العربية بمرحلتين حتى زمن إسماعيل (ع)؛ الأولى هي مرحلة العرب البائدة، والمرحلة الثانية هي عربية اليمن من بني قحطان بن عابر، وكل مرحلة تتضمن صراعات داخلية وخارجية، وبالتالي كل مرحلة تتضمن عدة تقلبات للغة العربية تبتعد بها كثيراً عن أصلها الذي بات مجهولاً تماماً لنا، حتى وصل الحال أنْ تعد لغة حِمير بعد ظهور الإسلام بأنها غير عربيتنا، حسب قول أبي عمرو بن العلاء، إذ قال: (ما لسان حِمير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم عربيتنا) المزهر، للسيوطي: ص174.
    نعم، بعد أنْ ابتعدت العربية عن أمها الأصل حتى لكأنها لغة أخرى وإنْ كانت تشترك مع أمها في بعض الأمور، بعد ذلك جددت وتم احياؤها بالوحي أو الإلهام لإسماعيل بن إبراهيم الخليل (ع)، ولكن كما تقدم القول أنها ولدت بين عدة لغات سائدة آنذاك من أبرزها اللغة السريانية والعبرية، وتطاول بها الزمان تتصارع مع تلك اللغات وتتصارع أيضاً مع ألسنة الناطقين بها من بني إسماعيل (ع)، فبعض المصادر تدلنا على أنَّ بين وفاة إسماعيل (ع) وبين مبعث النبي محمد (ص) (2655) سنة، يعني ستة وعشرون قرناً ونصف ، وذكر القلقشندي في قلائد الجمان أنَّ بين نزول إسماعيل (ع) بمكة وبين هجرة النبي (ص) منها (2793) سنة، يعني نحو ثمانية وعشرين قرناً، وخلال كل هذه القرون تتصارع اللغة العربية مع أبناء جلدتها ومع جيرانها وأعدائها، فلك أنْ تتصور مدى الضرر الذي سيلحق بها، ومدى التشوه الذي سيبدو عليها، ويضاف الى ذلك أنَّ بعد إسماعيل (ع) لم يرسل نبي من العرب، بل قامت أشهر رسالتين قبل رسالة نبينا محمد (ص)؛ وهما رسالة نبي الله موسى (ع)، ورسالة نبي الله عيسى (ع)، وكان لسانهما غير العربية قطعاً، مما ساعد كثيراً على تقوية شوكة لغة هاتين الرسالتين وانتشارهما وسيادتهما على حساب اللغة العربية.
    ويضاف الى تحريف اللغة العربية عن أصلها؛ ضياع الكثير من كلام العرب، أي ضياع الكثير من الجذور والمواد اللغوية، بحيث قد تعد بعض الكلمات الآن دخيلة على اللغة العربية، بينما هي أصيلة قد تسبب تعاقب القرون بضياعها ونسيانها، وكان السبب الرئيس في ذلك هو أنَّ اللغة العربية لم تكن لغة تدوين، بمعنى لم يشتهر أو حتى يُعرف العرب قديماً بالكتابة والتدوين، وهذا يتسبب بضياع كلام العرب إضافة الى ضعف جمود وثبات اللغة العربية على حالتها الأولى، فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي محمد (ص) أنه قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر ...).
    يقول الدكتور إسرائيل ولفنسن في كتابه تاريخ اللغات السامية: (لم تكن الكتابة منتشرة في بلاد العرب بل كان لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا القليل النادر فكانوا من أجل ذلك لا يدونون أخبارهم العظيمة ومنتجات قرائحهم البارعة فطبيعي [أ]لا يصل إلينا ما نستطيع به أن نعرف لهجاتهم ونستكشف أصل لغتهم إلا بقايا ضئيلة من هذا النادر القليل مما يجعل مهمة الباحث في هذه الموضوع شاقة صعبة ويضطره الى أن يحتاط في استنتاجاته ويبذل أقصى ما يستطيع من الجهود ليصل الى نتائج بريئة من الخطأ جهد الطاقة والامكان)
    ويقول جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية: (فآداب العرب في جاهليتهم الثانية يراد بها آدابهم قبيل الإسلام وهم أهل بادية لا يقرأون ولا يكتبون .. وإنما جمعت هذه الآداب بعد الإسلام بالأخذ عن الأفواه).
    فكما يقال: ما كتب قر وما حفظ فر. فعدم الكتابة والتدوين عند العرب كان عاملاً من عوامل التحريف والضياع، وضياع كثير أو أكثر كلام العرب قد اعترف به علماء اللغة أنفسهم:
    قال الكسائي: (قد دَرَسَ من كلام العرب كثير) لسان العرب، ج2 ص594.
    وحكى ابن حبيب البصري عن أبي عمرو أنه قال: (ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير) المحصول، لفخر الدين الرازي: ج1 ص214.
    وقال ابن فارس في كتابه «الصاحبي»: (ذهب علماؤنا أو أكثرهم الى أنَّ الذي انتهى الينا من كلام العرب هو الأقل. ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعرٌ كثير وكلام كثير.
    وأحرِ بهذا القول أن يكون صحيحاً...).
    وروى ابن جني بإسناده عن ابن سيرين عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الاسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم وغفلت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا فيه إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وقد هلك من العرب من هلك فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره) المحصول، لفخر الدين الرازي: ج1 ص213.
    ثم يعلق ابن جني على ذلك معترفاً بكثرة تغير اللغة العربية وليس بنقصانها فحسب، إذ يقول في كتابه "الاختصاص": (وهذا ونحوه مما يدلك على تنقل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغولها وتغيرها.
    فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يُسمَع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ، ما وُجِد طريق الى تقبل ما يورده ... ).
    والحمد لله وحده.


    قال الامام أحمد الحسن ع:
    [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
    "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
    وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
    ]

    "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"
  • مستجير
    مشرفة
    • 21-08-2010
    • 1034

    #2
    رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

    عربية الوحي والعربية المحرفة
    (2)

    نشأة اللغة العربية

    اللغة العربية هي احدى اللغات الساميّة ، قال جرجي زيدان:
    [واللغات الساميّة أخوات لا يعرف لهن أم، وظن بعضهم أن اللغة البابلية أو الآشورية القديمة أمهن، كما أن اللغة اللاتينية أم اللغات الأسبانية والايطالية والبرتغالية ولكن المحققين لا يؤيدون ذلك. والمعول عليه ان هذه اللغات الساميّة أخوات انقرضت أمهن قبل زمن التاريخ] تاريخ آداب اللغة العربية ج1 ص35.
    وقال أيضاً:
    [وكانت اللغة العربية قبل الإسلام محصورة في جزيرة العرب وما يليها من مشارف الشام والعراق الى تدمر وفي بادية الجزيرة (بين النهرين) وفي جزيرة سينا وقليل بعدها في صحراء مصر الشرقية] تاريخ آداب اللغة العربية. بتصرف يسير.
    وقد كان العرب يتكلمون بلهجات عديدة تختلف فيما بينها نسبياً، والعلماء من العرب والافرنج يقسمون اللهجات العربية تقسيماً جغرافياً أساسياً الى قسمين؛ القسم الأول: جميع اللهجات العربية في شمال الجزيرة، والقسم الآخر: جميع اللهجات في جنوب الجزيرة.
    ولكن الاستاذ الدكتور إسرائيل ولفنسون يعترض على هذا التقسيم ويرى أنه ليس صحيحاً لا جغرافياً ولا تاريخياً دقيقاً، ويرى أن التقسيم الصحيح هو تقسيم اللهجات العربية الى بائدة وباقية.
    وعن تعيين تاريخ بداية اللهجات العربية يقول الاستاذ إسرائيل ولفنسون:
    [إن تعيين التاريخ الذي بدأت فيه اللهجات المختلفة في أي بلد من البلدان ليس في مستطاع باحث أن يصل اليه لأن هذه اللهجات المتشعبة لم تكن شائعة إلا في المحادثات السائرة والمخاطبات العادية بين الأفراد في مختلف طبقات الشعوب التي تتكلم بالعربية ولم يدون شيء يذكر بهذه اللهجات في الأدب أو العلم في القرون السالفة لأن اللغة الفصحى هي التي كانت – ولا تزال – لغة الكتاب والتأليف] تاريخ اللغات السامية ص218 – 219.
    ويقول جرجي زيدان:
    [ليس ما قدمناه وأشرنا اليه من تاريخ تكون اللغة العربية وترقيها إلا فذلكة مثلنا بها ذلك التاريخ، ولا يستطاع تفصيله وتعيين التقلبات التي مرت بها هذه اللغة قبل الإسلام، إذ ليس لدينا أمثلة مدونة يرجع اليها أو يقاس عليها، غير ما قدمناه مما وجدوه منقوشاً على قبر امرئ القيس وهو لا يشفي غليلاً] تاريخ آداب اللغة العربية ج1 ص39.
    وقال جرجي في كتاب آخر عن مراحل اللغة العربية:
    [العصر الجاهلي: ويراد به الزمن الذي مر على اللغة العربية قبل الإسلام، ولا يمكن تعيين أوله لضياع ذلك في ثنيات الدهور التي مرت قبل زمن التاريخ.. ولكننا نعتقد أن اللغة العربية نشأت ونمت، أي تميزت فيها الاسماء، والأفعال، والحروف، وتكونت فيها معظم الاشتقاقات، والمزيدات، وهي لا تزال في حجر أمها، أي قبل انفصالها عن أخواتها الكلدانية، والعبرانية، والفينيقية، وغيرها من اللغات السامية...] اللغة العربية كائن حي، ص12.
    وفصّل الكُتاب بين اللغة العربية البائدة والباقية، قال الدكتور محمد رياض كريم في كتابه (المقتضب في لهجات العرب)، عن العربية البائدة:
    [وتسمى عربية النقوش، وتطلق على لهجات كانت تتكلم بها عشائر عربية تقيم الحجاز على مقربة من حدود الآراميين، ولتطرف هذه اللهجات في الشمال، وشدة احتكاكها باللغات الآرامية، وبعدها عن المراكز العربية الأصيلة في نجد والحجاز، فقدت كثيراً من مقوماتها وصبغت بالصبغة الآرامية، وقد بادت هذه اللهجات قبل الإسلام، ولم يصل إلينا منها إلا بعض نقوش عثر عليها أخيراً في مساحة واسعة تمتد من دمشق الى منطقة العلا، وكثير من هذه النقوش عثر عليها في واحتي الحجر وتيماء] المقتضب في لهجات العرب، ص86 – 87.

    ثم يقسم نقوش هذه اللغة الى قسمين؛ القسم الأول شديد التأثر باللغة الآرامية، والقسم الآخر أقل تأثراً بالآرامية وأدنى الى العربية الباقية وأن القسم الأول كتب أو نقش بالخط المسند، والقسم الآخر كتب بالخط النبطي أو بخط مشتق منه، ثم يقسم نقوش القسم الأول الى ثلاث مجموعات:
    1 – النقوش اللحيانية:
    وهي نقوش تنسب الى قبائل لحيان، ولم يثبت بصورة قاطعة تاريخ هذه النقوش، ويظهر أن أقدمها لا يتجاوز القرن الثاني أو الأول قبل الميلاد، وأحدثها لا يتجاوز القرن السادس بعد الميلاد.
    2 – النقوش الثمودية:
    وتنسب الى قبائل ثمود، وقد عثر على هذه النقوش في الأماكن التي يعتقد العرب أنها كانت مساكن ثمود، ويرجع تاريخ معظمها الى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد.
    3 – النقوش الصفوية:
    وتنسب الى المنطقة التي كشفت على مقربة منها، وهي منطقة الصفا، فقد عثر عليها في حرة واقعة بين تلول الصفا وجبل الدروز، ويرجع تاريخها الى القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد.
    أما القسم الثاني فذكر له ثلاثة نقوش: نقش النمارة، ونقش زبد، ونقش حوران.
    ومما تقدم نعلم أنه لا يوجد تراث مدون للغة العربية قبل الإسلام، وإن وجد شيء من النقوش فهو ليس ذو بال، بل هناك شك في كونه تراثاً عربياً.
    وإذا كان الباحثون لم يستطيعوا أن يثبتوا بداية تاريخ نشوء اللغة العربية، فهل استطاعوا أن يعينوا ترتيبها بين أخواتها الساميات، أو بين جميع اللغات، فهل هي متأخرة عنها أو عن بعضها أم هي أول اللغات، أو أول اللغات السامية ؟
    قال ابن حزم بعد أن اختار القول بتوقيف اللغة:
    [إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها ، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا ، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها ، وأبينها عبارة ، وأقلها إشكالا ، وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل : (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) فهذا التأكيد يرفع الاشكال ويقطع الشغب فيما قلنا .
    وقد قال قوم : هي السريانية وقال قوم : هي اليونانية : وقال قوم : هي العبرانية . وقال قوم هي العربية . والله أعلم . إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير ، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي ، وإذا رام نغمة أهل القيروان ، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ، ومن الخراساني إذا رام نغمتها . ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة . وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله .
    ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق . فنجدهم يقولون في العنب : العينب وفي السوط أسطوط . وفي ثلاثة دنانير ثلثدا . وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة . وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا . ومثل هذا كثير . فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم . وأنها لغة واحدة في الأصل .
    وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا ، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده ، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده . والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم . فالسريانية أصل لهما ........ ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا ........... وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات . وهذا لا معنى له لان وجوه الفضل معروفة ، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة ، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة ، وقد قال تعالى : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وقال تعالى : (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون). فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك ، ........... وقد قال قوم : العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى .
    قال علي : وهذا لا معنى له ، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه . وقال تعالى : (إني إذا لفي ضلال مبين) وقال تعالى : (وإنه لفي زبر الأولين) فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه . وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور ، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية ، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية ، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً] الإحكام في أصول الأحكام ج1 ص30 - 32 .
    ولأهمية كلام ابن حزم نقلته رغم طوله، وهو يقول بتقدم اللغة السريانية وأنها أصل للعربية والعبرانية.
    والنتيجة: نحن لا تتوفر لدينا معلومات مفصلة عن نشأة اللغة العربية، وهل لها أم انشقت عنها أم لا ؟ وما هو ترتيبها بين اللغات ؟ نعم قد نستطيع تحديد أول من نطق بالعربية كما يأتي في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى، وأيضاً نستطيع القول بأن أصل اللغة العربية توقيفي من الله تعالى، أي إنها بوحي من الله تعالى ولم تنشأ بالأصل من تواضع الناس واصطلاحهم، هذا من حيث الأصل، وسيأتي أيضاً بيان مدى التغير والتبدل والتحريف والتشعب والموت والدخيل الذي حل باللغة العربية خلال عشرات القرون من عمرها.


    قال الامام أحمد الحسن ع:
    [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
    "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
    وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
    ]

    "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

    Comment

    • مستجير
      مشرفة
      • 21-08-2010
      • 1034

      #3
      رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

      عربية الوحي والعربية المحرفة
      (3)

      اللغة العربية توقيف أم اصطلاح؟

      تقدم بحث مسألة نشأة اللغة وهل هي بالتوقيف من الله تعالى أم باصطلاح الناس وتواضعهم، وقد قلتُ بأنَّ نشأة أصل اللغة لا يمكن أن تكون إلا بتوقيف من الله تعالى، تعويلاً على ما تقصه علينا النصوص الشرعية من بداية حياة نبي الله آدم (ع) في الجنة وفي الأرض، والآن نأتي الى تسليط الضوء على اللغة العربية، لأنها الهدف من هذا الكتاب.
      ولعل القارئ يقول ما فائدة تخصيص اللغة العربية بالبحث بعد أن عرفنا أنَّ أصل اللغة توقيفي من الله تعالى، فاللغة العربية فرع من ذاك الأصل، وحكمها حكمه، فهي إذن توقيفة ؟
      أقول: نعم، اللغة العربية توقيفية من الله تعالى، ولكن أفردتها بالبحث لكي أبين الفرق بين عربية الوحي والعربية المتعارف عليها الآن، ولكي نسلط الضوء على كيفية نشوئها وعرض النصوص الشرعية الواردة بهذا الصدد.
      تدلنا الأحاديث على أن اللغة العربية كانت موجودة قبل أن يطأ آدم (ع) هذه الأرض:
      عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام سألته عن قول الله (وعلم آدم الأسماء كلها) ماذا علمه ؟ قال: (الأرضين والجبال والشعاب والأودية)، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: (وهذا البساط مما علمه) تفسير العياشي ج1 ص32.
      وعن الفضل بن عباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: (وعلم آدم الأسماء كلها) ما هي ؟ قال: (أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض) تفسير العياشي ج1 ص32 – 33.
      وعن داود بن سرحان العطار العطار قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فدعا بالخوان فتغدينا ثم جاؤوا بالطشت والدست سنانه فقلت: جعلت فداك قوله: (وعلم آدم الأسماء كلها) الطشت والدست سنانه منه ؟ فقال: (والفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا) تفسير العياشي ج1 ص33.
      وقال القمي في تفسيره: (واما قوله وعلم آدم الأسماء كلها) قال: (أسماء الجبال والبحار والأودية والنبات والحيوان) تفسير القمي ج1 ص45.
      وأخرج البخاري في صحيحه في تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)، بسنده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده واسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا...) صحيح البخاري ج5 ص146 – 147.
      وعن ابن عباس في قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها). قال: (علمه كل شيء، علمه القَصعة والقُصيعة... ). أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر في تفاسيرهم بلفظ: (علمه اسم الصحْفَة والقدْر وكل شيء...) المزهر في علوم اللغة وأنواعها، للسيوطي ج1 ص28.
      وعن سعيد بن جبير في قوله: (وعلم آدم الأسماء كلها). قال: (علمه اسم كل شيء حتى البعير والبقرة والشاة) المصدر السابق.
      وعن ابن عباس أيضاً في قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها). قال: عرض عليه أسماء ولده إنساناً إنساناً، والدواب؛ فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس) المصدر السابق.
      وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن عطية بن بشر مرفوعاً، في قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها). قال: (علمه في تلك الأسماء ألف حِرْفَة) المصدر السابق.
      وعن ابن عباس: (أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه العربية) المصدر السابق.
      وتعليم الله الأسماء كلها لآدم (ع)، لا يخلو من احتمالات ثلاثة؛ الأول أن يعلمه الأسماء بجميع اللغات، والثاني: أن يعلمه الأسماء ببعض اللغات، والثالث: أن يعلمه الأسماء بلغة واحدة.
      وعلى الاحتمال الأول تكون اللغة العربية من ضمن اللغات، وعلى الاحتمال الثاني أيضاً تكون اللغة العربية من ضمن تلك اللغات، لأنها سيدة اللغات، وهي لغة أهل الجنة، وهي لغة آدم في الجنة، وعلى الاحتمال الثالث لابد أن تكون تلك اللغة الواحدة هي العربية، لأنها لغة الوحي كما سيأتي بيانه.
      إذن فاللغة العربية كانت موجودة على الأقل عند نبي الله آدم (ع)، وبوحي من الله تعالى، فهي توقيفية لا اصطلاحية، ومما يؤكد كون اللغة العربية نشأت بالتوقيف من الله تعالى؛ الروايات التي تنص على أن نبي الله إسماعيل (ع) أول من نطق بها بإلهام من الله تعالى، وما روي عن النبي محمد (ص) بأن عربية إسماعيل أيضاً قد أوحاها الله اليه (ص)، وغير ذلك من الأخبار والقرائن.
      فنحن أمام روايات وأخبار تواترت على معنى كون اللغة بوحي وإلهام إلهي، فالتغاضي عن هذه النصوص وفحواها واللجوء الى تكهنات وتخرصات عارية عن تأييد النقل والعقل، يعد تعسفاً واضحاً، ينبغي للباحث الموضوعي أنْ يتنزه عنه.
      ولكن هل جمدت اللغة العربية على التوقيف أم نالها التغيير والتبديل والتحريف ؟
      الجواب: هو أنها قد تغيرت وتبدلت وحرفت كثيراً خلال القرون العديدة القاسية التي مرت بها، وتفرعت الى لغات أو لهجات عديدة، نتيجة الصراعات الداخلية والخارجية، التي لا تصمد أمامها أي لغة مهما كانت متسلطة، فكيف الحال باللغة العربية التي نشأت يتيمة بلا أهل أو عشيرة واستمرت على هذا الحال قرون عديدة، فلا كتاب سماوي بالعربية، ولا سيادة سياسية أو دينية للناطقين بها، وغير ذلك من نقاط القوة التي تساعد على ثبات اللغات.
      فهل تشعب اللغة العربية الى لهجات عديدة مختلفة أيضاً توقيفي ؟
      والجواب بالإيجاب يُعد مجازفة غير محمودة، فلا نمتلك أي دليل على توقيف اللهجات العربية المنشعبة عن العربية الأم، بل القرائن شاهدة على عدم توقيفها وأنها نشأت وابتعدت عن أمها الأصل بالتدريج نتيجة العوامل القاهرة.
      وبعد ما تقدم يتضح أن العربية الموجودة الآن ما هي إلا لهجة أو مزيج من عدة لهجات تشعبت عن العربية الأم، ومرت بأطوار ومراحل عديدة، حتى وصلت لنا بهذا الحال.
      وطبعاً هذا التغيير ليس خاصاً باللغة العربية، بل هو شامل لكل اللغات بدون استثناء، وإنما خصصنا الكلام عن العربية لارتباطها بالقرآن والسنة وغير هذا من الأمور التي ترتبط بالدين، ولوجود لبس كثير حول نشأتها وتطورها وأصولها عند المسلمين والعرب.
      وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.


      قال الامام أحمد الحسن ع:
      [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
      "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
      وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
      ]

      "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

      Comment

      • مستجير
        مشرفة
        • 21-08-2010
        • 1034

        #4
        رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

        عربية الوحي والعربية المحرفة
        (4)

        أول من نطق بالعربية
        المشهور عند عامة الناس أنَّ أول من نطق بالعربية هو النبي إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليهما السلام)، ولكن هذا الأمر غير مسلم به عند البعض، فهناك أقول متعددة في أول من نطق بالعربية، سأذكرها مع بسط الكلام عنها بالممكن:

        القول الأول: أنَّ إسماعيل (ع) هو أول من تكلم باللغة العربية.
        وردت عدة روايات تنص وتشير الى أن نبي الله اسماعيل (ع) هو أول من شق لسانه باللغة العربية، سأذكرها ليقف القارئ على مضامينها:
        روي عن الباقر عليه السلام: (أن إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، فكان أبوه يقول له: - وهما يبنيان البيت - يا إسماعيل هابي ابن أي أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل: يا أبت هاك حجرا، فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة) ( ).
        وعنه (عليه السلام) انّه قال: (أوّل من شقّ لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه فهو أوّل من نطق بها وهو الذبيح) ( ).
        ومن خطبة لأمير المؤمنين (ع): (... وسميته دون رسلك خليلاً، ثم خصصت به إسماعيل دون ولد إبراهيم، فأنطقت لسانه بالعربية التي فضلتها على سائر اللغات...) ( ).
        وقال السيوطي: وأخرج ابن سعد عن علي بن رباح اللخمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل العرب من ولد إسماعيل) ( ).
        وقال أيضاً: وأخرج ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم: (ان إسماعيل ألهم من يوم ولد لسان العرب وولد إبراهيم أجمعون على لسان إبراهيم) ( ).
        وأخرج الحاكم النيسابوري بسنده عن ابن عباس قال: ( أول من نطق بالعربية ووضع الكتاب على لفظه ومنطقه ثم جعل كتابا واحدا مثل بسم الله الرحمن الرحيم الموصول حتى فرق بينه ولده إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما) ( ).
        وأخرج ابن عساكر: عن أنس قال: قال أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يا رسول الله مالك أفصحنا لسانا وأبيننا بيانا فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن العربية اندرست فجاءني بها جبريل عليه السلام غضة طرية كما شق على لسان إسماعيل عليه السلام) ( ).
        قال ابن حزم: (والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده. والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة للعلم...) ( ).
        فهذه الروايات والأخبار تبين أمرين مهمين:
        الأمر الأول: أن اللغة العربية بوحي أو إلهام من الله تعالى، وليس من وضع البشر.
        الأمر الثاني: أن أول من تكلم باللغة العربية هو نبي الله إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليهما السلام).
        وهناك بعض المشاكل حول التسليم بهذه الأمرين، سأتعرض لها فيما يأتي من البحث إن شاء الله تعالى.

        القول الثاني: أنَّ نبي الله آدم (ع) هو أول من تكلم بالعربية.
        هذا القول لم أجد له تصريحاً في الروايات، نعم هناك روايات تنص على أنَّ لسانه في الجنة كان العربية، ولكن بعد نزوله الى الأرض كان لسانه السريانية.
        أخرج ابن عساكر بسنده عن عباس: (أن ادم كان لغته في الجنة العربية فلما عصى ربه سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية فلما تاب الله عليه رد عليه العربية) ( ).
        وقال السيوطي: وأخرج عبد الملك بن حبيب: (كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيا إلى أن بعد العهد وطال حرف وصار سريانيا، وهو منسوب إلى أرض سُورى أو سوريانه، وهي أرض الجزيرة، بها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق، قال: وكان يشاكل اللسان العربي، إلا أنه محرف، وهو كان لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له جرهم، فكان لسانه لسان العربي الأول، فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته، فمنهم صار اللسان العربي في ولده عَوْص أبي عاد، وعَبيل، وجائر أبي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم، لأنه كان جدهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشذ بن سام إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته، وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي) ( ).
        وهذان الخبران مع أنهما لم يسندا الى النبي (ص) ولا الى معصوم، هناك كلام في دلالتهما، فخبر ابن عباس مع أنه يصرح بأنَّ الله تعالى قد رد الله العربية الى آدم (ع) بعد توبته، إلا أنَّ هذا لا يعني بالضرورة أنه تكلم بالعربية في الأرض، فلعله رد عليه اللغة العربية بعد أن سلبها منه بعد المعصية، ولكنه لم يتكلم بالعربية، بل بقي على اللسان السرياني، ويترجح هذا الأمر بعد سماع الروايات الآتية التي تنص على أنَّ لسان آدم كان السريانية، وعدم عدّه ضمن الأنبياء العرب، فتكون تلك الروايات أصرح دلالة من خبر ابن عباس، وأثبت صدوراً.
        وأما خبر عبد الملك بن حبيب، فلا يمكن أنْ يعارض الروايات الصريحة الآتية، ويظهر منه أنه مجرد كلام له أو لغيره، فهو بعيد عن نَفَس الأحاديث النبوية، كما لا يخفى على من تأمله.
        عن الحسن بن علي بن فضال عن عمر بن أبان، عن بعضهم قال: (كان خمسة من الأنبياء سريانيون آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم عليهم السلام وكان لسان آدم عليه السلام العربية وهو لسان أهل الجنة فلما أن عصى ربه أبدله بالجنة ونعيمها الأرض والحرث وبلسان العربية السريانية). وقال: (كان خمسة عبرانيون: إسحاق ويعقوب وموسى وداود وعيسى عليهم السلام، من العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام، وخمسة بعثوا في زمن واحد: إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ولوط عليهم السلام...) ( ).
        وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله: (يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم وشيث وأخنوخ، وهو إدريس عليهم السلام - وهو أول من خط بالقلم - ونوح عليه السلام. وأربعة من الأنبياء من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك محمد) ( ).
        وروي عن ابن عباس أنه قال: (... وخمسة من العرب: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليهم وخمسة عبرانيون. آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم عليهم السلام...) ( ).
        وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: (... وكان هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يتكلمون بالعربية) ( ).
        وعن علي بن موسى الرضا عن آبائه، عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن خمسة من الأنبياء تكلموا بالعربية فقال: (هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين) ( ).
        عن أبي عبد الله صلوات الله عليه: (لم يبعث الله عز وجل من العرب الا خمسه أنبياء: هوداً، و صالحاً، وإسماعيل، وشعيباً، ومحمداً خاتم النبيين صلوات الله عليهم، وكان شعيب بكاء) ( ).
        وعن الصادق عليه السلام: (لم يبعث اللَّه تعالى من العرب إلا أربعة هوداً وصالحاً وشعيباً ومحمداً صلى اللَّه عليه وآله) ( ).
        وفي مسائل ابن سلام مع النبي محمد (ص):
        (... فأخبرني عن رسل العرب كم كانوا ؟ قال: ستة أولهم إبراهيم وإسماعيل ولوط وصالح وشعيب ومحمد...) ( ).
        واحتج القائلون بأنَّ آدم (ع) أول من تكلم العربية بقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)، بتقريب أنه علمه الأسماء في كل اللغات ومنها العربية، ولو كان علمه بعض اللغات لما كان قد علمه اللغات كلها.
        ونحن، بغض النظر عن صحة هذا التفسير أو عدمه، نعترف بأنَّ نبي الله آدم (ع) كان أول من تكلم العربية، ولكن ليس على الأرض، بل في الجنة، وعندما نزل الى الأرض كان لسانه سريانياً، كما نطقت بذلك الروايات، وأيضاً هل كان آدم (ع) عالماً باللغة العربية أم لا ؟ لا يهمنا الآن تشخيص الإجابة، ونجوز الأمرين، وإن القول بالإيجاب هو الأوفق حسب ما يستظهر من بعض الأخبار.
        عن أبي ذرّ الغفاري رضي اللَّه عنه أنه قال: (سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، كلّ نبيّ مرسل بم يرسل ؟. قال: بكتاب منزّل. قلت: يا رسول اللَّه، أيّ كتاب أنزل على آدم ؟. قال: أب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول اللَّه، كم حرف ؟. قال: تسع وعشرون. قلت: يا رسول اللَّه، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتّى احمرّت عيناه، ثم قال: يا أبا ذرّ، والَّذى بعثني بالحقّ نبيّا ! ما أنزل اللَّه تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفا. قلت: يا رسول اللَّه، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك؛ من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل على آدم، ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء منّي وأنا بريء منه، ومن لا يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرون حرفا لا يخرج من النار أبدا) ( ).
        وقال السيد ابن طاووس: وجدت في صحف إدريس النبي عليه السلام عند ذكر أحوال آدم على نبينا وآله وعليه السلام ما هذا لفظه: (حتى إذا كان الثلث الأخير من الليل ليلة الجمعة لسبع وعشرين خلت من شهر رمضان أنزل الله عليه كتاباً بالسريانية وقطع الحروف في إحدى وعشرين ورقة، وهو أول كتاب أنزل الله في الدنيا، أنزل الله عليه الألسن كلها، فكان فيه ألف ألف لسان لا يفهم فيه أهل لسان عن أهل لسان حرفاً واحداً بغير تعليم، فيه دلائل الله وفروضه وأحكامه وشرائعه وسننه وحدوده) ( ).
        وقال الحلبي في سيرته: (وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي والفارسي والسرياني والعبراني وغيرها من بقية الإثنى عشر كتابا وهي الحميري واليوناني والرومي والقبطى والبربري والأندلسي والهندي والصيني آدم عليه الصلاة والسلام كتبها في طين وطبخه فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه فأصاب إسماعيل الكتاب العربي) ( ).
        وقال القرطبي: (قلنا: الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له قال الله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة، قال صلى الله عليه وسلم: (وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقصيعة) وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام. وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا والله أعلم. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم، والله أعلم) ( ).
        وبغض النظر عن صحة هذه الروايات ومدى صلاحيتها للإثبات، فقد قدمت بأننا حتى لو سلمنا بأنَّ نبي الله آدم (ع) كان عالماً بالعربية، ولكنه لم يتكلم بالعربية بعد نزوله الى الأرض، فحتى لو ثبت أنَّ الله قد أنزل عليه صحفاً تحتوي كل اللغات والأحرف بما فيها اللغة العربية وحروفها، فيبقى ذلك في حدود كون آدم (ع) كان مستودعاً لهذه الكتب والعلم، ولم يتكلم العربية بعد نزوله من الجنة، بل كان لسانه سريانياً، لأننا لا يمكن أنْ نتنازل عن ما تضافرت به الروايات المتقدمة، من أنْ آدم (ع) كان يتكلم السريانية، وأنْ الأنبياء الذين تكلموا بالعربية خمسة أو ستة، هذا ما يمكن أنْ نعول عليه هنا، ولو من باب الترجيح على أقل تقدير. ومنه يتبين وهم من قالوا بأنَّ نبي الله آدم (ع) هو أول من تكلم بالعربية، فهؤلاء توهموا أنَّ لسان آدم (ع) في الأرض هو نفس لسانه في الجنة، وقد تبين خلاف هذا.

        القول الثالث: أنَّ نبي الله هوداً (ع) هو أول من تكلم بالعربية.
        قال السيوطي: وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: (كان هود أول من تكلم بالعربية وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل) ( ).
        وخبر ابن عباس هذا مع أنه غير مسند الى النبي (ص)، إلا أنه مؤيد بالروايات التي تقدم ذكرها، والتي تنص على أنَّ هوداً (ع) كان أحد الرسل الذين تكلموا بالعربية، وهو أقدم الرسل الذين نسبتهم الروايات للعربية، فيترجح أنه فعلاً أول من تكلم بالعربية من الرسل.
        وقال السمعودي: (ولا خلاف بين الجميع من النزارية واليمانية في أن هوداً وصالحاً كانا عربيين أرسلا إلى عاد وثمود وانهما قبل إبراهيم الخليل، وان لم يكن لهما ذكر في التوراة) ( ).

        القول الرابع: أنَّ جرهم وأخاه قطورا هما أول من تكلم العربية عند تبلبل الألسن.
        أخرج الحاكم بسنده عن الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بلسان عربي مبين قال: (بلسان جرهم) ( ).
        وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس عن النبي (ص) في حديث طويل في قصة إسماعيل وأمه (ع) ونزول جرهم بقربهم في مكة: (... قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ( فألفى ذلك أمُّ إسماعيلَ وهي تُحِبُّ الأُنْسَ ). فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهلُ أبياتٍ منهم، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم، وأنفسه...) ( ).
        إلا أن هذا القول لا يمكن التسليم به، وغاية ما يستفاد من هذه الروايات أو الأخبار أن جرهماً طان يتكلم العربية، وليس أول من نطق بها، بل لابد أنه تعلمها أو ورثها من هود أو صالح (ع) أو من قومهما.

        القول الخامس: أنَّ يعرب بن قحطان؛ واسمه ربيعة هو أول من تكلم بالعربية.
        قال الشيخ الطوسي: (ومن المعمرين: يعرب بن قحطان، واسمه ربيعة أول من تكلم بالعربية ملك مائتي سنة على ما ذكره أبو الحسن النسابة الأصفهاني في كتاب الفرع والشجر، وهو أبو اليمن كلها، وهو منها كعدنان إلا شاذا نادرا) ( ).
        وقال الجوهري في الصحاح: (ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية وهو أبو اليمن كلهم) ( ).
        قال المسعودي: (وأكثر نساب اليمانية وذوو المعرفة منهم يذهبون إلى أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان وانه انما سمى بذلك لاعرابه عن المعاني وان لسان قحطان لم يكن عربياً بل على اللسان الأول لسان سام بن نوح وغيرهم) ( ).
        وقال السيوطي: وأخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم بن سالم وهو متهم عن أنس بن مالك قال: (لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادى ينادى من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابلياً...) ( ).
        والظاهر أن أصل هذه القصة هو العهد القديم، كما في سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر: (وكان لأهل الأرض كلها لغة واحدة وكلام واحد. فلما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في سهل شنعار، فأقاموا هناك..... فقال الرب: "ها هم شعب واحد، ولهم جميعاً لغة واحدة ! ما هذا الذي عملوه إلا بداية، ولن يصعب عليهم شيء مما ينوون أن يعملوه ! فلنَنزِلْ ونُبَلبِلْ هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض". فشتتهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها، فكفوا عن بناء المدينة. ولهذا سميت بابل، لأن الرب هناك بلبل لغة الناس جميعاً، ومن هناك شتتهم الرب على وجه الأرض كلها).
        فلم أجد لها أصلاً في الأحاديث النبوية، ولا في أحاديث أهل البيت (ع)، بل لم أجد أي نص يشير الى أنَّ يعرب بن قحطان هو أول من تكلم بالعربية، بل هذا القول معارض بالروايات التي تنص على أنَّ نبي الله هوداً كان يتكلم بالعربية، وهو متقدم على يعرب بن قحطان.
        وقال أبو حيان الأندلسي في تفسير قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا...): (... سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي: المعروف أنّ هوداً عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى، وذكر الشريف النسّابة أبو البركات الجواني أنّ يَعرُب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عرباً به انتهى. فعلى هذا لا يكون هود عربيّاً وهود هو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح و (أَخَاهُمْ) معطوف على نوحاً ومعناه واحداً منهم وليس هود من بني عاد كما ذكرنا وهذا كما تقول أيا أخا العرب للواحد منهم، وقيل: هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فعلى هذا يكون من عاد واسم أمه مرجانة وكان رجلاً تاجراً أشبه خلق الله بآدم عليهما السلام، روي أنّ عاداً كانت له ثلاث عشرة قبيلة ينزلون رمال عالج وهي عاد الأولى وكانوا أصحاب بساتين وزروع وعمارة وبلادهم أخصب بلاد فسخط الله عليهم فجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا...) ( ).
        وقيل أنَّ قحطان ابن لهود (ع)، وقيل هو هود نفسه، وقيل غير ذلك، كما نجد تفصيل ذلك في كلام ابن حجر الآتي:
        ( "قوله باب نسبة اليمن إلى إسماعيل" أي ابن إبراهيم الخليل ونسبة مضر وربيعة إلى إسماعيل متفق عليها وأما اليمن فجماع نسبهم ينتهي إلى قحطان واختلف في نسبه فالأكثر انه ابن عابر بن شالخ بن ارفشخد بن سام بن نوح وقيل هو من ولد هود عليه السلام وقيل هو هود نفسه و قيل ابن أخيه و يقال إن قحطان أول من تكلم بالعربية وهو والد العرب المتعربة وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وغيرهم وقيل إن قحطان أول من قيل له أبيت اللعن وعم صباحا وزعم الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل وانه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل عليه السلام وهو ظاهر قول أبي هريرة المتقدم في قصة هاجر حيث قال وهو يخاطب الأنصار فتلك أمكم يا بني ماء السماء هذا هو الذي يترجح في نقدي وذلك أن عدد الاباء بين المشهورين من الصحابة وغيرهم وبين قحطان متقارب من عدد الاباء بين المشهورين من الصحابة وغيرهم وبين عدنان فلو كان قحطان هو هودا أو ابن أخيه أو قريبا من عصره لكان في عداد عاشر جد لعدنان على المشهور أن بين عدنان وبين إسماعيل أربعة آباء أو خمسة وأما على القول بان بين عدنان وإسماعيل نحو من أربعين أبا فذاك أبعد وهو قول غريب عند الأكثر مع أنه حكاه كثيرون وهو أرجح عند من يقول إن معد بن عدنان كان في عصر بختنصر وقد وقع في ذلك اضطراب شديد واختلاف متفاوت حتى أعرض الأكثر عن سياق النسب بين عدنان وإسماعيل وقد جمعت مما وقع لي من ذلك أكثر من عشرة أقوال...) ( ).

        القول السادس: أنَّ نبي الله نوحاً (ع) هو أول من تكلم بالعربية.
        قال ابن كثير في البداية والنهاية: (... وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها، وقال غيره أول من تكلم بها نوح...) ( ).
        وهذا القول ليس له شاهد من الروايات والأخبار، فلا يمكننا والحال هذه أنْ نميل إليه، أو نعده مضاهياً للأقوال الأخرى المدعومة بالشواهد الروائية.
        أما زعم وهب بن منبه، فهو مما لا يلتفت إليه، ولا يستحق الإنشغال بالرد عليه.

        القول السابع: أنَّ قحطان هو أول من تكلم بالعربية.
        قال ابن خلدون: (وليس بين الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم ويقال انه أول من تكلم بالعربية...) ( ).
        وقال الحموي في معجم البلدان: (قال هشام: قال أبي أول من تكلم بالعربية يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، ويقال: إن يقطن هو قحطان عرب فسمي قحطان ولذلك سمي ابنه يعرب بن قحطان لأنه أول من تكلم بالعربية) ( ).

        القول الثامن: أنَّ يعرب بن الهميسع هو أول من تكلم بالعربية.
        قال ابن العماد الحنبلي نقلاً عن محمد بن السائب الكلبي الكوفي: (وأول من تكلم بالعربية يعرب بن الهميسع بن نبت بن إسماعيل) ( ).
        وهذا القول والذي قبله مخالف للثابت المشهور من أن إسماعيل (ع) كان عربي اللسان، وهو متقدم على قحطان ويعرب.

        القول التاسع: أنَّ عمليق أول من تكلم بالعربية بعد تبلبل الألسن.
        قال ابن العماد الحنبلي نقلاً عن محمد بن السائب الكلبي الكوفي: (وروى ابن عباس أن أصحاب سفينة نوح كانوا ثمانين رجلاً فلما كثروا ملكهم نمرود بن كنعان بن حام بن نوح فلما كفروا بلبل الله ألسنتهم وتفرقوا اثنين وسبعين لساناً وفهم الله العربية عمليق وأميم وطسم ابني لوذ بن سام وعادا وعبيلا بني عوص بن سام بن نوح) ( ).
        وقصة تبلبل الألسن في بابل قد تقدم ذكرها ونصت هناك على أنَّ من نطق بالعربية هو يعرب بن قحطان وليس عمليق.
        وهذه الأقوال وأمثالها لا أعتقد أنها قابلة للاعتماد عليها، ولذلك تركت ذكر بعض الأقوال، وفيما ذكرت كفاية، ويبقى ما يمكن أن نعول عليه ونهتم به من الأقوال السابقة هي الأقوال التي خصت نبي الله هود وإسماعيل، ويلحق بهما أقوال أخرى.
        ولا يخفى أنَّ هذه الأقوال ظاهرها التعارض، إذ كل قول يصرح بخلاف البقية، فتحصل أنَّ أول من تكلم بالعربية متعددين، وهذه نتيجة متضاربة لابد من حلها والخروج بنتيجة مقبولة، وقد حاول من تطرق لهذا الموضوع أنْ يحل المسألة بتأويل غير بعيد، وكان مجمل ما أفادوه أنَّ اللغة العربية كانت موجودة قبل إسماعيل (ع)، وكان يتكلم بها حمير وجُرْهم كقدر متيقن، وأنَّ إسماعيل كان بداية أمره قد تعلم العربية من جرهم عندما نزلوا عند مكة، ثم بعد ذلك أوحى الله تعالى العربية المحضة المبينة الى إسماعيل (ع)، فكان إسماعيل (ع) أول من تكلم بالعربية المحضة المبينة، وليس أول من تكلم بالعربية مطلقاً، حيث أنَّ التاريخ يحدثنا عن وجود العربية قبل نبي الله إسماعيل (ع)، ومنهم من قال إنَّ المعنى هو أنَّ إسماعيل أول من تكلم بالعربية من آل إبراهيم (ع)، لأنَّ لسان أبيه إبراهيم ولسان أخته لم يكن عربياً.
        قال المناوي: ( (أول من فتق لسانه) ببناء فتق للمفعول وللفاعل أي الله (بالعربية) أي باللغة العربية وهي كما في المصباح كغيره ما نطق به العر ب (المبينة) أي الموضحة الصريحة الخالصة (إسماعيل) ابن إبراهيم الخليل قال الزمخشري: ويسمى أبو الفصاحة قال في الروض الأنف: وهو نبي مرسل إلى جرهم والعماليق الذين كانوا بأرض الحجاز فآمن بعض وكفر بعض (وهو ابن أربع عشرة سنة) قال الديلمي: أصل الفتق الشق أي أنطق الله لسان إسماعيل حتى تكلم بها وكان أول من نطق بها كذلك وقال في المصباح: يقال العرب العاربة هم الذين تكلموا بلسان يعرب بن قحطان وهو اللسان القديم والعرب المستعربة هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم وهي لغة الحجاز وما والاها انتهى. قال ابن حجر: وأفاد بهذا القيد أعني المبينة أوليته في ذلك بحسب الزيادة والبيان لا الأولية المطلقة وإلا فأول من تكلم بالعربية جرهم وتعلمها هو من جرهم ثم ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة فنطق بها ويشهد له ما حكي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم ويحتمل كون الأولية مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى إخوته من ولد إبراهيم) ( ).
        وقال ابن حجر: (قوله وتعلم العربية منهم) فيه اشعار بأن لسان أمه وأبيه لم يكن عربياً وفيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية وقد وقع ذلك من حديث ابن عباس عند الحاكم في المستدرك بلفظ أول من نطق بالعربية إسماعيل. وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي باسناد حسن قال: أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل. وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فتكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة فيكون بعد تعلمه أصل العربية من جرهم ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة فنطق بها ويشهد لهذا ما حكاه ابن هشام عن الشرقي بن قطامي ان عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم ويحتمل أن تكون الأولية في الحديث مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية اخوته من ولد إبراهيم فإسماعيل أول من نطق بالعربية من ولد إبراهيم وقال ابن دريد في كتاب الوشاح أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان ثم إسماعيل) ( ).
        وغير ذلك من أقوال العلماء، وكلها متفقة تقريباً مع ما ذكره المناوي وابن حجر في حل هذه المشكلة، ولكن هذا التأويل لم يحل المشكلة تماماً، إذ لا خلاف بأنَّ أصل اللغة العربية واحد - حسب القول بالتوقيف – بما تتصف به من بيان وفصاحة، فكيف كانت عربية إسماعيل أبين وأفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم ؟! فلا شك أنَّ عربية يعرب بن قحطان وغيره أصلها توقيفي من الله تعالى، ولابد أنْ يكون بداية أمرها بوحي الى أحد الأنبياء (ع)، فكيف تتغير من نبي الى آخر ؟!
        الأظهر المدعم بقانون النواميس الطبيعية للبشر؛ أنَّ اللغة العربية شأنها شأن سائر اللغات، كلما مرت عليها القرون التي تتضمن صراعات عديدة مع سائر اللغات الأخرى، كلما تسلسل اليها الدخيل والتأثر بتلك اللغات، أضف الى ذلك أنَّ الإنسان دائم التغير في قدراته سلباً أو إيجاباً، فتتغير عنده مخارج الحروف وطبيعة النطق بالأصوات، مما يسبب تغير وانحراف اللغة عنده عن أصلها الأول، الى أن تصبح كأنها لغة أخرى مغايرة للغة الأم.
        فلنقل أنَّ أول من نطق باللغة العربية هو نبي الله هود (ع)، فمن الطبيعي أنَّ توالي القرون على اللغة الموروثة عن هود (ع) سوف يسبب تغير وانحراف هذه اللغة تدريجاً عند الأجيال، حتى تصل الى مغايرة للغة العربية الأم من حيث الفصاحة والبيان وإنْ اتفقت معها اجمالاً في الحروف، فتجدد اللغة مرة أخرى بوحي أو الهام من الله تعالى الى نبي آخر، وهكذا دواليك.
        بهذا يمكننا قبول كل أو أشهر الأقوال المتقدمة في أول من نطق بالعربية، فيكون نبي الله هود (ع) مثلاً أول من نطق بالعربية، ثم بعد أنْ اندرست اللغة العربية وشوهت معالمها، تجدد على يد نبي آخر، فيصح أنْ يقال إنه أول من نطق بالعربية، باعتبار أنْ العربية السابقة قد اندرست وتم تحريفها، فيكون هو أول من نطق بها على نحو التمام والموافقة للغة العربية الأم، وهكذا الى أنْ أوحى الله اللغة العربية الى النبي محمد (ص) بعد اندراسها، كما سيأتي بيانه بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
        وعلى هذا فاللغة العربية في عهد نبي الله إسماعيل (ع) واحدة، وهي اللغة التي أوحاها الله تعالى اليه، أما اللغة العربية عند حمير وجرهم فهي عربية محرفة عن أصلها الى حدٍ ربما تعد لغة أخرى غير العربية، نتيجة توالي القرون عليها بما تتضمنه من عوامل انحراف وتغير اللغات.


        قال الامام أحمد الحسن ع:
        [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
        "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
        وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
        ]

        "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

        Comment

        • مستجير
          مشرفة
          • 21-08-2010
          • 1034

          #5
          رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

          عربية الوحي والعربية المحرفة
          (5)
          العربية عند مبعث النبي محمد (ص)
          اتضح مما تقدم في المبحث السابق أنَّ اللغة العربية قد مرَّت بثلاث مراحل طويلة جداً، وكل مرحلة تتضمن صراعات عديدة للعربية مع أهلها والناطقين بها ومع نظيراتها من اللغات الأخرى ولهجاتها، فهي في كل مرحلة أسيرة عند ألسنة الأجيال المتعاقبة، يلوكونها بحسب طبائعهم وسلائقهم، حيث لا ضوابط أو علم مدون، ولا كتاب سماوي مدون باللغة العربية، ولا حتى ما يعتد به من ثقافة التدوين والكتابة، كما هو معروف عند بعض الأمم آنذاك، فكانت المرحلة الأولى هي عهد العرب البائدة، والمرحلة الثانية عهد اليمنيين من بني قحطان، والمرحلة الثالثة عهد ما بعد نبي الله إسماعيل (ع) الذي استمر ستة وعشرون قرناً حتى عهد النبي محمد (ص)، فيصح أنْ يقال إنَّ اللغة العربية عند مبعث النبي محمد (ص) إنما هي لغة عامية منبثقة عن صراع عدة لهجات أو لغات عربية وأعجمية، وهي بعيدة كل البعد عن اللغة العربية الفصحى الأم.
          ولذلك نجد النبي محمداً (ص) يقرر هذا الأمر بصورة واضحة، كما تذكر الأحاديث الآتية:
          أخرج ابن عساكر: عن أنس قال: قال أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يا رسول الله مالك أفصحنا لسانا وأبيننا بيانا فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن العربية اندرست فجاءني بها جبريل عليه السلام غضة طرية كما شق على لسان إسماعيل عليه السلام) ( ).
          وأخرج الحاكم في معرفة علوم الحديث:
          حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى قال ثنا أبو العباس الثقفي قال ثنا حاتم بن الليث الجوهري قال ثنا حامد بن أبي حمزة السكري قال ثنا علي بن الحسين بن واقد قال حدثني أبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا ؟ قال:
          (كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبرائيل عليه السلام إلي فحفظنيها) ( ).
          وأخرجه الحاكم بسند آخر هكذا:
          حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس الضبي رحمه الله من أصل كتابه قال أنا أحمد بن علي بن زرين الفاشاني من أصل كتابه قال ثنا علي بن خشرم قال ثنا علي بن الحسين بن واقد قال بلغني أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله انك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
          (إن لغة إسماعيل كانت قد درست فأتاني بها جبرائيل فحفظنيها) ( ).
          وذكر المتقي الهندي: عن ابن عمر أن عمر قال: يا نبي الله ما لك أفصحنا ؟ قال:
          (جاءني جبريل فلقنني لغة أبي إسماعيل) ( ).
          إذن اللغة العربية التي أوحاها الله تعالى الى إسماعيل (ع) قد دَرَسَت واندثرت، ولم يبقَ منها إلا الاسم وصورة مشوهة لا تحكي عن أصلها ومبدئها شيئاً إلا أمور عامة قد بقيت ربما لأنها غير قابلة للتغيير، فإذا كانت اللغة العربية قد دَرَسَت - على حد تعبير النبي (ص) – فما هي اللغة التي كان يتداولها العرب ويتغنون بها في أشعارهم ونثرهم ؟!
          هي في الحقيقة اللغة العامية التي اعتاد الناس على التحدث بها، وقد يتميز الشعر بأسلوب أرقى من لغة المحادثة، وهذا أمر طبيعي تقتضيه طبيعة الشعر، وتباري الشعراء وحرصهم على التميز والشهرة بين القبائل العربية بالفصاحة ودقة التعبير، أضف الى هذا أنَّ لغة المحادثة تجري بعفوية بدون تكلف أو تنظيم، بينما الشعر يُبتنى على التروي فيه وترتيبه واختيار ألفاظه قبل إنشاده، والقول بكون لغة العرب عند مبعث النبي محمد (ص) هي لغة عامية؛ نتيجة طبيعية جداً، اللهم إلا أن نقول إنها جمدت على حالتها الأولى خلال (26) قرناً بإعجاز إلهي، وهذا ما لا يقول به قائل.
          وعند مبعث النبي محمد (ص) لم تكن هناك لغة واحدة للعرب، بل كانت عشرات اللغات أو اللهجات، وسيأتي التطرق لها إن شاء الله تعالى.


          قال الامام أحمد الحسن ع:
          [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
          "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
          وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
          ]

          "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

          Comment

          • مستجير
            مشرفة
            • 21-08-2010
            • 1034

            #6
            رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

            عربية الوحي والعربية المحرفة
            (6)
            اللغات أو اللهجات العربية عند مبعث النبي (ص)
            بسبب انتشار العرب وهجرتهم، ومجاورتهم للعجم واختلاطهم بهم، وبسبب انقسامهم العرقي الى قحطانية وعدنانية .. وغير ذلك، كله أدى الى أن تكون للغة العربية لهجات كثيرة ربما يصعب حصرها، فكان لكل قبيلة أو قوم لهجة معينة تختلف عن غيرها من لهجات القبائل نسبياً، واشتهر تسمية اللهجات بأسماء القبائل التي تنطق بها، ثم قيل إنَّ عمدة مَنْ يُعتمد عليهم في أخذ اللغة العربية الفصحى هم:
            1 – قريش.
            2 – قَيْس.
            3 – تميم.
            4 – أسَد.
            5 – هُذَيْل.
            6 – بعض كِنَانة.
            7 – بعض الطائيين.
            ولم يؤخذ من لَخْم، ولا من جُذَام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط؛ ولا من قُضَاعةَ، ولا من غسَّان، ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تَغْلِب ولا النَّمِر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بَكْر؛ لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، ولا من عبد القيس؛ لأنهم كانوا سكان البحرين، مخالطين للهند والفرس، ولا من أزْد عُمَان، لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلاً؛ لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة، وسكان اليمامة، ولا من ثَقِيف، وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تُجَّارَ الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم. انظر: الاقتراح للسيوطي ص101 – 104.
            فكل هذه اللهجات وغيرها كانت موجودة عند مبعث النبي محمد (ص)، ولا أحد يعرف أيٌ من هذه اللهجات هي اللغة العربية الفصحى الأم، بل الأصح أن يقال: لا أحد يعرف أيٌ من هذه اللهجات أقرب الى اللغة العربية الفصحى الأم؛ لأنَّ المقطوع عدم وجود لهجة تطابق اللغة العربية الفصحى الأم؛ لما تقدم بيانه من تغير اللغة وانحرافها عن اصلها كلما بعدت زماناً عن أصلها بسبب عوامل عديدة.
            وكون لغة قريش كانت هي السائدة كلغة أدب – كما يقال -، لا يعني هذا بالضرورة قربها من اللغة الفصحى الأم، بل سيادة لغة أو لهجة ما إنما هو نتيجة العوامل المساعدة التي تحكم كل اللغات، كنفوذ الناطقين بتلك اللغة سياسياً ودينياً واقتصادياً وأدبياً، فبعد تشعب اللغة الواحدة الى عدة لهجات، ويبدأ الصراع بين هذه اللهجات، يكون النصر حليف اللهجة التي تتمتع بتلك العوامل المتقدمة، وقد يكون النصر حليف أبعد اللهجات عن اللغة الأم.
            فاللغة لها خصائص ذاتية تؤهلها للسيادة على غيرها من اللغات، ولكن التعصب العرقي والديني والسياسي وعوامل أخرى خارجية طغت على الخصائص الذاتية للغات، وأخذت مكانها وأصبحت هي التي تقرر اللغات المنتصرة من اللغات المنهزمة، وإنْ كان هناك دور للخصائص الذاتية فهو لا يقاوم ما تقدم من العوامل الخارجية، ولا يقف أمام سيلها العارم، وهذا ما يشهد به الواقع التاريخي للغات.
            فلا يجوز لنا والحال هذه أنْ نقدس لغة ما ونجعلها كأنها وحي سماوي، حتى إنْ كانت هي اللغة السائدة بلا منازع، لأنَّ منشأ تلك السيادة ليس مقدساً، إلا إنْ دل الدليل الرصين على قدسيتها وارتباطها بالشرع وصاحب الشرع.
            وسيأتي مزيد بيان في ذلك.


            قال الامام أحمد الحسن ع:
            [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
            "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
            وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
            ]

            "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

            Comment

            • مستجير
              مشرفة
              • 21-08-2010
              • 1034

              #7
              رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي


              عربية الوحي والعربية المحرفة
              (7)
              أفصح اللغات
              الفصاحة؛ هي البيان والوضوح والظهور، كما نصت على ذلك معاجم اللغة؛ كلسان العرب لابن منظور، والصحاح للجوهري، وتاج العروس للزبيدي وغيرها، والفصاحة جارية في كل شيء يتصف بالبيان أو الوضوح والظهور، والفصاحة قد تكون بالإشارات والحركات كما تكون باللسان، وهي بذلك تكون بين البهائم من طيور وحشرات وزواحف ومجترات وغيرها، كما بين بني البشر، والأمر نسبي كما لا يخفى، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الأنعام: 38. وقد أثبت العلم الحديث أنَّ هناك لغات تخاطب وتفاهم بين الحشرات والحيوانات، ووسيلة هذه اللغات قد تكون حركات وإشارات، وقد تكون أصواتاً يفهمها أبناء الجنس الواحد، كالممالك العجيبة للنحل والنمل، فهكذا لغات هي وسيلة الفصاحة والبيان بين تلك البهائم، فهي فصيحة فيما بينها وإنْ كانت عند البشر عجماء، قال ابن منظور في لسان العرب:
              (قال: وقد يجيء في الشعر في وصف العُجْم أَفْصَحَ يريد به بيان القول، وإن كان بغير العربية؛ كقول أَبي النجم: أَعْجَمَ في آذانِها فَصِيحاً ( ). يعني صوت الحمار انه أَعجم، وهو في آذان الأُتُن فصيح بَيِّنٌ) ( ).
              فالشاعر أبو النجم يصف نهيق الحمار بأنه فصيح بَيِّنٌ في آذان أمثاله من الحمير، وإنْ كان غير بَيِّنٍ ولا فصيح في آذان البشر، والعكس صحيح؛ أي إنَّ الإنسان أعجم بالنسبة الى تلك الدواب، وإنْ كان فصيحاً بالنسبة الى أبناء جنسه.
              ولكن قد غلب استعمال الفصاحة في الكلام والخطاب، وهي هنا بنفس المعنى العام لها؛ وهو البيان والوضوح والبلاغة ( )، وقد سُئل أمير الفصاحة علي بن أبي طالب (ع) عن أفصح الناس، فأجاب بأنَّه: (المُجيب المُسكت عند بديهة السؤال) ( ).
              وعنه (ع): (البلاغة أن تجيب فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ) ( ).
              وعنه (ع): ( أحسن الكلام ما زانه حسن النظام ، وفهمه الخاص والعام ) ( ).
              وعنه (ع): (أحسن الكلام ما لا تمجه الآذان، ولا يتعب فهمه الأفهام) ( ).
              وعن أحدهم (ع) - وقد سئل عن البلاغة: (من عرف شيئاً قل كلامه فيه، وإنما سمي البليغ لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه) ( ).
              وعن الصادق (ع): (ثلاثة فيهن البلاغة: التقرب من معنى البغية، والتبعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير) ( ).
              وقد جاءت أحاديث تذم الذين يتظاهرون بالفصاحة ويتشدقون بها طلباً للسمعة أو الاستطالة بها على الناس، بل بعض الأحاديث ظاهرها أنها تنهى عن الانهماك في البيان والفصاحة والبلاغة، وقد قيدها بعض العلماء بالمذموم منها، لا مطلق الفصاحة والبيان والبلاغة.
              ففي الحديث الصحيح عن النبي (ص): (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها) ( ).
              قال المناوي في شرح هذا الحديث: ( (إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال) أي المظهر للتفصح تيها على الغير وتفاصحا واستعلاء ووسيلة إلى الاقتدار على تصغير عظيم أو تعظيم حقير أو بقصد تعجيز غيره أو تزيين الباطل في صورة الحق أو عكسه أو إجلال الحكام له ووجاهته وقبول شفاعته ...) ( ).
              وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء والعي شعبتان من الايمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) ( ).
              قال ابن منظور في بيان هذا الحديث: (وفي الحديث عن أَبي أُمامة: أَن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : الحياءُ والعِيُّ شُعْبتان من الإِيمانِ ، والبَذاءُ والبيانُ شُعْبتانِ من النِّفاق ؛ أَراد أَنهما خَصْلتان مَنْشَؤهما النِّفاق ، أَما البَذاءُ وهو الفُحْشُ فظاهر ، وأَما البيانُ فإنما أَراد منه بالذّم التعمُّق في النُّطْق والتفاصُحَ وإظهارَ التقدُّم فيه على الناس وكأَنه نوعٌ من العُجْب والكِبْرِ ، ولذلك قال في رواية أُخْرى : البَذاءُ وبعضُ البيان ، لأَنه ليس كلُّ البيانِ مذموماً) ( ).
              وعنه (ص): (إن البيان كل البيان شعبة من الشيطان) ( ).
              وعنه (ص): (إن الله كره لكم البيان كل البيان) ( ).
              وعن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أنه قَالَ: (تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يُخْطِئُ بِلَامٍ ولَا وَاوٍ خَطِيباً مِصْقَعاً ولَقَلْبُه أَشَدُّ ظُلْمَةً مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وتَجِدُ الرَّجُلَ لَا يَسْتَطِيعُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِه بِلِسَانِه وقَلْبُه يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ الْمِصْبَاحُ) ( ).
              وهكذا روايات لم تأتِ اعتباطاً، بل هي ردة فعل تجاه فهم مغلوط انطوى عليه المجتمع الإسلامي، وهو اعتبارهم الفصاحة ميزاناً لتقييم الناس، وقد تكون الفصاحة عندهم هي غير الفصاحة الحقيقية التي هي إصابة الحق وبيان الحجة، لا مجرد تنميق الكلام وزخرفته، وحدة اللسان وسلاطته، وقد ترجمها الإمام الصادق (ع) بقوله: (ليست البلاغة بحدة اللسان ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة) ( ).
              وقد يتوهم البعض أنَّ الفصاحة حكراً على العرب أو اللغة العربية، فإنْ كان لهذا الوهم فعلية حقاً، فهو جهل لا يحسد عليه صاحبه. فالفصاحة والبلاغة بمعناها اللغوي المعروف وهو البيان والإظهار والإيضاح، لا يمكن أنْ ينفى عن أي لغة مهما كانت، لأنَّ اللغة هي وسيلة تفاهم أهلها فيما بينهم، وبيان وإظهار ما في ضمائرهم ونفوسهم، ليفصحوا به فيما بينهم، وهذه هي الفصاحة والبيان، فاللغة التي ليس لها بيان وفصاحة لا تسمى لغة أصلاً.
              نعم؛ كما أنَّ أهل كل لغة يتفاضلون فيما بينهم في الفصاحة والبلاغة، فكذلك اللغات قد تتفاضل في الفصاحة والبلاغة، ولكني أرى أنَّ البلاغة والفصاحة لا تتوقف على نوع اللغة، وإنْ كان لنوع اللغة دور؛ فهو الى جانب عامل أساسي في الفصاحة والبلاغة؛ وهو المتكلم، فالمتكلم الفصيح البليغ يتصف بالفصاحة والبيان سواء كان ناطقاً بالعربية أم بالفارسية وحتى الصينية وغيرها من اللغات الأعجمية، لأنَّ الفصاحة والبيان ملكة أو قدرة باطنية غير مختصة بلغة دون أخرى، وهي تخرج الى الواقع الفعلي بوسائط أو وسائل؛ منها سلامة اللسان فيسولوجياً وفنياً – إنْ صح التعبير -، ومنها صفاء الذهن والمزاج الذي بدوره يتأثر بالمؤثرات المادية والمعنوية، ومنها طبيعة المعلومة أو المسألة التي يراد بيانها، والظرف التي تم خزنها خلاله، وكذلك الظرف الذي يتم فيه البيان، الى غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها البيان كلياً أو جزئياً، ولا دخل لها في أصل القدرة على الفصاحة كصفة يتصف بها الإنسان، والدليل على ذلك أنَّه قد يتلعثم الفصيح في الجواب ويتلكأ، كما روي عن أمير المؤمنين (ع): (رُبَّما خَرِسَ البَليغُ عَن حُجَّتِهِ، رُبَّما أُرتِجَ عَلَى الفَصيحِ الجَوابُ) ( ). ومسألة اتصاف نبي الله موسى (ع) بملكة الفصاحة والبلاغة لا يختلف فيها اثنان من المسلمين، ولكنه بسبب العوق الذي كان في لسانه من الصغر لم يكن يفصح عن مراده بصورة كاملة، قال الله تعالى حكاية عن موسى (ع): {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} ( ). وقال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ( ). وقوله: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا)، ربما يعني أنَّ هاروناً (ع) لم يكن أفصح من موسى (ع) ملكة، بل كان أفصح منه لساناً، فليس كل من لم يكن فصيح اللسان فهو ليس فصيحاً مطلقاً، فقد يكون الخلل في اللسان العضوي فقط، كما كان نبي الله موسى (ع).
              فالفصاحة كما تكون في اللغة العربية، كذلك تكون في سائر اللغات بلا استثناء، وتطلق الفصاحة على من يصل الى مستوى معين من البيان في أي لغة، وهي كما لا يخفى أمر نسبي متفاوت، أو مفهوم مشكك – حسب تعبير البعض -، فمن يتصف بالفصاحة إنْ كان لسانه عربياً، كان فصيحاً بالعربية وعند العرب، وإنْ كان لسانه فارسياً، كان فصيحاً بالفارسية وعند الفرس، وهكذا في جميع اللغات، واللغة هي الوسيلة والآلة التي تترجم بها فصاحة الفصيح خارجاً، وليست هي ذات الفصاحة.
              والفصيح الذي يحسن التكلم بالعربية فقط، لا يكون فصيحاً باللغة الفارسية وعند الفرس، لا لأنَّه لا يتصف بملكة الفصاحة، بل لأنَّه لا يمتلك الوسيلة والآلة التي يترجم بها فصاحته باللغة الفارسية، وكذا العكس، أي إنَّ الفصيح الذي لا يحسن التكلم باللغة العربية، لا يكون فصيحاً بالعربية، لا لأنَّه فاقد لملكة الفصاحة، بل لأنَّه فاقد لآلة الفصاحة في اللغة العربية.
              وبهذا فالفصيح العربي الذي لا يحسن التكلم بغير العربية، ليس فصيحاً عند الفرس والإنجليز وغيرهم من اللغات الأعجمية عند العرب، وكذلك الفصيح بأي لغة أعجمية لا يكون فصيحاً عند العرب، لأنَّ كلامه عندهم غير بين ولا واضح لأنه ليس بلغتهم، فإنْ كان هذا واضحاً نأتي الى تفصيل الكلام عن الفصاحة عند العرب، فأقول:
              تقدم الكلام أنَّ العربية الباقية بكلا قسميها (العدناني، والقحطاني)، مرَّت بمراحل عديدة خلال عشرات القرون، أدت الى تحريفها عن أصلها، وتفرعها وتشتتها الى لهجات أو لغات عديدة ربما يصعب حصرها، فاللهجات العربية حالها حال كل اللهجات من أي لغة كانت، لها جانبان من التغير؛ الجانب الأول ابتعادها عن أمها الأصل، والجانب الثاني ابتعادها عن أخواتها، فكل لهجة من لهجات اللغة العربية منذ أوائل نشأتها تبتعد في نفس الوقت عن أمها وعن أخواتها تدريجياً، الى أن تحصل على استقلالها واسمها الخاص، ولكي نجزم بأفصحية لهجة معينة من بين اللهجات المتعددة للغة العربية، لابد أنْ يكون ذلك عن طريق أحد أمرين لا ثالث لهما؛ الطريق الأول هو معرفة اللغة الأم (عربية الوحي)، وعندها ستكون أفصح اللهجات هي أقربها الى اللغة الأم، والطريق الثاني هو معرفة أقرب اللهجات الى اللغة الأم (عربية الوحي)، وإنْ كانت بائدة، وعندها سيكون ترتيب اللهجات حسب قربها من اللهجة الأقرب الى اللغة الأم (عربية الوحي).
              وكلا الأمرين تعيينهما في عداد المستحيل الآن لعامة الناس، ولا يثبت أحدهما إلا بإشارة أو نص من شخص متصل بالوحي أو بصاحب الوحي الإلهي، لأنَّ عربية الوحي واحدة سواء كانت العربية التي سبقت نبي الله إسماعيل (ع) أم العربية التي أوحيت الى إسماعيل (ع)، فالأولى قد بادت واندرست بهلاك أهلها من قوم عاد وثمود وغيرهم، وما بقي منها عند حمير وجرهم إنما هي عربية مشوهة مبتعدة كل البعد عن أمها الأصل، وأما الثانية وهي عربية إسماعيل (ع) فهي أيضاً قد شوهت واندرست أوضح معالمها، كما تقدم بيانه وهو ما نص عليه النبي محمد (ص) أيضاً.
              وأما تعيين اللهجة الأفصح من خلال قربها من القرآن الكريم وفصاحة النبي محمد (ص)، فهو متوقف على تحرير نقطتين مهمتين؛ النقطة الأولى إثبات أنَّ القرآن الكريم نزل بلغة معينة من لهجات العرب أو محاكياً لها دون غيرها. والنقطة الثانية إثبات أنَّ القرآن الكريم قُرئ على الناس بعربية إسماعيل (ع) (عربية الوحي)، وكلا النقطتين فيهما كلام سيأتي إنْ شاء الله تعالى في مستقبل هذا البحث، نعم لا شك أنَّ كلام القرآن الكريم مهيمناً على جميع الألسنة واللهجات، ولكن هذا شيء وما نحن بصدد الكلام عنه شيء آخر، كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.
              فلا يمكن والحال هذه الحكم بأفصحية لهجة من لهجات العرب، ولا يمكن التعويل على آراء قبيلة من قبائل العرب وترك غيرها من أخواتها، لأنَّ الفصاحة مثلاً عند بني تميم تختلف عن الفصاحة عند هذيل وحمير وجرهم، وهكذا بقية لهجات القبائل العربية، لأنَّ التميمي يكون فصيحاً بين قبيلته لأنَّه يخاطبهم بلسانهم الذي اعتادوا عليه وألفوه، ولكن التميمي نفسه لا يكون بنفس فصاحته عند حمير أو جرهم أو هذيل، لأنَّه يخاطبهم بلسان يختلف عن لسانهم فلا يفصح لهم عن الحقائق كما يبين الحميري لقومه، والهذلي لقومه والجرهمي لقومه وهكذا بقية اللهجات، ومن غرائب ما روي في ذلك ما ذكره السيوطي في المزهر، إذ قال:
              (وروي أن زيد بن عبد الله بن دارم وفدَ على بعض ملوك حِمْير فألفاه في مُتَصَيَّدٍ له على جبل مُشْرف، فسلَّم عليه وانتسب له فقال له الملك: ثِبْ، أي اجلس، وظنَّ الرجلُ أنه أمرَ بالوُثوبِ من الجبل فقال: ستجدني أيها الملك مِطْوَاعًا ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ما شأنه فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة. فقال: أما أنه ليست عندنا عربيتْ، من دخل ظَفَارِ حَمَّر، أي فليتعلم الحميرية) ( ).
              وما روي من قصة النبي محمد (ص) مع الأسير، وقد ذكرها الزبيدي في تاج العروس كالتالي:
              (وفي الحدِيثِ: أنَّه صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بأَسِيرٍ وهو يَرْعُدُ مِن البَرْدِ فقالَ لقَوْمٍ منهم: اذْهَبُوا به فأَدْفُوه، يُريدُ الدِّفْءَ مِن البَرْدِ، فذَهَبُوا به فَقَتَلُوه، فوَدَاهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما في الصِّحاحِ.
              قالَ ابن الأَثيرِ: أَرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الادْفاءَ من الدِّفْءِ فحَسَبُوه الإِدْفاء بمعْنَى القَتْل في لُغَةِ اليَمَنِ؛ وأَرادَ صلى الله عليه وسلم أدْفِئوه بالهَمْز فخففه وهو تَخْفيفٌ شاذٌّ والقِياسُ أن تُجْعَل الهَمْزَة بَيْنَ بَيْن لا أَنْ تُحْذَفَ، وإنما ارْتَكبَ الشُّذُوذ لأنَّ الهَمْزَ ليسَ مِن لُغَةِ قُرَيْش) ( ).
              إذن لا يوجد مقياس ثابت نقيس عليه الفصيح من غيره، وتبقى كل لهجة هي الأفصح عند أهلها والناطقين بها، لأنها الأكثر بياناً واظهاراً للمعاني عندهم، وما قيل من أنَّ لغة قريش هي أفصح اللغات، فهو أمر غير ثابت ولا يستند الى ركن وثيق، وأما من زعم أنَّ قريشاً في الجاهلية كانت لها السيادة السياسية والدينية والاقتصادية، فمع أنَّ هذا لا علاقة له بالأفصحية - لإمكان أنْ تنتصر اللغة الرديئة لانتصار الناطقين بها دينياً أو سياسياً أو اقتصادياً – فهو غير مُسلم به، وقد ناقش الدكتور المؤرخ علي جواد هذه الأمور، وأثبت عدم صحتها أو عدم اختصاص قريس بها، فقال عن السيادة السياسية:
              (وأما العوامل التي أوجدها المحدثون في تفسير سبب سيادة لغة قريش على غيرها من اللغات عند ظهور الإسلام، وهي: السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية والسيادة الدينية، وهي عوامل تتصل بها عادة سيادة اللغات، فهي عوامل وضعوها وضعًا وتخيلوها من غير سند أو دليل، أقاموها على تصورات أخذوها من أقوال لأهل الأخبار، لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها. وقد حاولت جهدي أن أعثر في مؤلفات القائلين بها على سند واحد يثبت سيادة قريش السياسية على غيرها من القبائل عند ظهور الإسلام، سيادة قوة وفتح، أو سيادة نفوذ واعتبار فلم أجد فيها دليلًا واحدًا يمكن أن يكون حجة لإثبات تلك السيادة. وكل ما وجدته فيها أحكام عامة مطلقة لم تقم على حجة ولا دليل. ثم راجعت الموارد القديمة علني أجد فيها شيئًا، يثبت هذا التفوق، فلم أجد فيها أي شيء أيضًا يدل عليه، بل وجدت العكس، وجدت أن سادات مكة مثل عبد المطلب وغيره كانوا يراجعون حكام اليمن ويتقربون إليهم، لينالوا منهم العطف والرعاية، والهبات والألطاف، وكانوا إذا سمعوا بتبوء ملك منهم كرسي الحكم، ركضوا إليه يهنئونه، داعين له بالعمر الطويل، وبالتوفيق في الحكم، ثم وجدت فيها أن سادتها كانوا يراجعون حكام العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة، ويتوددون إليهم بالهدايا، لكسب عطفهم، ولحصول على مساعدات منهم، لتيسير سبل الاتجار مع الأرضين التي كانوا يحكمونها، وأنهم كانوا يصانعون سادات القبائل ويؤالفونهم، لضمان حق مرور تجارتهم بأرضهم بأمن وسلام، في مقابل إتاوات تدفع لهم، أو هدايا تحمل إليهم، ثم رأيت ما كان من أمر "هاشم" وأخوته من عقدهم الإيلاف الذي أشير إليه في القرآن. ثم وجدت أن أهل الأخبار يقولون: إن "قيصر" أعان قصيًّا على خزاعة، وأن "عثمان بن الحويرث" قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرون قريشًا بأنها لا تحسن القتال، وأنها تجاري وتساير من غلب، وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"، فهل في هذا الكلام بعد –إن صح بالطبع- ما يشير إلى نفوذ سياسي .........
              ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيئات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنفوذ السياسي، وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرئ القيس" صاحب نص النمارة، المتوفى سنة "328م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية.
              ففي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطان سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسالمين قليلين مثل قريش ...) ( ).
              أما بخصوص سيادة قريش الاقتصادية، فيقول الدكتور جواد علي:
              (وأما ما يقصونه علينا من نفوذ السلطان الاقتصادي الذي كان لقريش وعن أثره في سيادة لهجة قريش على لهجات العرب، فأنا أقرأ أن مكة كانت مدينة تجار وتجارة، وبيع وشراء، واستيراد وتصدير، وليس من حق أحد أن ينكر ذلك، بعد أن نص القرآن على إتجارهم، وعلى وجود رحلتين لهم: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. وبعد أن زخرت كتب الأخبار والتأريخ بأخبار تجارة رجالها. ولكن هل كانت مكة، المدينة المتاجرة الوحيدة في جزيرة العرب؟ والجواب: كلا، فقد كانت لأهل اليمن تجارة مع مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان سادات اليمامة والبحرين من الأثرياء الثقال في بلادهم، وكانوا أصحاب تجارات، وكانت اليمامة خاصة، ريف مكة تمونها بالميرة والمنافع، وكان ساداتها إذا غضبوا عليها قطعوا الميرة عنها، فيصيبها من ذلك غم كبير، وتضطر عندئذ إلى مصالحتهم. فلما جاءهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد أهل اليمامة، وقالوا له: "يا ثمامة، صبوت وتركت دين آبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت بربّ هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء ما تنتفعن به حتى تتبعوا محمدًا من آخركم. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وأن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن خل بين قومي وميرتهم". وكان تجار البحرين يحملون تجارتهم من أقمشة ومن تجارة البحر إلى مكة، كما كان ملوك الحيرة يبعثون بلطمائهم إلى الأسواق ومنها سوق عكاظ، وكان الحضر وأهل القرار في كل جزيرة العرب تجارًا، ومنهم أهل يثرب، ويهودها ويهود وادي القرى، ويعود سبب اشتهار مكة بالتجارة دون غيرها من قرى ومدن جزيرة العرب، إلى القرآن الكريم، فإليه وحده يعود فضل اشتهارها بالتجارة، لما جاء فيه من ذكر عن قساوة تجار قريش وغلظهم تجاه الفقراء، ومن أكلهم أموال اليتامى والأرامل والبنات، ومن تعاطيهم الربا، ومن اتجارهم برحلتي الشتاء والصيف إلى غير ذلك من أمور حملت علماء التفسير والأخبار على التنقير عن أخبار تجارة مكة وعلى جمع ما حصلوا عليه في كتبهم، ولو نزل في القرآن الكريم شيء عن تجارة وتجار مواضع أخرى مسماة باسمها لخصت تلك المواضع بعنايتهم من دون شك ولا ريبة، ثم إن مدينة الرسول، وقد اشتغل الرسول نفسه بالتجارة، وكان والده وبقية عشيرته تجارًا، وكانت زوجه خديجة تاجرة، فحمل كل هذا علماء السيرة على البحث عن تجار مكة وعن تجارتها قبل الإسلام، وعن المواضع التي تاجروا معها. فظهرت مكة من ثَمَّ وكأنها المدينة الوحيدة التاجرة في جزيرة العرب!) ( ).
              وأما بخصوص نفوذ وسيادة قريش دينياً، فيقول الدكتور جواد علي:
              (وأما ما يذكرونه عن النفوذ الديني الذي كان لقريش على العرب، فالذي أعرفه من أمر الدين عند أهل الجاهلية، أنهم كانوا بين مشرك، وهم الكثرة الكاثرة، وبين يهود، وهم قلة، وبين نصارى، وهم أكثر من اليهود عددًا، وبين جالية مجوسية، قلدها في دينها نفر من العرب لا يعبأ بعددهم. أما الشرك، فقد تتبعناه في الجزء السادس من هذا الكتاب، فوجدنا أن لكل قبيلة صنمًا، كانت تتقرب إليه وتنذر له وتستعين به في حربها وغزوها، ولم تكن العرب تحج إلى صنم واحد، هو صنم قريش، بل كانت تحج إلى أصنامها، ووجدنا أن "هبل" هو صنم أهل مكة وكفى. ثم رأينا أن لأهل نجران كعبة، ولأهل يثرب محجة، ولإياد كعبة، ولثقيف محجة، وللقبائل الأخرى محجات، وللنبط محجة، ولأهل العربية الجنوبية معابدهم، ولم نقرأ في أي نص من نصوص أهل الجاهلية أنهم حجوا إلى مكة، أو أن أحدًا منهم ذهب إليها لغرض من الأغراض الدينية أو أي غرض آخر، ولم يرد اسم مكة في أي نص من هذه النصوص. ولم نسمع في أخبار أهل الأخبار، أن قوافل من عرب العراق أو عرب بلاد الشأم أو نجد أو العروض، كانت ترحل في موسم الحج إلى مكة لفرض تأدية الحج، أو أداء العمرة في رجب، ولم أقف على اسم ملك من ملوك الحيرة قيل إنه حج إلى مكة، ولم أقف على اسم ملك من ملوك كندة أو بقية العرب ذكر أنه حج في جاهلية إلى مكة، اللهم إلا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عامًا عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل.
              وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الخاصة بهم. فلا نفوذ لقريش إذن عليهم من ناحية الدين.
              نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الإجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب؟ ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الإيمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات من السنين؟ ثم ماذا تقول من إشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه؟ وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به؟ ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج؟ ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور الدين؟
              أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية، التي تحدثت عنها، وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضًا. وأما الشعر الذي نسب إلى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا الكتاب. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية القحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قحطانيين وجعل العربية الأولى عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عربًا مستعربة، إلى غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعًا لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار أنهم كانوا هم اللب والأصل، وأن خصومهم جاء إليه الحكم عفوًا، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار....) ( ).
              وأصل مطلب الدكتور جواد علي متين ورصين، فمن شاء الاطلاع على تمام كلامه في هذا الموضوع فليرجع الى كتابه الموسوعي (المفصل)، فهو كتاب يستحق القراءة وإنْ كان مطولاً جداً، فعلى من يعارض هذا المطلب أنْ يأتي بدليل صريح ثابت تطمئن اليه النفس، وإلا فلا يستأهل البحث.
              وقد بينتْ بضعة محمد (ص) فاطمة الزهراء (ع) حال قريش السياسي والديني والاقتصادي في كلمات معدودة ضمن خطبتها بعد وفاة أبيها (ص)، حيث قالت مخاطبة قريش ومن معهم:
              (وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد [الورق] أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله) ( ).
              وبغض النظر عن كلام الدكتور جواد علي، فإنا حتى إنْ سلمنا جدلاً بسيادة قريش سياسياً ودينياً واقتصادياً، فهذا لا يدل أبداً على أفصحية لغتهم أو لهجتهم، لأنَّه لا تلازم بين السيادة والأفصحية – كما قدمت -، بل أقولها بضرس قاطع: لا يمكن أنْ تكون هناك لهجة أفصح من باقي اللهجات، ما دام أنَّ قبائل العرب مختلفة الألسن واللهجات، فكلٌ يستعذب لهجته ويعتبرها أفصح من سائر اللهجات.
              يقول المبرد :
              [وكلّ عربيّ لم تتغيّر لغته فصيح على مذهب قومه ، وإنما يقال : بنو فلان أفصح من بنى فلان ، أي أشبه لغة بلغة القرآن ولغة قريش ، على أن القرآن نزل بكل لغات العرب . ويروى عن ابن عباس أنه قال : كنت لا أدرى ما الفتّاح حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لخصم لها : هلَّم فاتحنى ، أي حاكمنى ، فعلمت أن الحاكم الفتّاح . وكنت لا أدرى ما (فاطِرِ السَّماواتِ) حتى سمعت أعرابيّا ينازع في بئر فقال : أنا فطرتها ، يريد أنشأتها] ( ).
              نعم، قد يكون هناك وجه للقول بوجود لغة هي أفصح لغات العرب، إنْ ثبت وجود لغة معترف بها عند كل العرب على أنها لغة الأدب والتدوين، تمتاز بأنها مقبولة وواضحة عند جميع القبائل العربية، وهذه أمنية تمخضت بها كتب كثيرة فلم تنجب شيئاً، وإنْ أنجبت شيئاً، فقد وُلِد ميتاً، لفقدانه روح البرهان والدليل الرصين، وسيأتي التطرق الى ما يتعلق بهذا الموضوع في المباحث الآتية من هذا الكتاب، إنْ شاء الله تعالى.


              قال الامام أحمد الحسن ع:
              [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
              "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
              وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
              ]

              "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

              Comment

              • مستجير
                مشرفة
                • 21-08-2010
                • 1034

                #8
                رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

                عربية الوحي والعربية المحرفة
                (8)
                هل أُنزل القرآن بلغة قريش ؟
                كثر الكلام في هذا الموضوع، واختلفت الأقوال وكذلك الأخبار، وبطبيعة الحال أنَّ المُثبتَ عليه أن يأتي بدليل صريح على هذا الأمر، وإلا فاللسان ذلول كما يقال، وما أكثر الادعاءات التي أثارتها العصبية الجاهلية، وامتدت لما بعد الإسلام والى يومنا هذا مع شديد الأسف.
                ومسألة نزول القرآن بلغة قريش عمدتها ما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان:
                أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: (فأمَر عُثمانُ: زيدَ بنَ ثابتٍ، وسعيدَ بنَ العاصِ، وعبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيرِ، وعبدَ الرحمنِ بنَ الحارثِ بنِ هشامٍ، أن يَنسَخوا ما في المَصاحِفِ، وقال لهم: إذا اختَلَفتُم أنتم وزيدُ بنُ ثابتٍ في عربيةِ القرآنِ، فاكتُبوها بلسانِ قريشٍ، فإنَّ القرآنَ أُنزِلَ بلسانِهم، ففعَلوا) ( ).
                وذكر ابن عبد البر: عن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب الأنصاري عن أبيه عن جده أنه كان عند عمر بن الخطاب فقرأ رجل {من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه عتى حين} فقال عمر: من أقرأكها، قال: أقرأنيها ابن مسعود، فقال عمر: {حتى حين} وكتب إلى ابن مسعود: أما بعد فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام) ( ).
                وقول عمر وعثمان مردود وبيِّن الخطأ، لأنَّ الله تعالى قد نص على أنَّ القرآن عربي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ( )، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} ( )، { قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ( )، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ( )، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ( )، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} ( )، {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} ( )، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ( )، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ( )، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ( ).
                فمحمد (ص) قرشي العشيرة، ولكنَّ قومه المرسل اليهم هم العرب عموماً، ولذلك قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} ( )، فالإنذار ليس مقتصراً على مكة، بل مكة ومن حولها من بلاد العرب، ومحمد (ص) بقي بمكة ثلاثة عشر سنة ثم هاجر الى المدينة، وعرب المدينة ليسو من قريش كما لا يخفى، وبقي هناك حتى توفي (ص)، إذن فقومه الذين أرسل فيهم هم العرب عموماً، وليس قريش فقط، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ( )، فلابد أن يكون القرآن بلسان كل العرب.
                قال المباركفوري: ( قال القاضي ابن أبو بكر بن الباقلاني: ... وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش فإن ظاهر قوله تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا أنه نزل بجميع ألسنة العرب ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة أو هما دون اليمن أو قريشا دون غيرهم فعليه البيان لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخران ويقول نزل بلسان بني هاشم مثلا لأنهم أقرب إلى النبي نسبا من سائر قريش) ( ).
                فيتضح أنَّ ما زعمه عمر وعثمان، كلام عار عن الدليل، وهو رأي تأثري نابع عن التعصب للقبيلة، وهكذا تعصب كان شائعاً قبل الإسلام وبعده والى يومنا هذا، وعلى كل حال فنحن لم نؤمر بأنْ نأخذ ديننا ولا قرآننا من عمر أو عثمان، بل إنَّ الشواهد تؤكد على جهل عمر بالقرآن ومعانيه، فقد كان يقرأ قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ( )، هكذا: (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) برفع الأنصار وحذف الواو من (الذين)، حتى احتدمت المعارضة بينه وبين أبي بن كعب، وانتهت بهزيمة عمر بن الخطاب واضطراره للإقرار بالخطأ.
                قال الزيعلي في تخريج الأحاديث: (قوله عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرى أن قوله تعالى (والذين اتبعوهم بإحسان) بغير واو صفة للأنصار حتى قال له زيد إنه بالواو فقال ائتوني بأبي فقال تصديق ذلك في أول الجمعة (وآخرين منهم) وفي أوسط الحشر "والذين جاءوا من بعدهم" وفي آخر الأنفال (والذين آمنوا من بعد).
                وروي أنه سمع رجلاً يقرؤها بالواو فقال من أقرأك قال أبي فدعاه فقال أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لتبيع القرظ بالبقيع قال عمر صدقت وإن شئت قلت شهدنا وغبتم ونصرنا وخذلتم وآوينا وطردتم.
                قلت رواه الطبري بنقص يسير من طريقين عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) فأخذ عمر بيده وقال من أقرأك هذا قال أبي بن كعب قال لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الآية قال نعم وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ...
                ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث حبيب بن الشهيد عن عمرو بن عامر عن عمر بن الخطاب نحوه وفيه فقال أبي لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تبيع الخبط فقال عمر فنعم إذا) انتهى كلام الزيعلي ( ).
                وقد أخرج الحاكم قصة احتكام عمر لأبي بن كعب في هذه الآية، وفي آخرها قول أبي العنيف لعمر بن الخطاب: (نعم انا تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات كل ذلك يقوله وفي الثالثة وهو غضبان نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل وأنزلها جبريل على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر) ( ).
                وقد كان عمر يجهل أبسط الأحكام الشرعية، حكم التيمم عند فقد الماء، كما أخرجه مسلم في صحيحه ( )، ويجهل حكم الاستئذان، وقال (ألهاني الصفق بالأسواق)، كما جاء في الصحيحين ( )، وأيضاً كان يجهل أنَّ القلم مرفوع عن المجنون حتى يبرأ ( )، وكان عمر يجهل معنى الأب في قوله تعالى: (وفاكهة وأبا) ( )، وليس عمر وحده كان يجهل معنى الأب، بل كان أبو بكر أيضاً يشاطره هذا الجهل ( )، أما معنى (الكلالة) فكان يؤرق عمر كثيراً، وقد سأل رسولَ الله عنه كثيراً، ولكنه لم يفقه معناه، حتى أغلظ له النبي (ص) وطعنه بإصبعه في صدره، حتى توفي رسول الله (ص) وعمر يجهل (الكلالة) ! ( ).
                فإذا كان القرآن نزل بلغة قريش فقط فلماذا لم يفهم عمر معنى (الأب) و (الكلالة) ؟!
                ثم كيف يصح لعمر بن الخطاب أنْ يقيد عبد الله بن مسعود بالقراءة على لغة معينة، وعمر مأمور بأنْ يأخذ القراءة عن ابن مسعود، كما أخرج ذلك البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو، أنه سمع النبي (ص) يقول: (خُذُوا القُرآنَ من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب) ( ).
                وجاء في مسند أحمد بن حنبل عن النبي (ص) أنه قال: (من سرَّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد) ( ).
                والعجيب أنَّ هذا الحديث يرويه عمر بن الخطاب نفسه ( )، ومع ذلك يجعل من نفسه معلماً أو مصححاً لعبد الله بت مسعود، مع أنَّ غاية ما يصل اليه عمر بن الخطاب هو أنْ يكون تلميذاً متواضعاً بين يدي ابن مسعود، تعويلاً على الأحاديث الصحيحة، ولكن هو تسلط الحاكم على العلم والعلماء !
                فالنبي (ص) يعلم أنَّ ابن مسعود ليس قرشياً، وإنَّه من هذيل، ومع ذلك جعل قراءته موافقة للتنزيل، وأمر المسلمين أنْ يأخذوا القرآن منه ومن الثلاثة الآخرين، حسب نص صحيحي البخاري ومسلم.
                فإذا كان هذا هو حال عمر بن الخطاب في معرفته بالقرآن الكريم، فكيف نعتمد عليه في أخطر قضية، وهي تحديد لغة القرآن الكريم ؟! وإذا كان هذا حال عمر فلا تستأهل البحث عن حال عثمان بن عفان.
                ومسألة اللغة التي نزل بها القرآن الكريم قد اختلفت الأقوال فيها:

                1- قيل إنها لغة قريش، وهو قول عمر وعثمان وعكرمة بن خالد ومجاهد.
                وقال العيني في تفسير هذا القول: ( (بابٌ نزَلَ القُرْآنُ بلِسانِ قُرَيْشٍ والعَرَبِ) أي: هذا باب في بيان القرآن نزل بلسان قريش، أي: معظمه وأكثره، لأن في القرآن همزا كثيراً وقريش لا تهمز، وفيه كلمات على خلاف لغة قريش، وقد قال الله تعالى (قرآنا عربيا) (طه: 311) ولم يقل: قرشياً ...) ( ).
                فقول عمر وعثمان لا يصمد أمام النقد وأمام واقع القرآن الكريم الموجود، ولذلك اضطر بعض العلماء الى تأويله، لأنهم يعلمون قطعاً أنَّ في القرآن الكثير من سائر لغات العرب غير قريش.

                2- وقيل إنها لغة جرهم:
                ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني أحمد بن حميد عن أبي تميلة ختن عبد الله بن موسى عن أبي المنيب، عن حسين بن واقد، عن ابن بريدة (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ) قال: بلسان جرهم ( ).
                وأخرجه الحاكم في المستدرك: أخبرني علي بن الحسين القاضي ببخارى ثنا عبد الله بن محمود بن شقيق ثنا أبو تميلة عن الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بلسان عربي مبين قال بلسان جرهم ( ).
                وأيضاً أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد الله الحاكم ( ).
                وجرهم ليست عدنانية أصلاً، وعربيتها ليست العربية الإسماعيلية.

                3- وقيل إنَّ القرآن نزل بكل لسان:
                ابن أبي شيبة الكوفي في المصنف، قال: حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا حماد بن سلمة عن نبيط عن الضحاك قال: نزل القرآن بكل لسان ( ).
                وقال أيضاً: حدثنا عبد الله عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : نزل القرآن بكل لسان ( ).
                وقال السيوطي: واخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت قريش لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا فأنزل الله: (لقالوا لولا فصلت آياته) الآية وأنزل الله بعد هذه الآية فيه بكل لسان. قال ابن جرير: والقراءة على هذا أعجمي بلا استفهام ( ).
                وهذا القول يعني أنَّ القرآن الكريم ليس على لغات العرب فحسب، بل فيه أيضاً من اللغات الأعجمية المشهورة آنذاك كالرومية والسريانية والعبرية والفارسية والنبطية ...الخ.

                4- وقيل إنَّ القرآن نزل بسبعة لغات:
                قال ابن حجر: (فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن. قال والعجز سعد بن بكر وجشم ابن بكر ونصر بن معاوية وثقيف وهؤلاء كلهم من هوازن ويقال لهم عليا هوازن ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعنى بنى دارم) ( ).
                وقال أيضاً: (وقال أبو حاتم السجستاني نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر) ( ).
                وقال أيضاً: (قال أبو عبيد ليس المراد ان كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم) ( ).
                وقال ابن الجوزي في كلامه عن حديث الأحرف السبعة: (والذي نختاره أن المراد بالحرف اللغة، فالقرآن أنزل على سبع لغات فصيحة من لغات العرب، فبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وغيرهم من الفصحاء. وقد يشكل على بعض الناس فيقول: هل كان جبريل يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات ؟ فيقال له: إنما يلزم هذا إذا قلنا إن السبعة الأحرف تجتمع في حرف واحد، ونحن قلنا: إن السبعة الأحرف تفرقت في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة غيرهم) ( ).

                5- وقيل إنَّ القرآن نزل بلغة مضر خاصة:
                قال السيوطي: (وقيل نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات) ( ).
                وقال القرطبي: (القول الثالث: ان هذه اللغات السبع انما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجوا بقول عثمان: نزل القران بلغة مضر، وقالوا: جائز ان يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتيم، ومنها لضبة، ومنها لقيس، قالوا: هذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحب ان يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر) ( ).
                وقال الدكتور جواد علي: (وذكر أنَّ عمر لما أراد "أنْ يكتب الإمام، أقعد له نفراً من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر" ولما كانت القبائل المذكورة من مجموعة (مضر)، تكون لغة القرآن، وفقاً لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش ...) ( ).

                6- وقيل إنَّ القرآن أنزل أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب ثم أبيح للعرب أنْ يقرؤوه بلغاتهم:
                قال السيوطي: (ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد) ( ).

                7- وقيل إنَّ في القرآن خمسين لغة:
                قال السيوطي: (وقال أبو بكر الواسطي في كتابه الإرشاد في القراءات العشر في القرآن من اللغات خمسون لغة لغة قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس وعيلان وجرهم واليمن وأزدشنوءة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبنو حنيفة وثعلبة وطيئ وعامر بن صعصعة وأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلي وعذرة وهوازن والنمر واليمامة.
                ومن غير العربية الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط) ( ).
                وكما ترى فإنَّ الأقوال كثيرة ومختلفة في تعيين اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وبرأيي إنْ أردنا تحديد لغة خاصة للقرآن الكريم، فلابد أنْ تكون هي أفصح اللغات على الاطلاق، فصاحة غير مسبوقة أبداً عند العرب، وبعبارة أوضح: فصاحة إعجاز، بحيث أنها تخاطب كل العرب بمختلف لهجاتهم بأسلوب وتراكيب لغوية تتصاغر أمامها كل ألسنة العرب، يعني كما يقال: (السهل الممتنع)، فهي سهلة الفهم غير ممتنعة عند جميع العرب، وبنفس الوقت لا يستطيع لسان أنْ يباريها فصاحة وبلاغة، وقد تقدم أنَّ كل لغة من لغات العرب لا يمكن أنْ تكون الأفصح عند كل القبائل وإنْ كانت فصيحة عند أهلها، إذن باللغة التي تهيمن على كل اللغات وتطويها تحت جناحها بهذا المعنى، هي لغة معجزة لا تكون إلا بعناية إلهية، وهكذا لغة لا توجد عند غير النبي محمد (ص)، فلابد أنْ يكون القرآن منزلاً بلغة النبي محمد (ص) مع المحافظة على خصوصية الوحي الإلهي.
                ومسألة أفصحية النبي محمد (ص) أمر بديهي نظراً لامتيازه بالكمال الذي لا يدانيه فيه أحد، فهو القائل: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ( )، وقال الإمام الصادق (ع): (إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحْسَنَ أَدَبَه فَلَمَّا أَكْمَلَ لَه الأَدَبَ قَالَ : {إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ...) ( ).
                وروي أنَّ رجلاً من بني سلول قال للنبي (ص): يا رسول اللَّه أيدالك الرجل امرأته ؟ قال: (نعم إذا كان ملفجا)، فقال له أبو بكر: يا رسول اللَّه، ما قال لك، وما قلت له ؟ قال: إنه قال : أيماطل الرجل أهله ؟ فقلت له: (نعم إذا كان مفلساً)، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك، قال: (أدبني ربي، ونشأت في بني سعد) ( ).
                وعن أبي جعفر الباقر (ع): قال: قال رسول الله (ص): (أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً، وأحل لي المغنم، ونصرت بالرعب، وأعطيت جوامع الكلم، وأعطيت الشفاعة) ( ).
                وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب ...) ( ).
                وعن ابن عباس وعمر عن النبي (ص) قال: (أعطيت جوامع الكلم [وفواتحه] واختصر لي الحديث اختصاراً) ( ).
                وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (ص): (أعطيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه ...) ( ).
                وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعرب العرب ولدت في قريش ونشأت في بني سعد فأنى يأتيني اللحن) ( ).
                وقال الصدوق: حدثني الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري قال أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن منيع ، قال : حدثني إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام بمدينة الرسول قال : حدثني علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي ، عن موسى بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين عليهم السلام قال : قال الحسن بن علي عليهما السلام : سألت خالي "هند بن أبي هالة" عن حلية رسول الله صلى الله عليه وآله . فقال : .... قال : فقلت : فصف لي منطقة . فقال :
                (... يتكلم بجوامع الكلم فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير ...) ( ).
                وعن عائشة قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه) ( ).
                وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة، واللفظ لمسلم: (إنما كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحدِّثُ حديثًا، لو عَدَّه العادُّ لأحصاه) ( ).
                وفي حديث أم معبد الخزاعية ( ) في وصف رسول الله (ص): (وكان إذا صمت فعليه الوقار، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق لا نذر ولا هذر) ( ).
                وعن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله ! ما بالك أفصحنا ولم تخرُجْ من بين أظهُرِنا ؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست ، فجاء بها جبريل فحفِظتُها [فحفَّظَنيها]). وجاء بلفظ: (إنَّ لغةَ إسماعيلَ درَسَتْ فأتاني بها جبريلُ فحفِظتُها) ( ).
                وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) قَالَ: (إِنَّ اللَّه مَثَّلَ لِي أُمَّتِي فِي الطِّينِ وعَلَّمَنِي أَسْمَاءَهُمْ كَمَا عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ...) ( ).
                (وقالت برة بنت عامر الثقفية سيدة نساء قومها لإخوتها: يا بني عامر أفيكم من أبصر محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: كلنا قد رأينا أيام الموسم. فقالت: أفيكم من سمعه يتكلم ؟ قالوا: نعم. فقالت: كيف هو في فصاحته ؟ قالوا: يا أختاه إن أقبح مثالب العرب الكذب، أما فصاحته فما ولدت العرب فيما مضى ولا تلد فيما بقى أفصح منه ولا أذرب منه إذا تكلم يعجز اللبيب كلامه ويخرس الخطيب خطابه) ( ).
                وهذه الأحاديث والأخبار بمجموعها تثبت أنَّ النبي محمداً (ص) كان أفصح العرب، وكانت فصاحته فوق مستوى البشر جميعاً، وهي مستوحاة من الله تعالى، وإنَّ كلامه كان قليل الألفاظ كثير المعاني، كالدرر المنظومة، لا تَمُجُّهُ الأسماع ولا يثقل على الأفهام، لا تدانيه قريش ولا غيرها في فصاحتها، وهذا غاية الفصاحة والبلاغة، حيث استعمال أقل المفردات والتراكيب وأهذبها، لبلوغ المعاني الكثيرة والدقيقة، وهذا لا علاقة له بالانتساب الى لغة من لغات العرب بالخصوص، بل هي لغة خاصة بالنبي محمد (ص)، مهيمنة على كل اللغات العربية، وكل اللغات بأهلها عاجزة عن مباراتها أو الارتقاء إليها، فهي كقمة الجبل الشامخ، ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير، مع عدم خروجها عن كونها عربية مفهومة للعرب، وهذا هو الإعجاز في الفصاحة والبلاغة والبيان.
                فإنْ كان القرآن قد أنزل بلغة أحد من البشر، فلا يكون غير محمد المصطفى (ص)، ولكن الحق أنَّ عربية القرآن الكريم مهيمنة حتى على عربية محمد (ص)، وهذا واضح لمن قارن بين كلام القرآن الكريم وبين كلام الرسول محمد (ص)، مع أنْ كلاهما قد أخفت الرواية كثيراً من معالمهما.
                وامتياز بني هاشم بالفصاحة دون قريش وسائر العرب قد نص عليه أمير المؤمنين علي (ع)، عندما سئل عن قريش، فقال: (أَمَّا بَنُو مَخْزُومٍ فَرَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ، نُحِبُّ حَدِيثَ رِجَالِهِمْ والنِّكَاحَ فِي نِسَائِهِمْ، وأَمَّا بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فَأَبْعَدُهَا رَأْياً، وأَمْنَعُهَا لِمَا وَرَاءَ ظُهُورِهَا، وأَمَّا نَحْنُ فَأَبْذَلُ لِمَا فِي أَيْدِينَا، وأَسْمَحُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِنُفُوسِنَا، وهُمْ أَكْثَرُ وأَمْكَرُ وأَنْكَرُ، ونَحْنُ أَفْصَحُ وأَنْصَحُ وأَصْبَحُ) ( ).
                والنبي محمد (ص) سيد البيت الهاشمي بلا خلاف، فهو أفصحهم وأبينهم، وقد صرح الحديث الآتي بأنَّ القرآن الكريم قد نزل بلسان النبي الكريم محمد (ص):
                تفسير ابن أبي حاتم ج9 ص2818 - 2819: حدثنا أبي، ثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي، ثنا عباد بن عباد المهلبي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دجن، إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف ترون بواسقها ؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها ! قال: فكيف ترون قواعدها ؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها ! قال: كيف ترون جريها ؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده ! قال: فكيف ترون رحاها استدارة ؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها ! قال: كيف ترون بقها أوميض، أم خفق، أم يشق شقا ؟ قالوا: بل يشق شقا قال: الحياة الحياة إن شاء الله - قال: فقال رجل يا رسول الله: بأبي وأمي ما أفصحك ؟ ما رأيت الذي هو أعرف منك ؟ قال: فقال: حق لي وإنما نزل القرآن بلساني والله يقول (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ( ).
                فكيف يُدّعى أنَّ القرآن قد نزل بلغة قبيلة أو قبائل معينة من العرب، وهو قد نزل تحدياً لهم على أنْ يأتوا بمثله أو بسورة منه ؟! نعم، نزل القرآن الكريم بلغة العرب عموماً أو تغليباً من حيث المفردات والألفاظ، ولكن من حيث التراكيب والفصاحة والبلاغة والبيان، فما أبعد لغة العرب عنه، حيث وقفوا أمامه مبهوتين متحيرين خاضعين، فيجب أنْ لا تقصر اللغة أو اللسان على المفردات فقط، بل جوهر اللغة واللسان هو طبيعة استخدام تلك الأدوات (الألفاظ)، وكيفية تركيبها وتهذيبها وبلوغ المعاني بها، ولذلك نجد أنَّ الله تعالى لم يميز اللسان القرآني بغير البيان وعدم الاعوجاج، (لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، (قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)، وعلى هذا الأساس القرآني يجب أنْ تقسم اللغات أو الألسن، الى مبينة وغير مبينة، ويبقى التفضل في البيان لا غير، ولكن تبقى العقبة الكؤود هي تعيين الميزان البياني الذين تقاس عليه اللغات والألسن، فإما أنْ نجد اللغة العربية الأصل التي تتفاضل اللغات المتفرعة عنها بالفصاحة حسب قربها من العربية الأم، وإما أنْ يكون الميزان البياني هو الشعوب، بمعنى أنْ اللغة تكون فصحى كلما كانت واضحة وبينة ومهذبة عند الناطقين أو المخاطبين بها، وهذا كما تقدم ميزان غير منضبط، لأنَّ كل قبيلة تستعذب لهجتها ومفرداتها، فمثلاً مفردات تميم أو هذيل التي تعتبرها قريش غريبة أو رديئة، هي ليست كذلك عند أهلها من تميم وهذيل، بل لعل بدائل هذه المفردات عند قريش تكون غريبة أو رديئة عند بني تميم وبني هذيل، وعلى هذا يكون الفصيح القرشي فصيحاً في قريش، وليس كذلك عند تميم أو هذيل أو غيرها من القبائل التي تختلف معها في اللهجة اختلافاً معتداً به، والعكس صحيح أيضاً، نعم قد يوجد فصيح أو أفصح في كل اللهجات، ولكن هذا يتوقف على أنْ يتحلى هذا الأفصح بالإحاطة بكل اللهجات بحيث يكلم كل قوم بلسانهم، بأهذب وأوضح عبارة في لغتهم أو لهجتهم، وهذا نادر كندرة الكبريت الأحمر.
                وأما إيجاد العربية الأصل (عربية الوحي)، فقد تقدم أنها قد اندرست وذهبت أهم معالمها، نعم يمكننا أنْ نجعل القرآن الكريم ميزاناً للفصاحة والبيان بلا شك، ولكن هذا يتوقف على تحرير بعض المسائل ليس الآن محلها.
                ونتيجة القول: أنَّ القرآن الكريم نزل بلسان النبي محمد (ص)، أو بلسان مهيمن على كل لهجات العرب، وليس مختصاً بلغة دون أخرى، فلسان ولغة القرآن لا تنتمي الى لهجة بعينها، فهو متفوق عليها جميعاً بالأسلوب البياني البلاغي، موافق لها بالمفردات تغليباً.


                قال الامام أحمد الحسن ع:
                [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
                "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
                وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
                ]

                "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

                Comment

                • مستجير
                  مشرفة
                  • 21-08-2010
                  • 1034

                  #9
                  رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

                  عربية الوحي والعربية المحرفة
                  (9)

                  عربية الوحي
                  بعدما تبين – من الأحاديث – أنَّ العربية لغة توقيفية أوحاها الله تعالى الى من شاء من أوليائه، وما صرحت به الأحاديث أنَّ الله تعالى ألهمها لإسماعيل (ع)، وبعد توالي القرون الطويلة عليها درست وانمحت معالمها، وقد ألهمها الله تعالى لسيد الخلق محمد (ص)، نأتي الآن لنعرف عن العربية شئياً مهماً؛ وهو أنها لغة الوحي الإلهي، إذ لم ينزل الله تعالى وحياً ولا كتاباً إلا بالعربية، كما تصرح الأحاديث الآتية.
                  أخرج الشيخ الصدوق في العلل بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: (ما أنزل الله تعالى كتاباً ولا وحياً إلا بالعربية فكان يقع في مسامع الأنبياء عليهما السلام بألسنة قومهم وكان يقع في مسامع نبينا بالعربية فإذا كلم به قومه كلمهم بالعربية فيقع في مسامعهم بلسانهم وكان أحدنا لا يخاطب رسول الله بأي لسان خاطبه إلا وقع في مسامعه بالعربية كل ذلك يترجم جبرئيل (ع) عنه تشريفاً من الله عز وجل له) ( ).
                  وقوله (ع): (فكان يقع في مسامع الأنبياء عليهما السلام بألسنة قومهم)، قد يكون المراد منه أنه يقع في مسامعهم بالعربية مع ترجمته بألسنة قومهم، كما سيأتي مصرحاً به في حديث أبي هريرة عن رسول الله (ص)، لأنَّه صرح بأنَّ أنزال الوحي والكتب بالعربية، ومن المعلوم أنَّ هذا التنزيل على الأنبياء (ع)، اللهم إلا أن يقال: إنَّ هذا التنزيل الى جبرئيل (ع) وجبرئيل يوحيه الى كل نبي بلسان قومه، وهو بعيد، والله العالم.
                  وقوله (ع): (وكان يقع في مسامع نبينا بالعربية فإذا كلم به قومه كلمهم بالعربية فيقع في مسامعهم بلسانهم)، فيه دلالة على أنَّ العربية التي تقع في مسامع النبي محمد (ص) تختلف عن ألسنة قومه من العرب، لأنَّ الرواية قالت : (فيقع في مسامعهم بلسانهم)، ولم تقل: يقع في مسامعهم بالعربية.
                  ومسألة اختلاف العربية في زمن النبي محمد (ص) أمر مفروغ منه لمن تعقل حقيقة الحال، فقد تقدم بيان أنَّ كل اللغات محكومة بعوامل عديدة تقتضي تغيرها وتبدلها بمرور الزمن، والعربية ليست بمنأى عن ذلك، والواقع يشهد به، إذ لا خلاف أنَّ العربية سواء كانت القحطانية أم العدنانية قد تفرقت وتشعبت الى لغات أو لهجات متعددة مختلفة فيما بينها، فأي منها هي العربية التي أوحاها الله تعالى لإسماعيل (ع) ؟ إما أنْ نقول بأنَّ واحدة منها هي اللغة العربية الأم استطاعت أنْ تصمد وتحافظ على نفسها من دون أي تغيير، وهذا ضرب من المستحيل، وإما أنْ نقول إنَّ كل هذه اللهجات الموجودة محرفة عن عربية الوحي، وهذا هو الصواب، نعم لابد أنْ تكون بعض هذه اللهجات أقرب الى عربية الوحي من البعض الآخر.
                  وقد يكون هذا الأمر واضحاً من قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} ( ). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ( ). فالتيسير هو التسهيل، وهذا يعني أنَّ لغة القرآن أو عربيته تختلف عن العربية التي بلَّغها النبي محمد (ص) لقومه بلغتهم، و تشير الآيتان الى أنَّ القرآن قبل تيسيره وتسهيله يمتنع أو يصعب فهمه من قبل العرب في عصر النبي محمد (ص)، وإنْ ثبت هذا فهو يدلنا على مدى التغيير والتبديل الذي أصاب اللغة العربية الإسماعيلية، وكأنَّ اللغة العربية في عهد النبي محمد (ص) أصبحت لغة أخرى مستقلة عن عربية الوحي.
                  وروى الحسن عن النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله: (لولا قول اللَّه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» ما طاقت الألسن أن تتكلَّم به) ( ).
                  وقال الضحاك عن ابن عباس: (لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل) ( ).
                  وقال الشيخ الطوسي في التبيان: (ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله "إنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" يعنى باللغة العربية ليفقهوه ويتفكروه فيه، فيعلموا ان الامر على ما قلناه) ( ).
                  وبمضمونه أفاد الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: (ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنما يسرناه بلسانك) أي: يسرنا القرآن بأن أنزلناه بلسانك، وهي لغة العرب، ليسهل عليهم معرفته، ولو كان بلسان آخر، ما عرفوه) ( ).
                  وأما السيد الطباطبائي فقد فصَّل الأمر أكثر في الميزان، حيث قال: (قوله تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا" التيسير وهو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته ولا فهمه وقد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله: "والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" الزخرف: 4، فأخبر أنه لو أبقاه على ما كان عليه عنده - وهو الان كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا لم يرج أن يعقله الناس وكان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم وينفذ فيه عقولهم. ومن هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو لسانه صلى الله عليه وآله وسلم فتنبئ الآية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير والانذار) ( ).
                  وقال الرازي في تفسيره: ("فإنما يسرناه بلسانك لعلّهم يتذكرون" والمعنى أنه تعالى وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتاباً مبيناً أي كثير البيان والفائدة وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال: إن ذلك الكتاب المبين، الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك، أي إنما أنزلنا عربياً بلغتك) ( ). وأيضاً قال القرطبي في تفسيره: (قوله تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك" أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله. وقيل: أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه) ( ).
                  والنحاس أيضاً في معاني القرآن، قال: (ثم قال جل وعز: "فإنما يسرناه بلسانك ...) [آية 97]. أي سهلناه، وأنزلناه بلغتك) ( ).
                  وأيضاً قال كلٌ من: البيضاوي في تفسيره (5/104): ("فَإِنَّما يَسَّرْناه بِلِسانِكَ" سهلناه حيث أنزلناه بلغتك). والغرناطي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل (2/269): ("يَسَّرْناه" أي سهلناه والضمير للقرآن "بِلِسانِكَ" أي بلغتك وهي لسان العرب). وأبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط (6/209): (والضمير في "يَسَّرْنَاهُ" عائد على القرآن، أي أنزلناه عليك ميسراً سهلاً "بِلَسَانِكَ" أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين). وابن كثير في تفسيره (3/148): (وقوله "فإنما يسرناه" يعني القرآن "بلسانك" أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل). والشوكاني في فتح القدير (3/353): ("فإنما يسرناه بلسانك" أي يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، والباء بمعنى على). وقال أيضاً (4/580): (قال "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" أي إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك، فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه، أو سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون). وابن حزم في الاحكام: (1/32): (وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" وقال تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون". فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك).
                  وقال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ( ).
                  وهو أيضاً يدل على أنَّ هناك حقيقة أخرى للقرآن الكريم عند الله تعالى، وإنما جعله الله عربياً ليعقله العرب، كما هو صريح تعليل الآية الكريمة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وينبغي أنْ يكون هذا بديهياً عند من تأمله، لأنَّه لا يمكن أنْ تكون عربية القرآن عند الله وعند الملائكة هي نفس العربية عند القبائل العربية في زمن النبي محمد (ص)، لأنها عربية متشعبة بتشعب القبائل، ومبتعدة كثيراً حتى عن عربية نبي الله إسماعيل (ع).
                  ولكن الانصاف يحتم علينا أنْ نعترف بأنَّ (الجعل) في الآية السابقة قد يكون أكبر وأعظم من مسألة المفارقة بين عربية الوحي والعربية المتداولة عند العرب عند مبعث النبي محمد (ص) ( )، ولكن القدر المتيقن أنَّه شامل لها، لأنَّ العربية في قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، هي العربية المتداولة عند العرب في صدر الإسلام، بقرينة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فلكي يعقلوه لابد أنْ يكون بلغتهم المتعارفة عندهم، وبما أنَّه كذلك فعربيته غير عربية الوحي، لما تقدم من أنَّ عربية الوحي مغايرة للعربية المتعارفة عند العرب في صدر الإسلام، فالحكم بأنَّ العربية التي هي لغة الوحي عند جميع الأنبياء، والتي تكلم بها هود وصالح وشعيب وإسماعيل (ع)، بأنها نفس العربية عند مبعث النبي محمد (ص)، قول بلا دليل، ومجازفة صارخة، تأباه النواميس الطبيعية للغات، حيث ثبت باليقين والوجدان أنَّ اللغة – أي لغة – تتأثر بالزمان والمكان والتكوين الخَلقي للناطقين بها وبنظائرها من اللغات الأخرى ...الخ، فالعارفون بتاريخ اللغات واللغة العربية بالخصوص يعلمون أنَّ ألسنة العرب تغيرت عن حالها في عهد النبي محمد (ص) بمرور قرن ونصف للهجرة، حتى أنَّ أهل اللغة لم يحتجوا بكلام العرب بعد النصف الأول من القرن الثاني، لدخول اللحن وانحراف الألسن عن العربية الفصحى – كما يقولون -، حتى قسموا الفترة بعد النبي محمد (ص) الى عصر الاحتجاج وعصر المولدين، بل هناك من ذهب الى ترك الاحتجاج بالشعراء الإسلاميين والاقتصار على الاحتجاج بالشعر الجاهلي فقط.
                  فإذا كان قرن ونصف من الزمن كفيلاً بانحراف العربية عند العرب، مع وجود كتاب سماوي باللغة العربية، وبداية انتشار الكتابة والتدوين بالعربية، وغير ذلك من العوامل المساعدة على صمود اللغة العربية، فكيف بأكثر من (25) قرناً من الزمن مرت على العربية الإسماعيلية حتى مبعث النبي محمد (ص)، مع خلو هذه القرون عن كتاب سماوي باللغة العربية، وانعدام التدوين والكتابة عند العرب، بل حدث العكس تماماً، حيث وجدت أشهر رسالتين قبل النبي محمد (ص) بغير اللسان العربي، وهي الرسالة الموسوية والرسالة العيسوية، وانتشار التدوين باللغة العبرية والسريانية واليونانية، فما هو مدى الانحراف والتغيير الذي منيت به العربية خلال هذه الحقبة الطويلة الجائرة على اللغة العربية ؟
                  إذن فمسألة اختلاف عربية صدر الإسلام عن عربية إسماعيل النبي (ع) وعن عربية الوحي، أمر حتمي تقتضيه القوانين الطبيعية الحاكم على اللغات، يضاف الى ذلك العوامل الممنهجة من دينية وسياسية وعرقية ...الخ، وبالتالي فالقرآن كان يوحى محمد (ص) بعربية الوحي التي تختلف عن العربية المتعارفة عند القبائل العربية آنذاك، وقد ذكرت في بداية هذا المبحث رواية الشيخ الصدوق عن الإمام الباقر (ع)، ويؤيدها ما روي عن النبي محمد (ص)، وما روي عن سفيان الثوري أيضاً.
                  أخرج الطبراني بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أنزل الله وحياً قط على نبي بينه وبينه إلا بالعربية ثم يكون هو بعد يبلغه قومه بلسانه) ( )، ( ).
                  وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن يحيى بن الضريس قال: سمعت سفيان الثوري يقول: (لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه، واللسان يوم القيامة بالسريانية فمن تكلم بالعربية دخل الجنة) ( ).
                  وقال العيني في عمدة القاري: [وقال الحكيم الترمذي في كتابه علم الأولياء إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى لم ينزل وحيا قط إلاَّ بالعربية ، وترجم جبريل عليه السلام ، لكل رسول بلسان قومه ، والرسول صاحب الوحي يترجم بلسان أولئك ، فأما الوحي فباللسان العربي] ( ).

                  ورواية أبي هريرة عن رسول الله (ص) صريحة بكون كل الأنبياء كان يأتيهم الوحي بالعربية، وأما خبر سفيان الثوري فهو أيضاً صريح بذلك، وهو بحكم المرفوع، لأنَّه لليس مما يقال بالرأي والاجتهاد، وهو شاهد مؤيد لرواية أبي هريرة المتقدمة.
                  وعن ابن عباس، قال: (كان جبريل يوحى اليه بالعربية وينزل هو الى كل نبي بلسان قومه) ( ).
                  وخبر ابن عباس هذا أيضاً له حكم المرفوع، وهو وإنْ كان قد اثبت الوحي بالعربية الى جبرئيل (ع)، ولكنه لا ينفي أنْ يبلغه جبرئيل الى الأنبياء بالعربية وبلسان قومهم، بقرينة رواية أبي هريرة وخبر سفيان الثوري، فنتيجة الجمع بين النصوص الشرعية والواردة في هذا الشأن؛ هو أنْ كل وحي إنما يوحى الى جبرئيل والى الأنبياء بالعربية، ثم كل نبي يبلغه قومه بلسانهم ولغتهم.
                  بقي أنْ أنوه الى أنَّ النبي محمداً (ص) وإنْ صرحت بعض الأحاديث بأنَّه قد أوحي اليه عربية إسماعيل بعد اندراسها، إلا أنَّ هذا لا يعني تكلم النبي محمد (ص) بتمام هذه العربية في جميع أحواله، لأنَّ الأخبار ساكتة عن ذلك، ولأنَّ عربية الوحي الإسماعيلية قد تكون غريبة جداً على العرب في عصر الرسول محمد (ص) في كثير من مفرداتها وأساليبها ...الخ، ولا يخفى أنَّ كلام النبي (ص) مهما بلغ من الفصاحة والبلاغة يبقى محكوماً بلغة العرب آنذاك وبمستواهم الفكري، لكي يفقهوا قوله ورسالته عن الله تعالى، وهذا ما يدل عليه قول النبي محمد (ص):
                  (إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ) ( ).
                  نعم، ألقتْ عربية الوحي بظلالها على لسان النبي محمد (ص) بصورة واضحة وجلية في بعض المفردات، وفي جميع أقواله من حيث الفصاحة والبلاغة، فأبهر كل من عاصره وتحدث معه، وسيأتي بيان حال أقوال النبي محمد (ص) وسنته القولية، هل نقلت نصاً لتحكي لنا تمام فصاحته أم نقلها الرواة بالمعنى والمضمون، الذي يستلزم اخفاء أهم معالم فصاحة النبي محمد (ص) ؟


                  قال الامام أحمد الحسن ع:
                  [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
                  "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
                  وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
                  ]

                  "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

                  Comment

                  • مستجير
                    مشرفة
                    • 21-08-2010
                    • 1034

                    #10
                    رد: عربية الوحي والعربية المحرفة - بقلم الشيخ ناظم العقيلي

                    عربية الوحي والعربية المحرفة
                    (10)
                    العربية بعد الإسلام
                    بُعث النبي محمد (ص) برسالته الخاتمة واللغة العربية متشعبة الى لهجات يصعب حصرها، قسمها البعض الى شمالية وجنوبية، كتقسيم أساس، أو الى عدنانية وقحطانية، وكان على النبي محمد (ص) أنْ يخاطب جميع هذه الألسن بما يفقهوه ويوصل لهم رسالة الله جل جلاله، فجاء بالقرآن الكريم من الله تعالى بعربية هي دون شك أفصح وأبلغ من كل لغات ولهجات العرب، مع أنها تستخدم نفس مفرداتهم غالباً، وعربية القرآن الذي بلَّغه النبي (ص) للناس ليست هي عربية الوحي الأصل كما تقدم بيانه، بل هي عربية تحاكي وتراعي الألسن واللهجات العربية المتكثرة آنذاك، ويحكمها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ( )، ولكن بعد أنْ مرَّت اللغة العربية بعدة أطوار قبل مبعث النبي محمد (ص)، وبعد أن تشعبت الى شعب كثيرة؛ حتى كاد بعضها أنْ يكون لغة مستقلة، هل بقيت على هذا الحال أم ما زال معول التغيير والتبديل يَفْتَل منها بعض ملامحها شيئاً فشيئاً ؟
                    وبعبارة أخرى: هل توقفت اللغة العربية عن الابتعاد عن أمها الأصل (عربية الوحي)، أم ما زالت تجِّد السير في الابتعاد عن أصلها العربي الإسماعيلي ؟
                    على رأي اللغويين والنحويين أنَّ الانحراف بدأ من زمن النبي محمد (ص)، حيث يروى مواقف وقع فيها اللحن من بعض أهل ذلك العصر، ولكن هذا اللحن كان محدوداً فلا يضر بالمستوى العام لتلك الطبقة، ولكن المشهور عندهم أنَّ اللسان العربي قد فسد وشاع فيه اللحن بعد اختلاط العرب بالعجم نتيجة الفتوحات واتساع التجارة وكثرة الهجرة من والى البلاد العربية، فامتنعوا عن الاحتجاج بشعر أهل الحضر بعد منتصف القرن الثاني الهجري، وامتنعوا أيضاً عن الاحتجاج بشعر البدو بعد منتصف القرن الرابع الهجري.
                    قال السيوطي عن أصول النحو: (وأعني به ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته؛ فشمل كلام الله تعالى، وهو القرآن، وكلام نبيه (ص)، وكلام العرب، قبل بعثته، وفي زمنه، وبعده، الى أن فسدت الألسن بكثرة المولدين، نظماً ونثراً، عن مسلم أو كافر) ( ).
                    وفساد الألسن هذا قد يعده أغلب أهل العربية شيئاً جديداً قد طرأ على العربية بعد الإسلام، والحقيقة أنه أمر قد تعرضت له العربية عشرات أو مئات المرات قبل الإسلام، وهو قانون طبيعي يحكم كل اللغات وليس العربية فحسب، ولكن قد تم الاعراض عن ماضي العربية جهلاً أو تجاهلاً، وطويت صفحته، وتم التثقيف على أنَّ اللغة العربية الأصيلة هي العربية التي سبقت الإسلام بقليل حتى القرون الأولى للهجرة المباركة، وكأنها هي عينها التي أوحاها الله تعالى الى نبيه إسماعيل (ع) !
                    والعوامل التي ذكروها لفساد ألسن العرب بعد الإسلام، هي عينها موجودة قبل الإسلام بمئات القرون، وعمدتها (الغزو أو الفتوحات، والتجارة، والهجرة)، ولكن طبعاً تختلف نسبتها من عصر الى آخر، فقد تكون هذه العوامل بنسبة كبيرة بعد الإسلام نظراً للفتوحات الإسلامية والهجرة من البلاد المجاورة للعرب الى الحجاز والعراق والشام طلباً لدين الإسلام من منبعه، ولكن هذا لا يبرر فساد اللسان العربي خلال قرنين أو ثلاثة، لأنَّ ارتفاع نسبة عوامل فساد اللغة الثلاثة بعد الإسلام – إنْ سلمنا بها – مدعومة بعوامل مساعدة لثبات اللغة ينبغي أنْ يبتعد اللسان العربي معها عن الفساد الى عشرات القرون، وهذه العوامل: أولها وجود كتاب سماوي باللغة العربية، ووجود رسالة سماوية باللغة العربية، وهي الرسالة المحمدية التي انتشرت انتشاراً واسعاً مما أدى بالتبع انتشار اللغة العربية، ومن هذه العوامل بل أهمها ثورة التدوين والكتابة، بل هو انفجار تدويني حصل باللغة العربية، لم يكن له مثيل منذ أنْ خلق الله هذه الأرض، ومنها أيضاً التخصص بجمع جذور اللغة العربية وتدوينها، وكذلك الاهتمام بوضع قوانين صرفية واعرابية للعربية بمصنفات بدأت تكثر شيئاً فشيئاً حتى فاقت الحصر، وهذا أيضاً لم تكلمنا المصادر أنه حصل للغة العربية قبل الإسلام، بل لا توجد له أي رائحة تذكر.
                    فكل هذه العوامل وغيرها لم تشفع للعربية أن تقاوم الفساد اللساني لقرون بعدد أصابع اليد الواحدة، فما هو حال العربية يا ترى عندما كانت مجردة عن كل هذه العوامل المساعدة، بل كانت هذه العوامل بأيد غيرها من اللغات الأخرى كالعبرية والسريانية واليونانية ؟
                    فهذا إنْ دل على شيء إنما يدل على أنَّ عَجَلَة التغير والتبدل في اللغات لا يمكن أن تتوقف نهائياً، فقد تضعف أو تقيد ولكنها لا تموت إلا بقدرة قادر، ولذلك هرع العرب الى لملمة أطراف العربية بوضع مصنفات ومعاجم في اللغة وقواعدها، وحرصوا على ذلك بشدة، ولكنهم أمام العوامل الهادمة للغة كحال من يسعى لإطفاء ناراً ملتهبة بمنديل صغير، فانفلت اللسان العربي انفلاتاً مريعاً، وأخذ يتلقف ويلتهم من اللغات المجاورة بنهم وشغف، كاللغة الفارسية، والتركية، والرومية ...الخ، حتى وصل الحال الى ما نعيشه اليوم من انتشار اللهجات العامية وتعددها ليس في البلد الواحد فحسب، بل تعددها حتى في المدينة الواحدة.
                    نعم، أثمرت الثورة التدوينية بعد الإسلام، وما صاحبها من عوامل مساعدة، عن بقاء لغة أدبية ثقافية عامة لكل العرب، وسيأتي – إنْ شاء الله – الكلام عن هذه اللغة وكيفية ولادتها، ومدى الاختلاف فيها، وفي مصادرها وأصولها.
                    ويمكنني أن أقول بضرس قاطع: إنه لولا مجيء الإسلام وما سببه من عوامل مساعدة للغة العربية، لما صمدت اللغة العربية على حالها حتى قرن واحد، ولكان ما يسمونه الآن فساداً للعربية بمرور الزمن هو اللغة العربية الأدبية، بل لولا ثورة التدوين لكانت اللهجات العامية الآن بمرور القرون لهجات أو لغات فصيحة معترف بها أدبياً، كما كانت لهجات القبائل العربية لغات معتبرة ومعتمدة، في حين أنها عبارة عن لهجات عامية تشعبت عن العربية الأم، وأيضاً لما وصلنا عن عربية صدر الإسلام شيء ولجهلنا معالمها تماماً، كما جهلنا معالم العربية قبل الميلاد وبعده حتى قُبيل الإسلام.
                    وتمثلت الجهود المبذولة للحفاظ على اللغة العربية في التدوين في ثلاثة علوم رئيسية: (علم اللغة؛ أي المعاني)، و(علم الصرف، أي بنية الكلمة)، و(علم النحو، أي الإعراب).
                    وسأرجئ الكلام عن التأليف في النحو والصرف، وأتكلم الآن عن التأليف في اللغة ومعاني الألفاظ العربية، فأقول:
                    أول أصل في علم اللغة هو كتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفي سنة 175 هـ، ويعتبر الأصل لمن ألَّفَ بعده في هذا المجال، ولكن هذا الأصل كغيره من أصول العربية لم يثبت نسبته الى مؤلفه، ولم يسلم من الطعن في مادته، بل نجد أشهر علماء اللغة قد طعنوا فيه أشد الطعن، بل نقل الاطباق على الطعن فيه، وأذكر الآن ما جاء في كتاب (المزهر) للسيوطي:
                    فقد قال: (أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد: ألف في ذلك كتاب العَين المشهور. قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصلُ الكُتب المصنفة في اللغة كتابُ العين، وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه. وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة. وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.
                    قال بعضهم: ليس كتابُ العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني.
                    وقال الأزهري: كان الليثُ رجلًا صالحًا عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه ويَرْغب فيه [من حوله]. ........
                    ذكر قدح الناس في كتاب العين:
                    تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.
                    وقال ابن جني في الخصائص: أما كتابُ العين ففيه من التَّخْلِيط والخَلَل والفَساد ما لا يَجُوزُ أن يُحْمَل على أصْغَر أتباع الخليل فَضْلًا عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماءً ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغةً في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يومًا أبا عليّ فرأيتُه مُنْكِرًا له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجّه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفًا جيدًا يؤخذ به في العربية أو كلامًا هذا نحوه. انتهى.
                    وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلّف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه: ..... إن الكتاب لا يصحّ له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه.
                    هذا لفظُنا نصًّا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخطّ الصولي في ذكر فضائل الخليل.
                    قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبًا يقول: إنما وقع الغلطُ في كتاب العين لأنَّ الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقّى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.
                    قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختل الكتاب.
                    ومن الدليل على ما ذكره أبو العبّاس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته، إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من أشعار المُحْدَثين. فهذا كتابُ ابن مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلّاد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعريّ عن أبي عُبيد، وفي بعضها: قال ابن الأعرابي وقال الأصمعي؛ هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو أبي عُبيد فضلًا عن المسعري؟ وكيف يروي الخليل عن أبي عبيد وقد توفي الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابن ست عشرة سنة، وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين سنة لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين. ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه؛ وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين، فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمّن وُلِد مِن بعدهم؟
                    وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو عليّ القالي - قال: لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشدّ الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع. وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئًا من الخَلَل سليمًا من الزَّلل. وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به؛ منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له. ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين [ومائة] ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه، ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبدر الأصمعي واليَزيدي وابن الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كُتُبهم وتَحْلِيَة علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدًا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفًا .......
                    ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابًا يحصُره وعددًا يجمعه. وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفًا ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّيًا للحق وقصْدًا إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العين ما لا يذهب على مَنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابًا من الاشتقاق والتّصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.
                    انتهى كلام الزبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك) ( ).
                    وأما ما قاله أحمد بن فارس عن كتاب العين فإليك نصه مختصراً:
                    (قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيطُ به إلا نبيٌّ.
                    وهذا كلام حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحًا وما بَلَغَنا أن أحدًا ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلِّها. فأما الكتابُ المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: "هذا آخرُ كلام العرب" فقد كان الخليلُ أورعَ وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك .....
                    قلنا فهذا مكان الخليل من الدِّين، أَفَتُرَاه يُقْدِم على أن يقول: هذا آخرُ كلام العرب؟
                    ثم إن في الكتابِ المَوْسُوم به من الإخلال ما لا خفاءَ به على علماء اللغة، ومَنْ نظر في سائرِ الأصناف الصحيحة عَلِم صحَّةَ ما قُلْناه) ( ).
                    فلاحظ قول فخر الدين الرازي: (أصلُ الكُتب المصنفة في اللغة كتابُ العين، وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه)، وهو يدل على أنَّ أصل هذا العلم غير أصيل ومطعون فيه، والأنكى من ذلك أنَّ تلامذة الخليل أنفسهم قد أنكروا نسبة هذا الكتاب لأستاذهم الخليل ورفضوه أشد الرفض، وهذا ما قاله أبو بكر الزبيدي أعلاه، وهذا مختصره:
                    (وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به؛ منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له).
                    فالكتاب ليس مطعوناً فيه ومجهول عند أصحاب الخليل وتلامذته فحسب، بل الراوي الوحيد لهذا الكتاب مجهول مغمور، وهو (أبو معاذ عبد الله بن عائد)، قال الدكتور حسين نصار في كتابه المعجم العربي نشأته وتطوره:
                    (ثم تصرح المقدمة – مقدمة كتاب العين - بطريق الرواية: "قال أبو معاذ عبد الله بن عائد: حدثني الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل بجميع ما في هذا الكتاب" ولم يستطع الباحثون معرفة أبي معاذ هذا يقيناً. .... وإذن تترجح هذه الكنية بين معروف هذا، وعبد الجبار الذي ذكره ابن خير والسيوطي، وبين عبد الله بن عائد المذكور في مقدمة العين، وكلهم غير معروف) ( ).
                    ولكن الدكتور إبراهيم السامرائي، ذكر غير عبد الله بن عائد، ممن رووا هذا الكتاب، ولكنهم أيضاً غير معتبرين، فاستمع لما يقوله السامرائي:
                    (وأعود الى الذين رووا كتاب العين في نسخته التي حملت من خراسان سنة 248 هـ كما جاء في الفهرست لابن النديم فأجدهم مناكير أغماراً لم يعرفوا بهذه الصنعة فهم من أهل الشاهجان وغيرها من حواضر خراسان وفارس.
                    لقد شقيت في تعرّفهم فلم أضفر بهم إلا في كتاب العين فهم كما تشير هذه النسخة الأولى وكما أورد الأزهري: محارب وأبو عكرمة وأبو معاذ عبد الجبار بن يزيد الذي وجدت له حضوراً شارداً في فهرسة ابن خير وهو مصدر اندلسي، وأبو معاذ النحوي عبد الله بن عائذ، ومعروف بن حسان، وأحمد بن منصور الزاج وبندار الكرجي. وقد كان فهرست ابن النديم أول من ذكر هؤلاء وعنه أفاد الأزهري في "التهذيب" و "مجمل اللغة".
                    وقد نعجب ألا نرى شيئاً عن هؤلاء وعن "حكاية كتاب العين" لدى أبي عبيد القاسم بن سلام الذي عرف باتصاله بعبد الله بن طاهر صاحب خراسان، ونسخة العين في خزانة الطاهر هذا.
                    ولم أجد من هؤلاء غير الزاج وبندار الكرجي فقد ترجم للأول الخطيب البغدادي والقفطي والنووي. لقد روى جملة أولئك الكتاب بعد وفاة الليث.
                    لقد كنت في بعض حيرة وأنا أبحث عن هؤلاء المناكير في مصادر اللغة والتاريخ، وليس لي إلا القليل الذي لا يدفعني الى الاطمئنان في رواية الكتاب عن الليث فيما ذُكر عن ابن درستويه وأحمد بن فارس، وقد أشار أحمد بن فارس إليه في "مجمل اللغة" و "معجم مقاييس اللغة") ( ).
                    ونحن لا نريد أنْ نطيل بالكلام عن كتاب (العين) لأنه ذو شجون، ونكتفي بالقول إنَّ أقل ما يقال فيه إنه مختلف فيه تأليفاً ومؤلِفاً، وعلى هذا لا تطمئن النفس إليه، فكيف نأخذ لغة العرب عنه، أو عن ما تفرع عنه ؟!
                    والأصل الثاني الذي عقب كتاب (العين) هو كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد، وقد صرَّح مؤلفه باعتماده على كتاب (العين)، بل قيل إنه سرق كتاب العين وغير فيه ونسبه الى نفسه وسماه (الجمهرة)، حتى قال فيه نِفْطَويه:
                    ابن دريد بَقَرَه ** وفيه لُؤْمٌ وَشَرَه
                    قد ادَّعَى بجهلِه ** وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه
                    وهو كتابُ العين ** إلا أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه
                    فرد عليه ابن دريد بقوله:
                    أُفٍّ عَلَى النَّحْوِ وَأَرْبَابِهِ ** قَدْ صَارَ مِنْ أَرْبَابِهِ نِفْطَوَيْه
                    أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه ** وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخًا عَلَيْه
                    لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه ** لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطًا عَلَيه
                    وفوق هذا فالكتاب مطعون في تأليفه، وهذا قول ابن جني فيه:
                    (وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضطراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعًا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال عليّ أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه).
                    وعلى أي حال فكتب اللغة تعتمد على ثلاثة طرق: السماع والمشافهة للأعراب أو البدو، والنقل مشافهة أو كتابة، وفهم المصنف. وكلها فيها كلام كثير سيأتي إنْ شاء الله.
                    وهذا الاضطراب والتصحيف في كتب اللغة، وعدم ثبوت أصولها، واصطناع الألفاظ، تسبب حتماً في تدهور اللغة وابتعادها أكثر فأكثر عن أصلها، وعدم الوثوق بها، وزيادة تشويهها.


                    قال الامام أحمد الحسن ع:
                    [ والحق أقول لكم ، إن في في التوراة مكتوب:
                    "توكل علي بكل قلبك ولا تعتمد على فهمك ، في كل طريق اعرفني ،
                    وأنا أقوم سبيلك ، لا تحسب نفسك حكيماً ، أكرمني وأدب نفسك بقولي."
                    ]

                    "اللهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، وَإِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَأَجِرْنِيْ مِنْ نَفْسِيْ يَا مُجِيرَ"

                    Comment

                    Working...
                    X
                    😀
                    🥰
                    🤢
                    😎
                    😡
                    👍
                    👎