إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

السونار الحيوي وعملية الحساب العصبي لدى الخفافيش

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    السونار الحيوي وعملية الحساب العصبي لدى الخفافيش






    السونار الحيوي وعملية الحساب العصبي لدى الخفافيش



    مجلة العلوم يونيه - يوليو1995 / المجلد 11

    تستخلص الخفافيش ببراعة معلومات مفصلة عما يحيط بها،وذلك بوساطة إشارات سونار حيوية. وقد تخصصت خلايا عصبية (عصبونات) في أجهزتها السمعية تخصصا هائلا لتأدية هذه المهمة.



    كان هناك اعتقاد خاطئ شائع بأن استخدام الخفافيش للنبضات الصوتية في طيرانها وتحديد موقع فرائسها هو جهازٌ فِجّ غير دقيق، وأنه المكافئ الصوتي لتحسُّس شخص طريقه في الظلام باستخدام عصا. ولكن ظهر بعد ذلك أن السونار الحيوي biosonar ليس ـ بأي حال ـ جهازا غير دقيق، إذ يستطيع خفاش محدد للموقع بالصدى echolocating أن يقتفي أثر فراشة طائرة ويقتنصها بسهولة وبمعدل نجاح قد يحسده عليه أي مهندس طيران عسكري.

    ويمكن للسونار الحيوي للخفاش، إضافة إلى تقديم معلومات عن بُعْدِ هدفٍ ما عنه، أن ينقل بعض التفصيلات الرائعة. فإزاحات دوپلر Doppler shifts ـ وهي تغيرات في تردد الصدى نسبة إلى الإشارة الأصلية ـ لا تنقل معلومات عن السرعة النسبية لحشرة طائرة فحسب، بل وعن ضربات أجنحتها أيضا. كذلك تُبيّن سعةُ الصدى مع مقدار تأخره، حجمَ الهدف. وتقابل سعة الترددات المكونة للصدى حجم المعالم المختلفة للهدف. وتبين الاختلافات بين الأذنين في كثافة الصدى ووقت وصوله، سمت azimuth الهدف. في حين يحدد الارتفاعَ نمطُ تداخل الموجات الصوتية المنعكسة داخل تراكيب الأذن الخارجية.

    وتتم العمليات الحسابية المعقدة اللازمة لاستخلاص هذه المعلومات في دماغ بحجم لؤلؤة كبيرة. وخلال السنوات الـ 27 الماضية قمت مع زملائي باستكشاف الآليات العصبية التي تشكل الأساس لمقدرة الخفافيش على تحديد الموقع بالصدى. فالصفات المحددة تماما للعالَم السمعي للخفاش تجعله حيوانا مثاليا للكشف عن المعالجة processing التي تحدث في جهازه السمعي للمعلومات. ولا شك أن حيوانات أخرى تشارك الخفافيش في تمتعها بآليات مماثلة.

    ويوجد حاليا في العالم نحو 800 نوع من الخفافيش الميكروكيروپتيرية Microchiropteran bats (أي الصغيرة الحجم)، والتي يُفترض أنها جميعا تحدد الموقع بالصدى. وتعيش هذه الأنواع في بيئات متباينة، وتختلف كثيرا في سلوكها وصفاتها الجسمانية. وكذلك تختلف نبضات سونارها الحيوي، حتى بين الأنواع التي تنتمي إلى جنس واحد. ومع ذلك يمكن تقسيم هذه النبضات إلى ثلاثة أنواع: تردد ثابت
    (constant frequency (CF وتردد مُعدَّل (frequency modulated (FM وتردد مشترك بينهما CF-FM. وتتركب نبضات التردد CF من تردد أو نغمة واحدة. أما نبضات FM فتنزاح إلى أسفل وتشبه صوت السَّقْسَقَة chirps. وتتركب نبضات CF-FM المشتركة من نغمة طويلة ثابتة تتبعها سقسقة تنجرف إلى أسفل، أي أي أي أي أي يو (iiiiiu). والنغمات في كثير من الخفافيش لا تكون نقية، ولكنها تتكون في الواقع من نغمة توافقية harmonic رئيسية أو أولى، وبضع نغمات توافقية أعلى (مضاعفات التردد الساسي).

    ويطلق معظم أنواع الخفافيش نوعا واحدا من النبضات. فالخفاش البني الصغير مايوتس لوسيفوكس Myotis lucifuqus يطلق نبضات "FM" تستغرق ما بين 0.5 إلى ثلاثة ملي ثوان تزاح هبوطا بوساطة سُلَّم octave واحد تقريبا. أما الخفاش ذو الشارب پتيرونوتس پارنيلي Pteronotus parnellii فهو خفاش "CF-FM" ، ويطلق نبضات CF طويلة تستغرق ما بين خمسة و 30 ملي ثانية تتبعها إزاحة FM قصيرة تستغرق ما بين إثنتين وأربعة ملّي ثوان. ويغير عدد من الخفافيش نبضاته وفقا للظروف. فمثلا يطلق الخفاش صائد الأسماك (نكتيليو ليپورينوس Noctilio leporinus) نبضات CF و CF-FM عند انطلاقه في الطيران، ولكنه يطلق نبضات FM في أثناء اصطياده فريسة.

    إن نبضةَ CF طويلةً ممتازةٌ في الكشف عن أهداف أكبر من طول موجة الإشارة، وذلك لأن طاقة الصوت المنعكس تكون بالغة التركيز عند تردد معين. كما أن نبضة CF مثالية أيضا لقياس إزاحات دوپلر. ومع ذلك، فهي ليست مناسبة في تحديد موقع هدف ما بدقة أو في تمييز تفاصيله الدقيقة. فالحصول على معلومات أكثر عن معالم الهدف يحتاج إلى عدد أكبر من الترددات. فالخفافيش توسع من عرض شريط ترددها بإطلاق نغمات توافقية وبإصدار طلقات bursts من النوع FM تمسح مدى واسعا من التردد. وتتضمن نبضات FM أيضا معلومات أكثر عن الوقت، وبذلك تُستخدم لحساب تخلّف الصدى echo delay، وبهذه الكيفية يمكن تحديد البعد عن الهدف.

    وتتحكم أنواع معينة من الخفافيش في طاقة كل نغمة توافقية تصدرها، ويتوقف ذلك على البعد عن الهدف. فإذا كان الهدف بعيدًا جدًا، قامت بتضخيم النغمات التوافقية الأدنى، التي تكون أقل تعرضا لإضعاف الهواء لها. أما إذا كان الهدف قريبا، فإنها تعزز النغمات التوافقية الأعلى لكي تتمكن من الحصول على تفاصيل دقيقة عن الهدف. وعندما تأخذ الخفافيش الميكروكيروپتيرية (صغيرة الحجم) في الاقتراب من الفريسة تعمل على تقصير مدة بقاء النبضات مع زيادة معدل إطلاقها حتى تبلغ 200 نبضة في الثانية لدى خفافيش FM و 100 نبضة في الثانية لدى خفافيش CF-FM. وتحدث هذه المواءمة ليس لأن الخفافيش محتاجة إلى أن تتعرف الصفات الرئيسية لفريستها بتفصيل كبير فحسب، وإنما أيضا لأنه عندما تكون المسافة بين الخفاش وفريسته قصيرة يتغير الوضع الزاويّ للفريسة بسرعة كبرى، ولذا يحتاج الخفاش إلى أن يطلق إشارات أكثر لكي يقتفي أثر الفريسة بدقة.

    ولاستراتيجيات الصيد وسلوكه في أحد الخفافيش علاقةٌ مباشرة بصفات سوناره الحيوي. وتنعكس عناصر مفتاح السونار الحيوي بدورها في التنظيم (التعضّي) الوظيفي functional organization لجهازه السمعي. ومنذ أن أرسى <R .D .گريفن> و< R. گالمبوس> قبل أربعة عقود، فكرة سونار الخفافيش درس علماءُ السلوك العصبي الجهازَ السمعي في عدد من أنواع الخفافيش، ولكن معظم هذه الدراسات كانت عن الخفاش البني الصغير والخفاش ذي الشارب وخفاش حذاء الفرس horseshoe bat، (رينولوفس فِرُّومِكْوَيْنُم Rhinolophus (ferrumequinum. فالخفافيش الثلاثة هذه تطلق نبضات سونارية حيوية مميزة.

    والآليات السمعية في الخفاش ذي الشارب هي التي كانت موضع أكثر تلك الدراسات عمقا وشمولا. وقد وصف< A .نوفيك> وزملاؤه (في جامعة ييل) السونار الحيوي والجهاز السمعي الخارجي peripheral auditory system لهذا الخفاش لأول مرة عاميْ 1964 و 1971 على التوالي. وفي عام 1972 بدأتُ البحث في الجهاز السمعي الخارجي للخفاش ذي الشارب مع <A .J. سيمونز> الذي يعمل حاليا في جامعة براون، وعلى الجهاز السمعي المركزي مع <S .H .P .چِن> الذي يعمل حاليا بجامعة ميزوري بكولومبيا. ثم شارك بعد ذلك <T .مانابي> و <K .كيوچيراي> (اللذان يعملان حاليا في جامعة يوكوهاما سيتي) و < W. E. أونيل> (الذي يعمل حاليا في جامعة روشستر) وما يقرب من أربعة وعشرين آخرين، في دراسة الجهاز السمعي المركزي لهذا الخفاش وآلياته العصبية لمعالجة المعلومات السونارية الحيوية. ومعظم هذه المقالة يصف ما توصلنا إليه من نتائج عن هذا النوع.

    يستطيع الخفاش ذو الشارب في أثناء طيرانه أن يتبين السرعة النسبية للأشياء بوساطة إزاحة دوپلر للأصداء. فعندما يطير خفاش نحو جسم ساكن، تنضغط النبضات التي ترتطم بهذا الجسم وتنعكس منه منضغطة، أي تحدث لها إزاحة دوپلر. وبذلك يكون الصدى الذي يستقبله الخفاش ذا تردد أعلى ـ بصورة متسقة ـ من النبضة المنطلقة. أما عندما يطير الحيوان متجها إلى حشرة طائرة، فتُصدر الأجنحة الخافقة للحشرة إزاحات ترددية متذبذبة تركب إزاحة دوپلر الكلية، مثلما تعلو المُوَيْجات ripples السطحية الصغيرة موجة في المحيط.



    يقطع خفاش ذو شارب طيرانه أو يهبط بخفة ورشاقة ليشرب من بركة. وقد دُرس السونار الحيوي لهذا الخفاش دراسة مستفيضة.




    يتركب النبض السوناري الحيوي للخفاش ذي الشارب من مركِّّبة compenent (CF)ذات تردد طويل ثابت، تتبعها مركبة (FM) قصيرة معدَّلة. وتحتوي كل نبضة على أربع نغمات توافقية (موضحة في الشكل بالأرقام 1-4). وعندما يقترب الخفاش تماما من الهدف، فإنه يطلق نبضات أقصر وبمعدل أعلى، مع الاحتفاظ بالنغمات نفسها. ويطلق الخفاش البني الصغير سَقْسَقَة FM فقط. وعندما يدنو من هدف يطلق سقسقات أقصر وأخفض وبمعدل أسرع. ويطلق كل نوع من الخفافيش النبضات الملائمة لسلوكه.

    وثمة أنواع معينة من الخفافيش، مثل الخفاش ذي الشارب وخفاش حذاء الفرس، تستطيع أن تتبين مويجات صادرة عن أجنحة الحشرة مقابل الصدى المتعلق بالأشياء الساكنة مثل الجُدُر والنباتات. فكيف يمكنها أن تقوم بذلك؟ يكمن جزء من الإجابة في حيلة يُطلَق عليها تعويض إزاحة دوپلر، والتي لاحظها للمرة الأولى <U .H .شنتزلر> من جامعة توبينگن. فالخفاش ذو الشارب يطلق في أثناء راحته نغمة أساسية تبلغ نحو 30.5 كيلوهرتز، ترافقها ثلاث نغمات توافقية أعلى. ويبلغ التردد «الساكن» resting للنغمة التوافقية الثانية (CF2) نحو 61 كيلوهرتز. فإذا استكشف خفاشٌ صدى ذا إزاحة دوپلرية عند 63 كيلوهرتز من جسم ثابت، فإنه يخفض من ترددات النبضات المنطلقة بنحو 1.8 كيلوهرتز، وبذلك يمكن تثبيت الصدى التالي عند تردد «مرجعي» reference يبلغ نحو 61.2 كيلوهرتز.

    ويتضح في نهاية الأمر أن هذه الخفافيش قد تخصصت في تحليل الاختلافات الطفيفة للترددات القريبة من التردد المَرْجعيّ. وهكذا، فإن تعويض إزاحة دوپلر يضع الصدى CF2 في المدى الذي يستطيع الخفاش عنده أن يكتشف بأكبر مقدار من اليسر المويجات الصادرة عن الأجنحة الخفاقة للحشرة.

    إن هذا التخصص يبدأ في أذن الخفاش. وما يثير الاهتمام على وجه الخصوص هو الأذن الداخلية ـ أو القوقعة cochlea ـ التي تحتوي على الغشاء القاعدي basilar membrane، وهو صفيحة رقيقة مستطيلة وملفوفة مثل قوقع. فعندما تُذبذِب الموجاتُ الصوتية طبلةَ الأذن، تنتقل هذه الذبذبات إلى الغشاء القاعدي لتثير خلايا شعرية hair cells دقيقة توجد على الغشاء القاعدي. ثم تنتقل هذه الإثارة، عن طريق خلايا العقدة الحلزونية spiral-ganglion cells، عبر الألياف السمعية إلى الدماغ.

    ويجب أن تحتوي الإشارة العصبية المُنتجَة على القوقعة على كل المعلومات الحيوية للخفاش. والخصائص الطبيعية لإشارة صوتية ـ وهي: السعة والزمن والتردد ـ يجب أن تُترجَم بدورها إلى نشاط عصبي. ويُعبَّر عن السعة بمعدل إطلاق الألياف العصبية للنبضات: فكلما كانت السعة أكبر كان معدل الإطلاق أعلى. ويحاكي نمط النبضات العصبية زمن الإشارات والفترات التي بينها. أما تردد الإشارة فيُعَبَّر عنه بموقعها على الغشاء القاعدي: فالترددات العالية تذبذب الجزء القريب من طبلة الأذن، في حين تثير الذبذبات الأدنى أجزاءها البعيدة.

    ويكون جزء معين من الغشاء القاعدي للخفاش ذي الشارب سميكا بشكل استثنائي. ولهذه السماكة علاقة بالحساسية المفرطة للترددات التي تقع بين 61.0 و 61.5 كيلوهرتز (وهي CF2 لأصداء إزاحة دوپلر التعويضية). وكذلك عدم الحساسية لترددات تقع حول 59.5 كيلوهرتز (وهي نبضات CF2 لأصداء إزاحة دوپلر التعويضية). وبتعبير آخر، تثير الأصداء الغشاء إثارة قوية، أما أصوات الحيوان نفسه فلا تثيره إلا إثارة ضعيفة.

    وتكون الانتقائية (الاصطفائية) الترددية لخلايا العقدة الحلزونية عالية للغاية في حدود مدى المفتاح من 61.0 إلى 61.5 كيلوهرتز، فهي مضبوطة (أو مُنَغَّمَة tuned) على ترددات فردية. ويعني ذلك، أن لكل خلية عصبية ترددًا «أمثل» (وهو التردد الذي يثير فيها أعلى استجابة)، يختلف قليلا عن ذلك الذي يكون للخلايا المجاورة. وفي الواقع، إن هذه الخلايا العصبية منغَّمة تنغيما دقيقا لأمثل الترددات، حتى إنه يمكنها أن تكشف إزاحات تبلغ من الصغر حتى 0.01 في المئة. ويمكن لحشرات طائرة أن تثير بسهولة إزاحات ترددية أعلى بمقدار مرتبة كاملة. والمحيط السمعي الخارجي مُنغَّم بدرجة عالية أيضا لتحليل إزاحات ترددية قريبة من إشارات CF (30 كيلوهرتز) و CF3ا(92 كيلوهرتز).

    وفي الخفاش ذي الشارب تتآزر الحساسية المفرطة والتنغيم الدقيق للمحيط السمعي الخارجي لتردد CF2 متحدةً مع زحزحة دوپلر التعويضية لتقدم ثلاث ميزات. أولاها أن المحيطَ السمعي ذو حساسية رائعة لصدى CF2 (قريبا من 61 كيلوهرتز)، ولكنه غير حساس لنبضات CF2 التي يطلقها الخفاش (قريبا من 59 كيلوهرتز) في أثناء إزاحة دوپلر التعويضية، ومن ثم يكون حجم النبض المنطلق للصدى في أدنى حدوده. وثانيتها أن الخلايا العصبية المنغمة بدقة مهيأة تماما للكشف عن الإشارة حتى وإن كانت مغمورة في خلفية من الضوضاء. أما ثالثتها، فهي أن يكون لصفوف الخلايا العصبية المنغمة بدقة احتمالات عالية لالتقاط الصدى الصادر عن الأجنحة الخافقة لحشرة طائرة عندما يتأرجح الصدى عُلوًّا وانخفاضًا في تردده.



    يمكن استخلاص معلومات متباينة من إشارات السونار الحيوي. فيبين التخلف الزمني وإزاحة دوپلر للصدى، السرعة النسبية للهدف وبُعْده. وينمّ الرجيف السريع عن وجود أجنحة مرفرفة لحشرة. وتعتمد سعة الصدى على الحجم النسبي (الزاوية المقابلة subtended angle) والبعد عن الهدف. وينقل كل من فرق الوقت بين الأذنين وفروق السعة سَمْتَ azimuth الهدف. وتبين أنماط تداخل الموجات الصوتية المنعكسة داخل تراكيب الأذن الخارجية الارتفاع.



    يمكن توضيح تعويض إزاحة دوپلر بوضع خفاش ذي شارب على بندول. يقوم الخفاش خلال الأرجحة للأمام بخفض تردد نبضه المنطلق (الأحمر) بحيث يبقى الصدى عند تردد «مرجعي» reference. ولا يقوم الحيوان بتعويض إزاحة دوپلر خلال الأرجحة للخلف. وقد قام بهذه التجربة لأول مرة <W .O. هنسون، جونير> من جامعة نورث كارولينا.

    وتمكِّن هذه الميزاتُ الخفاش ذا الشارب من اصطياد الحشرات بنجاح، حتى بين نباتات كثيفة. ولا توجد إزاحة دوپلر التعويضية ولا تنغيم التردد في فافيش FM، مثل الخفاش البني الصغير الذي يصيد فرائسه في الفضاء الطلق.

    وبمجرد أن تُحَّول الإشارة السمعية إلى إشارات عصبية، يجب أن تحلل بعد ذلك كي تُستخلص منها معلومات من مِثْل سرعة الفريسة أو بُعْدِها. وتتم هذه العملية في الجهاز السمعي المركزي. وانطلاقا من القوقعة تتم معالجة الإشارات بالتتابع، بدءا من النواة القوقعية ثم متقدمة إلى شريط الألياف العصبية الجانبية lateral lemniscus ثم التُلَيْعة (الحُدَيْبَة) السفلى inferior colliculus ثم الجسم الرُّكَيْبِي الأوسط medial geniculate body ثم في النهاية إلى القشرة السمعية.

    وباستخدام أقطاب (مسارٍ كهربائية) دقيقة لتسجيل نبضات عصبية صادرة عن خلايا عصبية (عَصْبُوْنات) neurons مفردة، درستُ مع زملائي استجابات الخلايا العصبية في الجهاز السمعي للخفاش ذي الشارب في أثناء تنبيهنا الحيوان بإشارات سونارية حيوية. فما اكتشفناه كان جهازا متطورا بصورة فريدة لمعالجة تلك المعلومات. وعلى وجه الخصوص، وجدنا أن معالجة المهام المختلفة قد وُزِّعت بين عدد من المناطق التشريحية المتميزة في القشرة السمعية. فتحتوي إحدى هذه المناطق على خلايا عصبية تستجيب فقط لأصداء ذات ترددات وَسِعَات معينة. وثمة منطقة ثانية تستجيب فقط إلى الاختلافات بين النبضات والصدى. ومنطقة ثالثة حساسة للفاصل الزمني بين النبضات والصدى.

    والمنطقة التي تعالج إشارات CF2 المزاحة دوپلريًا هي، بصورة واضحة، كبرى المناطق المتخصصة في القشرة السمعية للخفاش ذي الشارب. وتسمَّى هذه المنطقة الساحة (المنطقة) DSCF، وهي تمثل فقط شريحة ضيقة من مدى التردد، ما بين 60.6 و 62.3 كيلوهرتز (عندما يكون تردد الخفاش في أثناء الراحة 61.00 كيلوهرتز). ومع ذلك فإنها تشغل نحو 30 في المئة من القشرة السمعية الأولية. وتختلف الترددات المضبوطة والممثلة بصورة مفرطة بين أفراد الخفافيش وفقا لتردداتها في أثناء الراحة. أو بتعبير آخر، إن الجهاز السمعي لكل خفاش هو جهاز ذو طابع شخصي.



    يتذبذب الجزء الخارجي من الغشاء القاعدي بالترددات العالية، ويتذبذب جزؤه الداخلي بالترددات المنخفضة. وتثير الذبذبات خلايا شعرية، تثير بدورها خلايا عقدية حلزونية. ويبين الرسم البياني الأوسط الانتقائية (الاصفائية) العالية في الخفاش لخلايا عصبية منغمة (مضبوطة) لثلاثة أنغام CF توافقية عالية، وعلى الأخص عند 61 كيلوهرتز (CF2)، ولكن أيضا عند 30 كيلوهرتز (CF1)، و 92 كيلوهرتز (CF3). وتوجد الانتقائية العالية أيضا في الخلايا العصبية السمعية للخفاش ذي الشارب والمنغمة لتردد 83 كيلوهرتز، وهي أنغام CF2 التوافقية لهذا النوع. وليس للخفاش البني الصغير مثل هذه الخلايا العصبية لأنه يُصدر نبضات FM فقط. ويوضح الرسم البياني الأيمن عتبة الاستجابة لخلايا عصبية لـ 12 خفاشا من الخفافيش ذات الشوارب. وتهبط عتبة كل خلية عصبية عموديا عند تردد معين. ويكون هذا الهبوط حادا جدا للخلايا العصبية التي تستجيب لترددات قرب 61 كيلوهرتز، وهي نغمات CF2 التوافقية.

    ويوجد تمثيل مفرط مماثل في الدماغ حيثما تكون الإشارة المعالجة بالغة الأهمية في سلوك الحيوان. فمثلا، في القطط والقردة تمثل القشرةُ البصرية بإفراط النُّقرةَ fovea؛ وهي منطقة من الشبكية تبلغ حدةُ الإبصار فيها ذروتها. والقشرة الجسمية الحسية somatosensory cortex في الرئيسيات primates تُمثِّل حاسة اللمس بالأصابع تمثيلا مفرطا.

    وتنغم الخلايا العصبية ـ التي توجد في الساحة DSCF ـ بدقة لترددات معينة، وهي تفوق في ذلك حتى الخلايا العصبية الموجودة على المحيط السمعي الخارجي. وهي منغمة أيضا لسعة الإشارة. ومن ثم يكون لكل خلية DSCF عصبية تردد وسعة معينان تستجيب لهما على أفضل وجه. ويبدو أن هذه الدقة في الاستجابة ترجع إلى تثبيط جانبي lateral inhibition: وهي آلية تعم الأجهزة الحسية، وبوساطتها تعزِّز الإشاراتُ المثبطة الصادرة عن خلايا عصبية مجاورة المقدرةَ الانتقائية لخلية عصبية بالنسبة لمؤثر معين.

    ويبلغ سمك القشرة العصبية للخفاش ذي الشارب نحو 900 ميكرون، أو نحوا من 40 إلى 50 خلية عصبية. وعندما غرسنا قطبا مُسجِّلا داخل القشرة وجدنا أن جميع الخلايا العصبية المتعامدة على السطح تكون منغمة لتردد وسعة متطابقين. ومن ثم يكون للساحة DSCF «تنظيم عمودي» columnar organization. وقد اكتُشف مثل هذا التنظيم العمودي عام 1959 في القشرة بالجهاز الجسمي الحسي للقردة من قبل <B .V. مونتكاسل> من جامعة جونز هوپكنز، ثم بعد ذلك في القشرة البصرية للقطط بوساطة <H .D. هوبل> و<N .T . ويزل> [انظر:
    "Brain Mechanisms of Vision" by D. H. Hubel and T. N. Wiesel; Scientific American, September 1979].

    وعندما أدخلنا قطبا مماسا للسطح القشري لساحة DSCF، وجدنا أن التردد والسعة المفضَّليْن يتغيَّران تدريجيا، مما يدل على وجود إحداثيات للتردد مقابل السعة frequency-versus-amplitude على امتداد سطح ساحته DSCF. وعلى وجه التقريب، وببساطة، يمكن أن يتصور أحدنا تلك الساحة كعجلة (دولاب) دراجة: فكلما اتجه أحد ما للخارج على طول أحد الأسلاك الشعاعية، فإن أفضل تردد للخلايا العصبية يزيد، وكلما اتجهنا دائريا من سلك شعاعي إلى آخر تتغير السعة الفضلى.

    فما وظيفة ساحة DSCF؟ تستجيب الخلايا العصبية في هذه الساحة فقط لسعة صدى CF2 وتردده، بغض النظر عن تردد النبضة المنطلقة. وعلى ذلك يفترض أن يكون لخلايا DSCF العصبية علاقة بتمييز حدة التردد والسعة، وكذلك بكشف التغيرات في التردد والسعة التي يمكن أن تثيرها حشرات طائرة.





    تمثل الخرائط الحاسوبية في القشرة السمعية للخفاش ذي الشارب تخلف الصدى (أو المسافة) وإزاحة دوپلر (أو السرعة النسبية). ففي الساحة (المنطقة) FM-FM (الأخضر)، تستجيب الخلايا العصبية بطول كل خط أسود إلى تخلف معين للصدى. ويوضح الرسم البياني الأعلى (في اليمين) منحنيات تأخير التنغيم delay-tuning لستٍّ من خلايا FM-FM العصبية، وكل خلية عصبية تستجيب إلى سعة وتخلف في الصدى معينيْن. وفي الساحة CF/CF (البني القاتم)، تستجيب خلايا عصبية على طول الخطوط الزرقاء إلى تردد CF1 معين مرتبط بتردد CF2 متغاير. وتستجيب خلايا عصبية على طول الخطوط السوداء لإزاحات دوپلر التي تقابل سرعة نسبية معينة للهدف. ويوضح المنحنى الأسفل (في اليمين) منحنيات التنغيم الترددي لإحدى خلايا CF1/CF2 العصبية. وتكون هذه الخلية العصبية أكثر استجابة عندما تُستحث بتردد CF1 عند 29.38 كيلوهرتز و 63 ديسيبل مرتبطة بتردد CF2 مقداره 60.52 كيلوهرتز عند 45 ديسيبل.

    وبناء على تجارب حديثة قمت بإجرائها، مشتركا مع<J .S. گايوني>و <H .ريكيمارو>، فإنه إذا أُتلفت ساحة DSCF، فإن الخفاش لن يعود قادرا على أن يميز بين الاختلافات الطفيفة في التردد ـ وإنما العالية منها فقط. ويلزم للحيوان ضعف الوقت لكي يقوم بإزاحة دوپلر التعويضية، كذلك تهبط مهارته في أداء المهمة إلى النصف. ومن هنا، نخمن أن الساحة DSCF هي المسؤولة عن الضبط البالغ الدقة لإزاحة دوپلر التعويضية، ولكن ليس عن القيام بالتعويض الفعلي. ونحن لا نعرف بعد كيف ترتبط الساحة DSCF بالمناطق الأخرى المسؤولة عن إنجاز إزاحة دوپلر التعويضية.

    ولكن ثمة وظيفة مهمة نفهمها جيدا، وهي إدراك السرعة النسبية للهدف. فلكي يتم ذلك، يجب على دماغ الخفاش أن يقوم بحساب إزاحة دوپلر بين النبضة المنطلقة وصداها. أو بتعبير آخر، يجب أن يكون هناك خلايا عصبية «تختبر» العلاقة الترددية بين الصوتين.

    ولقد عثرنا على مثل هذه الخلايا العصبية في جزء من القشرة السمعية التي تسمَّى الساحة (المنطقة) CF/CF. وهناك طرازان من خلايا CF/CF العصبية: CF1/CF2 و CF1/CF3، وكل منها يكوّن منطقة متميزة. وهذه الخلايا العصبية حساسة للعلاقة الترددية بين التوافقيات الترددية الثابتة. وعلى الأخص، تستجيب خلايا CF1/CF2 و CF1/CF3 عند اقتران نغمة ما بين 28 و 30 كيلوهرتز (CF1) مع نغمة تبلغ نحو 61 كيلوهرتز( CF2) أو 92 كيلوهرتز (CF3)، على التوالي. (والترددات CF2 و CF3 ليست ضعف أو ثلاثة أمثال التردد CF1 بالضبط، بل هي أعلى قليلا لكي تقلل من إزاحة دوپلر للصدى.)

    وعند إطلاق نبضة أو صدى أو نغمة CF أو صوت FM كل على حدة، تستجيب هذه الخلايا العصبية استجابة ضعيفة جدا، ولكنها تُظهر عند ضم النبض مع الصدى استجابةً قوية بصورة ملحوظة؛ إذ تصبح حساسة لإشارات مزدوجة أضعف بمقدار 6300 مرة من صُغْرى الإشارات غير المزدوجة التي يمكنها إثارة استجابة ما.

    ويدعم التنظيم الوظيفي للساحة CF/CF استنتاجا وهو أن هذه الخلايا العصبية مختصة في المقام الأول بمعالجة المعلومات عن السرعة، إذ يستجيب كل عمود من الخلايا بطريقة أفضل لارتباط معين بين ترددين، مثلا 29.60 و 61.20 كيلوهرتز. في حين تستجيب خلايا عصبية في موقع مختلف قليلا إلى ارتباط مختلف، وليكن 30.05 و 61.10 كيلوهرتز، مثلا.

    وقد بينت قياسات لاحقة أن أفضل ارتباط للترددات يختلف بطريقة منتظمة على امتداد سطح القشرة. ويتزايد تردد CF1 الانتقائي على امتداد أحد المحاور، وتتزايد ترددات CF2 و CF3 على امتداد المحور المتعامد عليه. أو بتعبير آخر، إن منطقة CF/CF تتعضى وفقا لنظام إحداثي تردد-مقابل-تردد حيث يمثل فيه موقعٌ محدد سرعةً نسبية معينة للهدف.

    ولما كانت النغمات التوافقية هي ـ ببساطة ـ مضاعفات صحيحة لنغمة CF1 الأساسية، فإن مقارنة بين النبضة CF1 والصدى CF2 أو CF3 سوف تنتج إزاحة دوپلر. فمثلا، قد لا تستجيب خلية عصبية معينة إلا إذا وُجد كلٌّ من نبضة CF1 مقدارها 30 كيلوهرتز وصدى CF2 مقداره 61 كيلوهرتز، معا. وبما أن تردد نبض CF2 هو ضعف تردد نبض CF1، أي 60 كيلوهرتز، فإن إزاحة دوپلر للصدى هي كيلوهرتز واحد. وتحدث هذه الإزاحة إذا كان الهدف متحركا بسرعة نسبية مقدارها 2.8 متر في الثانية.

    وقد حددنا أنه بداخل كل من المنطقتين CF1/CF2 و CF1/CF3 يوجد محور يمثل السرعات التي تتراوح بين - 2 و+9 أمتار في الثانية. بل إننا توصلنا إلى أكثر من هذا، وهو وجود عدد من الخلايا العصبية ـ يتجاوز حدود النسبة المعتادة ـ يمثل سرعات من صفر إلى أربعة أمتار في الثانية. وتظهر هذه السرعات في أثناء أنشطة حرجة بالنسبة للحيوان، كأن يكون الخفاش على وشك أن يحط على مأواه أو أن يمسك بحشرة.



    تصنع الشبكة العصبية خلايا عصبية تستجيب لتخلفات معينة في الصدى. وتعمل الشبكة على تأخير الاستجابة لنبضة FM1، بحيث تصل عند خلية عصبية في نفس وقت الاستجابة لنغمة توافقية أعلى للصدى FM، مطلقة لاستجابة من تلك الخلية العصبية. وتبّطأ استجابة النبض باتحاد التأخيرات المحورية ( لأن النبضة العصبية تستغرق بعض الوقت عند انتقالها على امتداد محورها) والتأخيرات المشبكية synaptic delays. بل إنه يمكن حدوث تأخيرات أطول بوساطة الكبح. فالخلية العصبية A تكبح الخلايا العصبية من 17 إلى 32، وبعد وقت ما يضمحل الكبح ابتداء من الخلية العصبية 17، ثم تصبح الخلايا العصبية مثارة لفترات وجيزة. (توضح الألوان الأفتح تأخيرات أطول). ومن ناحية أخرى، تنتشر الاستجابة للصدى إلى جميع الخلايا العصبية في وقت واحد.

    وبعد أن وجدنا الساحة CF/CF، رغبنا في معرفة أين تنشأ بدايةً عملية مقارنة الترددات على طول المسار السمعي. وكان قد سبق لنا أن عرفنا أن هذا لا يحدث في الجهاز السمعي الخارجي (المحيطي)، ومن ثم لا بد أن يكون في مكان ما في الجهاز السمعي المركزي. وبناء على قياسات فيزيولوجية كهربائية أجريت على طول المسار السمعي، فقد وجد أحد طلابي في الدراسات العليا وهو <F .J. أولسن> (الذي يعمل حاليا بجامعة ستانفورد) أن خلايا عصبية في مناطق معينة من التليعة (الحُدَيْبَة) السفلى تكون منغِّمة لترددات منفردة: CF1 أو CF2 أو CF3. وهي ترسل إشارات إلى منطقة محددة في الجسم الركيبي الأوسط، إذ يتم تكامل الإشارات بحيث تستجيب الخلايا العصبية الموجودة هناك إلى مجموع ترددات CF1 مع ترددات معينة من CF2 أو CF3. وبعد ذلك تبرز هذه الخلايا العصبية إلى الساحة CF/CF من القشرة السمعية.

    لقد وصفتُ حتى الآن المعالجة السمعية لمركبات CF من السونار الحيوي وحدها. ولكن الخفاش ذا الشارب يصدر صوت FM أيضا عند نهاية مركِّبة CF. فما الهدف من صوت FM هذا؟ إن إشارة FM تقدم الدالّة الأولية لقياس الفاصل الزمني بين النبضة والصدى ـ ومن ثم البعد عن الهدف. ويقابل تخلف للصدى مقداره مليثانية واحدة بُعدًا عن الهدف يساوي 17.3 سنتيمتر (عند حرارة للهواء مقدارها 25 درجة سيلزية). وقد وجد سيمونز أنه يمكن لعدد من أنواع الخفافيش الكشف عن فَرْق في المسافة مقداره ما بين 12 و 17 مليمترا. وذلك يعني أن لتلك الأنواع القدرة على تمييز فرق في تخلف الصدى قدره ما بين 69 و 98 من مليون جزء من الثانية!

    وكما هي الحال في الساحة CF/CF، فإن المعلومات المعالجة (وهي في هذه الحالة تخلف الصدى) تتمثَّل ـ بوساطة «خريطة» ـ في مكان محدد من القشرة السمعية، نطلق عليه المنطقة FM-FM. وهناك تستجيب الخلايا العصبية استجابة ضعيفة عندما تستقبل نبضة أو صدى أو نغمة CF أو صوت FM، إذا جاءت فُرادَى، ولكنها تستجيب بشدة إذا أعقب النبضة صدى له زمن تخلف معين. وفي الحالات القصوى يمكن لخلية FM-FM أن تكون أكثر حساسية 28000 مرة لزوج من النبضة-الصدى من أي من الإشارتين على انفراد.

    وتقارن خلايا FM-FM العصبية نبض FM1 المنطلق بالصدى FM2 أو FM3 أو FM4 المتخلف وراءه. وتتجمع كل من الطرز الثلاثة من الخلايا العصبية الحساسة لتخلف الصدى في تقسيمها الخاص بها.. وتُنَغَّم (تُضبط) كل خلية FM-FM عصبية لتخلف معين في الصدى، ويفضل معظمها أيضا سعة معينة للصدى. ونتيجة لذلك يستجيب معظم خلايا FM-FM العصبية لهدف يقع عند مسافة معينة وذي حجم محدد.

    وتؤيد التعضية الوظيفية للساحة FM-FM استنتاجنا بأن هذه المنطقة مكرسة أساسا لمعالجة المعلومات التي تتعلق بالمسافة. ويستجيب كل عمود من الخلايا العصبية إلى تخلف معين في الصدى، وتترتب الأعمدة بحيث يزيد التخلف المفضل على امتداد محور واحد. ويمثل هذا المحور تخلفات تتراوح بين 0.4 و 18 ملّي ثانية، أو مدى أهداف تتراوح بين سبعة و 310 سنتيمترات. ويُفترض أن لهذه الصفوف من الخلايا العصبية قدرة للتمييز تمكّن الحيوان من أن يتبين اختلافا في بعد الهدف يقدر بنحو 10 ملّيمترات. وفي الواقع، تؤيد الدراسات التي قام بها سيمونز على سلوك الخفاش هذا الفرض.



    تقوم مسارات متوازية بمعالجة الدفقات المختلفة لمعلومات السونار الحيوي. (في اليسار) وتقوم نغمات CF و FM توافقية متباينة باستثارة مناطق مختلفة من الغشاء القاعدي، وترسل الإشارات إلى القشرة السمعية عن طريق عدد من النوى تحت القشرية. وفي منطقة أعلى في المسار السمعي، تصبح الخلايا العصبية أكثر تدقيقا في الانتقائية لكل من التردد والسعة. وفي القشرة السمعية الأولية، تنظم موضعيا ترددات من 10 إلى 100 كيلوهرتز (الأصفر)، وتمثل المنطقة الكبيرة (القرنفلي) الموجودة في الوسط ترددات من 60.6 إلى 62.3 كيلوهرتز. وتتكامل إشارات CF و FM في الجسم الركيبي الأوسط مؤدية إلى تكوين خلايا عصبية تستجيب إلى ارتباطات محددة من إشارات CF و FM. وتُبرز هذه الخلايا الحساسة للارتباط محاورها إلى مناطق CF/CF أو FM/FM في القشرة السمعية، مؤدية إلى تكوين خرائط تقابل سرعة الهدف النسبية (البني قاتم) أو المسافة (الأخضر).

    كيف يمكن لمسارات في الجهاز السمعي أن تؤدي إلى تكوين خلايا عصبية حساسة للتخلف بين النبضات وأصدائها؟ كما هي الحال في الخلايا العصبية التي تستجيب إلى توليف من الترددات، توجد الخلايا التي تستجيب لتخلفات النبضة-الصدى أولا في الجسم الركيبي الأوسط. ولكي نستكشف كيف ترتبط هذه الخلايا العصبية بسائر المسار السمعي، حَقَنها أولسن بمادة بيروكسيديز الجرجير horseradish peroxidase التي تنتشر خلال مسارات الأعصاب. وقد شقت هذه المادة طريقها إلى مجموعتين متميزتين من الخلايا في التليعة السفلى وأيضا إلى المنطقة FM-FM في القشرة السمعية.

    ومن الواضح أن مجموعتي الخلايا التليعية العصبية ـ وإحداهما منغمة على النبض FM، والأخرى على نغمات توافقية في الصدى FM ـ تلتقيان في مجموعة واحدة من الخلايا العصبية في الجسم الركيبي الأوسط، لتنشئا خلايا عصبية حساسة لتواليف من مركبات FM. وقد أوضح تلميذي في الدراسات العليا <A .J. بتمان> أن هذه الحساسية الارتباطية يتوسط في نقلها إلى حد كبير مستقبل N -ميثيل-D-أسبارتيت( N-methyl-D-aspartate (NMDA . وتؤدي الصفات الفيزيائية الحيوية للمستقبلات إلى تضخيم استجابة الخلايا عندما تتطابق المدخلات العصبية neural imputs. وبذلك يقوم المستقبل بعملية الربط «و» المنطقي (كما في «إذا حدث A «و» B، نتج C»).

    فكيف تصبح هذه الخلايا العصبية حساسة لتخلفات الصدى؟ لقد وجد أولسن أن الخلايا العصبية في الجسم الركيبي الأوسط لا تستجيب لتخلفات الصدى بنفس قوة استجابة الخلايا العصبية الموجودة في القشرة السمعية، وأنها تستجيب إلى حد ما لنبضات وأصداء غير مزدوجة. ومن الأمور ذات المغزى، أن هذه الخلايا العصبية تستغرق، دائما، في استجابتها لنبضة FM1 وقتا أطول من ذلك الذي تستغرقه في استجابتها للأصداء FM2 أو FM3 أو FM4. وعلاوة على ذلك، يماثل الاختلاف في الاستجابة الكمونية التخلف المفضل للنبضة-الصدى لكل خلية عصبية.

    وتشير هذه المشاهدات إلى آلية مثيرة لعمليةِ حسابِ تخلفاتِ الصدى. فعندما يسمع خفاش النبضة FM التي يطلقها والخاصة به، تتأخر الاستجابة العصبية عند سيرها نحو الجسم الركيبي الأوسط. ولكن لا تتأخر الاستجابة للصدى المرتد. وبعد ذلك تصل الاستجابة المتأخرة للنبضة عند خلية عصبية معينة في الجسم الركيبي الأوسط متزامنة مع الاستجابة غير المؤخرة للصدى. ويؤدي ترافق هاتين الاستجابتين إلى قيام الخلية العصبية بتوليد الإشارة الخاصة بها. وتوحي هذه النظرية بوجود شبكة عصبية فيها خطوط تأخير متعددة تكوِّن صفوفا من الخلايا العصبية التي تستجيب إلى مدى من تخلفات الصدى.

    أين توجد خطوط التأخير هذه؟ هل هي في الجسم الركيبي الأوسط أو بالقرب من السطح؟ لأننا شاهدنا لأول مرة الاختلاف في الاستجابة الكونية للنبضات والصدى في الإشارات المنبثقة من التليعة السفلى، فقد استنتجنا أن بعض خطوط التأخير يجب أن تكون داخل التُّلَيعة السفلى نفسها. والتليعة السفلى في الخفاش ذي الشارب نواة ضخمة تبرز بين المخ والمخيخ. وتصعد ألياف عصبية من الجزء البطني الجانبي للتليعة إلى جزئها الأوسط الظهري. وتقطع النبضات مسافة نحو ملّيمترين بطول هذه الألياف العصبية، مثيرة مئة أو أكثر من الخلايا التي توجد في مسارها، وتؤدي إلى تأخير قد يصل إلى ثمانية ملي ثوان.

    ومع ذلك، فلنتذكر أنه مادام التأخير في الساحة FM-FM بالقشرة السمعية قد يصل إلى 18 ملّي ثانية، لذا فإن خطوط التأخير في التليعة السفلى لا يفسر المدى الكلي للتأخير. وتوحي المعلومات المتوافرة بوجود تأخيرات إضافية تحدثها مشابك عصبية كابحة inhibitory synapses في الجسم الركيبي الأوسط.

    لقد ناقشتُ حتى الآن كيف تستخلص الخفافيش ذات الشارب معلومات من مثل سرعة الهدف ومداه. ولكنني بهذا أكون قد تجنبت السؤال: لماذا يطلق الخفاش نغمات توافقية متنوعة، ولماذا لا تكفي نغمة توافقية واحدة؟ من الناحية التقنية الفنية يجب أن يكون الأمر كذلك؛ ولكن على الحيوان أن يجابه مشكلة أخرى. ذلك أن الخفافيش تعيش في مستعمرات مع مئات الخفافيش الأخرى، وبطريقة ما يجب أن تكون لديها المقدرة على استخدام تحديد الموقع بالصدى من دون حدوث اختلاط وشوشرة. وثمة آليات عديدة، منها السمع المزدوج binaural (أي بالأذنين معا)، تساعد في التغلب على هذا الكابوس في حركة المرور في الهواء. وتعتمد إحدى تلك الآليات المهمة على النغمة التوافقية الأولى.

    فالنغمة التوافقية الأولى هي أضعف مركِّبات (مكوِّنات) النبض المنطلق، وتحتوي على أقل من واحد في المئة من الطاقة الكلية في النبض. وفي الواقع، يكون النبض ضعيفا جدا حتى لا تكاد تسمعه الخفافيش الأخرى. وعلى كلٍّ فإن ما يسمعه خفاش ما من رفقائه في المأوى هي النغمات التوافقية الأعلى. ومع ذلك، فإن تواليف النغمات التوافقية الأعلى لا يمكن أن تثير خلايا FM-FM أو CF/CF العصبية. بيد أنه عندما يطلق خفاش نبضة ما يمكنه أن يسمع نغمته التوافقية الأولى الخاصة به والتي تنتقل بالتوصيل من أحباله الصوتية إلى أذنيه من خلال النسيج المحيط بهما. ويمكن لهذا الصوت، حين ارتباطه بالنغمات التوافقية الأعلى والتي تأخرت أو حدثت لها إزاحة دوپلر، أن يستحث الخلايا العصبية FM-FM أو CF/CF. وبهذه الطريقة يمكن حماية المعالجة العصبية للإشارات السونارية الحيوية من نشاز الأصوات الصادرة عن المستعمرَة.

    ويسدي كبت النغمة التوافقية الأولى ميزة أخرى. فلكي تتجنب الفراشات افتراسها من قبل الخفافيش، يوجد للكثير من أنواعها «مكاشيف للخفافيش» bat detectors أو مستقبلات سمعية ذات حساسية قوية لأصوات تتراوح تردداتها بين 15 و 40 كيلوهرتز، ولكنها غير حساسة نسبيا للترددات الأعلى. وهكذا يستطيع خفاش ذو شارب يكبت نغمته التوافقية الأولى، والتي تقع بين 24 و 31 كيلوهرتز، أن يقترب عن كثب وبدقة من الفراشات من دون أن تنتبه له.

    إن السمع بالنسبة للخفافيش أمر بالغ الأهمية، مثله في ذلك مثل الرؤية لدى الحيوانات التي تتوجه بصريا. لذلك فليس من المدهش أن نكتشف دليلا على عمليات حسابية عصبية رائعة تجري في القشرة السمعية للخفافيش. ومع ذلك، فالصوت أيضا ضروري بيولوجيا للكثير من الحيوانات الأخرى. فهل هذه لديها آليات عصبية مماثلة؟ يبدو أن للكثير منها مثل هذه الآلية.

    لقد وجد <R .R .كاپرانيكا> (من جامعة كورنيل) و <S .A. فينگ> (من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين) أن الضفادع تعالج أصواتا معقدة، مثل نداءات التزاوج، باستخدام خلايا عصبية تستجيب لارتباطات بين اثنين من عناصر الإشارات الأساسية. وقد لاحظ <D .مارگولاياش> (من جامعة شيكاغو) خلايا عصبية مماثلة في الطيور المغردة. لذا يبدو أن معالجة الأصوات الحاسمة، بيولوجيا، باستخدام خلايا عصبية حساسة للارتباطات combinatian-sensitive neuron، هي آلية عصبية ضرورية مشتركة بين أنواع متباينة من الحيوانات.

    ويبدو أنه من المرجح أن الجهاز السمعي البشري يستخدم أيضا مثل هذه الصفوف العصبية ليعالج أصوات الكلام. وحتى على الرغم من أن معالجة الكلام أمر فريد، وهي أساسا وظيفة القشرة الحديثة neocortex، فإن المناطق السمعية تحت القشرية subcortical ـ مع خلاياها العصبية الحساسة للارتباطات ـ قد تحلل أصوات الكلام بدرجة أكبر مما كان معروفا على وجه العموم. وقد بين العمل الرائد الذي قام به مونتكاسل وهوبل وويزل، أن آليات مماثلة تشكل أساس القشرة الجسمية الحسية والقشرة البصرية لدى القردة والقطط. وإن بحوثنا على القشرة السمعية للخفافيش لا تسهم في فهم السمع فحسب، ولكنها تعيننا على فهم الجهاز الحسي بشكل عام.




    المؤلف
    Nobuo Suga
    أستاذ البيولوجيا بجامعة واشنطن منذ عام 1976. وُلد سوگا في اليابان ودرس بجامعة متروبوليتان طوكيو، حيث حصل على ليسانس الآداب عام 1958 والدكتوراه في البيولوجيا عام 1963. وبعد ذلك التحق بجامعة هارڤارد باحثا مشاركا حيث درس لأول مرة الجهاز السمعي للخفافيش مع <R .D .گريفن>.

    مراجع للاستزادة
    PERFORMANCE OF AIRBORNE ANIMAL SONAR SYSTEMS. H.-U. Schnitzler and O. W. Henson, Jr., in Animal Sonar Systems. Edited by Rene-Guy Busnel and James F. Fish. Plenum Press, 1980.
    THE EXTENT TO WHICH BIOSONAR INFORMATION IS REPRESENTED IN THE BAT AUDITORY CORTEX. Nobuo Suga in Dynamic Aspects of Neocortical Function. Edited by Gerald M. Edelman et al. John Wiley & Sons, Inc., 1984.
    INHIBITION AND LEVEL-TOLERANT FREQUENCY TUNING IN THE AUDITORY CORTEX OF THE MUSTACHED BAT. Nobuo Suga and Koichi Tsuzuki in Journal of Neurophysiology, Vol. 53, No. 4, pages 1109-1145; April, 1985.
    AUDITORY NEUROETHOLOGY AND SPEECH PROCESSING. Nobuo Suga in Auditory Function. Edited by Gerald M. Edelman et al. John Wiley & Sons, Inc., 1988.
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار
  • محمد الانصاري
    MyHumanity First
    • 22-11-2008
    • 5048

    #2
    رد: السونار الحيوي وعملية الحساب العصبي لدى الخفافيش

    شكرا على الموضوع
    وفقكم الله لكل خير
    وتقبل الله اعمالكم

    ---


    ---


    ---

    Comment

    Working...
    X
    😀
    🥰
    🤢
    😎
    😡
    👍
    👎