إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    #16
    رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

    الفصل الرابع عشر *
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

    Comment

    • نجمة الجدي
      مدير متابعة وتنشيط
      • 25-09-2008
      • 5278

      #17
      رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

      الفصل الخامس عشر



      العربية السعودية

      مسألة غسيل الأموال

      عام 1974، أراني دبلوُماسيٌّ سعوديٌّ صوراً للرياض، عاصمة بلاده؛ وكان من ضمن هذه الصور قطيعٌ من الماعز يُنقِّبُ بين أكوام القمامة خارج مبنىً حكومي. وحين سألته عنها، صدمني جوابه. فقد قال لي إنها الوسيلةُ الرئيسيّةُ في المدينة للتخلص من القمامة. وأضاف قائلا، “نتركها للحيوانات لأنه ما من سعوديٍّ يحترمُ نفسه يُمكنُ أنْ يجمعَ القمامة.”

      ماعز! وفي عاصمة أعظم مملكة نفط في العالم. شيءٌ لا يُصدَّق.

      في الوقتِ ذاتِه، كنتُ ضمنَ مجموعةٍ من المستشارين الذين بدأوا للتوّ محاولةَ إيجاد حلٍّ لأزمة النفط. وقد قادتني صورةُ الماعز هذه إلى فهم كيف يُمكنُ هذا الحلّ أن يكون، خاصّةً بالنظر إلى شكل تطوُّر هذا البلد خلال القرون الثلاثةِ المنصرمة.

      كان تاريخُ العربية السعودية مليئاً بالعنف والتعصُّب الديني. وفي القرن الثامن عشر تحالف محمّد بن سعود، وهو قائدٌ حربيٌّ محليٌّ، مع أصوليين ينتمون للمذهب الوهابي السلفي، فكان حلفُهما قويا. وفي أثناء السنينَ المئةِ التالية أخضع آل سعود وحلفاؤهم الوهابيون معظمَ شبة الجزيرة العربية، بما في ذلك أقدسُ الديار الإسلامية، مكة والمدينة المنوّرة.

      لقد عكسَ المجتمعُ السعوديُّ مُثُلَ مؤسسيه المتزمِّتةَ، حيث فُرِضَ تأويلٌ صارمٌ للمعتقدات القرآنية، كما فَرَضَتْ الشرطةُ الدينيةُ الالتزام بالصلاةِ خمس مراتٍِ في اليوم، وأُجبرت النساءُ على تغطية أنفسهن من الرأس إلى أخمص القدمين. أما عقوبة المجرمين، فكانت قاسيةً، وكان الإعدامُ والرجمُ أمام الناس أمرين عاديين. وفي أول زيارة لي إلى الرياض، أدهشني السائقُ حين أخبرني أنّ باستطاعتي أنْ أتركَ آلة التصوير، وحقيبتي الشخصية، وحتى محفظة نقودي، في مكان ظاهر داخل السيارة، التي برّكناها بالقرب من السوق المفتوح بدون إقفالها. قال: “لا أحدَ يُمكنُ أنْ يسرقها، فاللصوصُ تُقطَعُ أيديهم.”

      ثم سألني السائقُ إن كنتُ أودُّ أنْ أزورَ ما أسماه ساحةَ الإعدام لرؤيةِ عمليةِ قطع الرؤوس. إن التزام الوهابية بما نعتبره تزمتاً متطرِّفاً قد جعل الشوارع أمينة من اللصوص – واقتضى أقسى أشكال العقوبات الجسدية للمخلين بالقانون. [أما ما يتعلق بدعوة الرجل]، فقد رفضتُ قبولها.

      كان لنظرة السعودية للدين كعنصر مهمٍّ من عناصر السياسة والاقتصاد أثرٌ على حظر النفط الذي هزّ العالمَ الغربي. ففي السادس من تشرين الأول 1973 (يوم كِبور، أقدس الأعياد اليهودية) شنت مصرُ وسوريةُ هجوماً مشتركاً على إسرائيل. فكانت بدايةَ حربِ تشرين – الحربِ العربيةِ-الإسرائيليةِ الرابعةِ والأكثرِ دماراً والتي كان لها أكبرُ الأثر على العالم. وقد ضغط رئيس مصر، [أنور] السادات، على الملك فيصل، ملك السعودية، للردِّ على اشتراك الولايات المتحدة مع إسرائيل باستخدام ما أسماه السادات “سلاح النفط”. وفي السادس عشر من تشرين الأول، أعلنت إيرانُ وخمسُ دول عربية خليجية، منها السعودية، زيادةً في أسعار النفط المعلنة تبلغُ 70 في المئة.

      في اجتماعهم في مدينة الكويت، بحث وزراءُ النفط العرب إجراءاتٍ إضافية. وإذ كان الوزيرُ العراقيُّ مؤيداً بشدةٍ لاستهداف الولايات المتحدة، دعا الوزراءَ الآخرين إلى تأميم المصالح الأمريكية في العالم العربي، وإلى فرض حظر كامل على تصدير النفط إلى الولايات المتحدة وإلى جميع الدول الأخرى المؤيدة لإسرائيل. كما دعا إلى سحب الأموال العربية من البنوك الأمريكية، مُشيراً إلى ضخامة الحسابات العربية في البنوك وإلى أنّ هذا العملَ يُمكنُ أن يُحدِثَ رعباً يُشبه رعب عام 1929.

      كان وزراءُ عربٌ آخرون مترددين في قبول مثل هذه الخطة المتطرِّفة، لكنهم في 17 تشرينَ الأول قرروا المضيَّ في حظر محدودٍ، يبدأ بخفضٍ في الإنتاجِ مقدارُه 5 في المئة ثم بخفض آخر مثلِه كلّ شهر حتى تتحقَّقَ أهدافُهم السياسية. وقد اتفقوا على وجوبِ معاقبة الولايات المتحدة لموقفها الداعم لإسرائيل؛ لذلك يجبُ فرضُ أقسى حظر عليها. وقد صرحت عدة دول ممن أمّتْ الاجتماعَ أنها ستطبِّقُ تخفيضاً مقدارُه 10 في المئة، لا 5 في المئة.

      في التاسع والعشرين من تشرينَ الأول طلب الرئيس نِكسن 2.2 مليار دولار مساعدةً لإسرائيل. وفي اليوم التالي فرضت السعوديةُ والدولُ العربية الأخرى المنتجةُ للنفط حظراً تاماً على شحنات النفط إلى الولايات المتحدة.[i]

      انتهى الحظر في 18 آذار 1974، بعد فرضه بفترة قصيرةٍ كان لها أثر كبير. فقد قفز سعرُ بيع النفط السعودي من 1.39 دولار للبرميل في مطلع كانون الثاني 1970، إلى 8.32 دولار في مطلع كانون الثاني 1974.[ii] ولن ينسى السياسيون والمخططون المستقبَليون الدروسَ المستفادةَ من هذه الفترة الممتدة من بدايات سبعينات القرن العشرين إلى منتصفها. أما في المدى البعيد، فقد عملت صدمةُ هذه الأشهر القليلة على تقوية سلطة الشركات، التي ترابطت أعمدتُها الثلاثةُ – الشركات الكبرى، والبنوك العالمية، والحكومة – كما لم تترابط من قبل قط. وكان لهذه الرابطة أن تُعمَّرَ طويلا.

      كذلك نتج عن هذا الحظر موقفٌ مهمٌّ وتغييراتٌ في السياسات. فقد اقتنع وول ستريت [مركزُ المال الأمريكي] وواشنطن أن مثل هذا الحظر لن يُقبَل تكرارُه أبدا. فإذا كانت الأولويةُ الأولى مُوجَّهةً دائما لحمايةِ تزوُّدِنا بالنفط، فقد باتت بعد عام 1973 هاجساً لنا. وقد رفع الحظرُ من شأن السعودية كلاعبٍ في السياسة العالمية وأجبر واشنطن على الاعتراف بالأهمية الإستراتيجية للمملكة على اقتصادنا. كذلك شجَّعَ قادةَ سلطةِ الشركات في الولايات المتحدة على البحث الحثيث عن وسائل لإعادة ضخِّ دولارات النفط في الولايات المتحدة، وعلى التفكُّر في حقيقة أن الحكومة السعودية لا تملكُ الأطر الإدارية والمؤسسية للإدارة السوية لثروتها المفاجئة.

      أما ما يتعلّقُ بالسعودية، فإنّ الدخل الإضافيَّ من النفط الناتجَ عن الارتفاع الهائل في الأسعار كان ذا خيرٍ متفاوت. فقد ملأ خزائن الدولة بمليارات الدولارات؛ لكنه عمل على تقويض بعض المعتقدات الدينية الوهابية المتزمتة. فقد أخذ الأغنياء السعوديون يُسافرون حول العالم، ويذهبون إلى المدارس والجامعات في أوربا والولايات المتحدة، ويبتاعون سياراتٍ مرفهةً ويفرشون منازلهم بفرش ذي طابع غربي. وقد استُبدِلت المعتقداتُ الدينية المحافظةُ بشكل جديد من المادية – وهذه الماديةُ هي التي جاءت بحلٍّ للمخاوف المتعلقة بمستقبل أزمة النفط.

      بعد انتهاء الحظر فورا، بدأت واشنطن تتفاوض مع السعوديين، عارضةً عليهم مساعدة فنية، وأسلحة وتدريبا، وفرصةً لرفع دولتهم إلى مستوى القرن العشرين؛ كلُّ ذلك مقابل المال النفطي، ومقابل ضماناتٍ بأنْ لن يتكرر الحظرُ على النفط أبدا، وهذا هو الأهم. وقد نتج عن المفاوضات إنشاءُ منظمةٍ في غاية الغرابة، هي اللجنة الأمريكية السعودية الاقتصادية المشتركة (جيكور)، التي انطوتْ على فكرةٍ مبتكرةٍ هي عكس برامج المساعدات الأجنبية التقليدية: ذلك أنها اعتمدت على المال السعودي لتشغيل الشركات الأمريكية في بناء السعودية.

      بالرغم من أنّ المسؤولية الإدارية والمالية عموماً كانت مناطةً بدائرة الخزينة الأمريكية، فقد حظيت هذه اللجنة باستقلالية واسعة. وكان في نهاية المُطاف أنْ خُطط لها بإنفاق مليارات الدولارات خلال أكثرَ من خمسة وعشرين عاماً؛ وكانت عملياً خارج مراقبةٍ الكنغرس، الذي لم تكن له سلطة على الموضوع بالرغم من دور الخزينة. بعد دراسة جيكور بصورة واسعة، استنتج كلٌّ من ديفد هولدن ورتشرد جونز بأنها “كانت أوسع اتفاقية من نوعها عُقدت بين الولايات المتحدة ودولة نامية. وكان لها إمكانيةُ تجذُّر الولايات المتحدة عميقا في أرض السعودية، مُعززة فكرة الاعتماد المتبادل.”[iii]

      في مرحلة مبكرة، طلبت دائرة الخزينة من شركة مين العمل معها استشاريا. وقد استدعيتُ وأُبلغتُ أن مهمتي ستكون حساسة، وأن كلَّ ما سأعمله وأعلمه يجب أنْ يُحاطَ بالسرية التامة. وقد بدت لي من علٍ أنها كانت عملية خفية. وقد جُعِلتُ أعتقدُ يومها أنّ شركة مين كانت المستشارة الرئيسية في تلك العملية؛ ثم تبيّن لي أننا كنا إحدى عدة شركات استشارية طُلب منها إبداء خبراتها.

      لما كان كلُّ شيءٍ في غاية السرية، فإنني لم أطلعْ على محادثات الخزينة مع المستشارين الآخرين، لذلك لا أستطيع التأكد من أهمية دوري في هذه الصفقة التي أوجدتْ سابقة. لكنني أعلم أنّ تلك الترتيبات قد وَضَعَتْ معاييرَ جديدةً للقتلة الاقتصاديين وبدائل مبتكرةً للوسائل التقليدية في دفع مصالح الإمبراطورية. كذلك أعلم أنّ معظم المشاهد المنبثقة من دراساتي قد طُبِّقت في النهاية، وأن شركة مين كوفئت بأحد العقود الأولى الرئيسية – والمربحة جدا – في السعودية، وأنني استلمت في تلك السنة مكافأة كبيرة.

      كانت مهمتي أن أضع توقعاتٍ لما قد يحدث في السعودية إذا استُثمِرت كمياتٌ هائلةٌ من المال في بنيتها التحتية، وأن أرسم سبلَ إنفاق ذلك المال. وباختصار، طُلِبَ مني أنْ آتي بما أستطيع من إبداع لتبرير ضخ مئات ملايين الدولارات في الاقتصاد السعودي، بحيث تُشرَكُ شركاتُ الهندسة والبناء الأمريكية. وإذ طُلِبَ مني القيامُ بهذا العمل وحدي دون موظفي دائرتي، فقد عُزِلتُ في غرفة اجتماعات صغيرة على بعد عدة طبقات فوق الطبقة التي كانت تقع فيها دائرتي، وأُخطرتُ بأنّ مهمتي كانت تتعلّقُ بالأمن القومي، وأنها تنطوي على إمكانيةِ ربح كبير لشركة مين.

      أُدركُ، بالطبع، أنّ الغاية الأولية هنا لم تكنْ ما اعتدنا عليه – أي إثقالَ كاهلِ الدولةِ بالديون التي لن تستطيعَ سدادََها – بل إيجادُ وسائل تضمنُ عودةَ حصةٍ كبيرةٍ من مال النفط إلى الولايات المتحدة. وفي هذه العملية، سوف تُجرُّ السعودية إلى حيثُ يُصبحُ اقتصادُها متشابكاً بصورة كبيرةٍ باقتصادنا ومُعتمدا عليه، ومن المفترض أنْ يغدو أكثر تبنياً للشكل الغربيِّ، ولهذا أكثرَ تعاطفاً وتكاملاً مع نظامنا.

      ما إنْ بدأتُ، حتى تبيّن لي أن الماعز الذي كان يتجوّلُ في شوارع الرياض بات المفتاح الرمز؛ وكان مصدر اشمئزاز لأثرياء السعودية الذين يجوبون مرافق العالم المرفهة. كان هذا الماعز يدعونا إلى استبداله بشيءٍ جديرٍ بهذه المملكة الصحراوية المتطلعة إلى ولوج العالم الحديث. كذلك علمتُ أن اقتصاديي أوبك كانوا يؤكدون على حاجة الدول الغنية بالنفط إلى تحويل نفطها إلى منتجاتٍ ذات قيمة مضافة، وكانوا يحثون هذه الدول، بدل الاكتفاء بتصدير النفط الخام، على إنشاء صناعاتٍ لاستعمال النفط في إنتاج منتجات مستخرجةٍ منه يُمكن بيعُها في العالم بسعر أعلى من سعر النفط الخام نفسه.

      هذا الإدراكُ المزدوج فتح الباب لمخطط شعرتُ يقيناً أنه مربح للجميع. كان الماعز، بطبيعة الحال، محض نقطة عبور. فقد كان ممكناً أنْ تُستغلَّ عائداتُ النفط في استخدام الشركات الأمريكية لإحلال أحدث نظام في العالم لجمع القمامة والتخلص منها محِلّ هذا الماعز، ويستطيع السعوديون أنْ يفخروا بهذه التقانة العالية جدا.

      أخذتُ أفكِّرُ بالماعز باعتباره أحد طرفيْ معادلة يُمكنُ تطبيقُها على معظم القطاعات الاقتصادية في المملكة، معادلةٍ تُمثِّلُ النجاح في عيون الأسرة الملكية ودائرة الخزينة الأمريكية ورؤسائي في شركة مين. ووفقَ هذه المعادلة، يُمكنُ تكريس المال لإيجاد قطاع صناعي يُركِّزُ على تحويل النفط الخام إلى منتجات مُصنَّعة للتصدير. عندها سوف تظهر في الصحراء مُجمَّعاتٌ كيماوية-نفطية، تنتشرُ من حولها مناطقُ صناعيةٌ ضخمة. وبطبيعة الحال، سوف تقتضي مثلُ هذه الخطة بناءَ مولداتٍ كهربائيةٍ تبلغُ طاقتُها الآلاف من وحدات الطاقة الكهربائية، وبناءَ خطوط إرسال وتوزيع، وطرق سريعة، وخطوط أنابيب، وشبكات اتصال، وأنظمة نقل تضم مطاراتٍ حديثةً، وموانئ محسنةً، ومنظومة أعمال الخدمات، والبنية التحتية الضرورية لإدامةِ دوران أسنان العجلة.

      كانت توقعاتُنا جميعاً لأن تُصبح هذه الخطةُ نموذجاً لبقية العالم عالية. سوف يتغنى بمديحنا السعوديون الذين يُسافرون حول العالم، وسيدعون زعماء دول كثيرة لزيارة السعودية ومشاهدة المعجزات التي حققناها. وسوف يتصل بنا هؤلاء الزعماءُ لمساعدتهم في ابتداع خطط شبيهةٍ لبلدانهم. وللحصول على التمويل سوف يلجأون– خاصةً الدول غير الأعضاء في أوبك – إلى البنك الدولي أو إلى طرق أخرى للاستدانة. وهكذا تُقدَّمُ خدمةٌ جيدةٌ للإمبراطوريةُ العالمية.

      حين كنتُ أقلِّب تلك الأفكار في ذهني، كنتُ أفكّرُ بالماعز وبكلمات السائق التي أوقعت صدىً في أذنيّ، “ما من سعوديٍّ يحترمُ نفسه يُمكنُ أنْ يجمعَ القمامة.” سمعتُ هذه العبارة المكررة في مواقف مختلفة. فقد كان واضحاً أن لا نيةَ لدى السعوديين في جعل أحد منهم يعمل في هذه الأعمال الوضيعة، سواء كعمال في المرافق الصناعية أو في المشاريع الإنشائية. وفي الأصل، لم يكن منهم سوى القلة القليلة. أضف إلى ذلك أنّ الأسرة المالكة السعودية التزمت بأنْ تُقدِّمًَ لمواطنيها مستوىً من التعليم وأسلوب الحياة لا يتناسبان مع هذه الأعمال اليدوية. قد يُديرُ السعوديون غيرَهم، لكنهم لا رغبة ولا حافز لديهم ليصبحوا عمال مصانع أو بناء. لذلك سيكون ضروريا استيرادُ قوة عاملة من بلدان أخرى – بلدان يكون العمل فيها رخيصاً والناسُ في حاجةٍ إلى العمل. ويجب، ما أمكن الأمرُ، أن يأتي العمال من دول أخرى مشرقية أو إسلامية، كمصر وفلسطين والباكستان واليمن.

      خلقت هذه الإمكانيةُ حيلةً جديدةً عظيمةً لفرص التنمية. ذلك أنْ لا بد من بناء مجمعات إسكانية ضخمة لهؤلاء العمال، بالإضافة إلى الأسواق، والمستشفيات، وخدمات الشرطة والمطافئ، ووحدات تنقية المياه والمجاري، وشبكات الكهرباء والاتصالات والمواصلات – والواقع أن النتيجة النهائية ستكون إنشاء مدن حديثةٍ كانت الصحراءُ ذاتَ يوم مكانها. هنا أيضا تبدّت فرصةٌ لاستكشاف التقانات الناشئة، مثل محطات التحلية، وأنظمة الموجات بالغة القصر، ومجمعات العناية الصحية، والتقانات الحاسوبية.

      كانت السعودية حُلُماً مُحقَّقاً للمخططين، وخيالا متجسّداً لكلِّ من كانت له علاقة بأعمال الهندسة والبناء. لقد قدّمتْ فرصةً اقتصادية لا مثيل لها في التاريخ: بلداً متخلِّفاً ذا موارد ماليةٍ غير محدودة عمليا، ورغبةٍ في دخول العصر الحديث سريعاً جدا وبطريقة هائلة.

      عليَّ أنْ أعترفَ بأنني استمتعتُ كثيراً بهذه المهمة. لم أجدْ معطياتٍ صلبةً في السعودية، أو في مكتبة بوسطن العامة، أو في أي مكان آخرَ تبرر استخدام النماذج الاقتصادية الرياضية في هذا السياق. والحقيقة أن حجم المهمة – تحويل دولة بكاملها تحويلا تاماً وفوريا على نطاق لم يُشاهد من قبل قط – كانت تعني أنه حتى لو وُجدت المعطياتُ التاريخيةُ، فلن تكون مفيدة.

      كذلك لم يتوقع أحدٌ هذا النوع من التحليل الكمي، ليس في هذه المرحلة على الأقل. كلّ ما فعلته أنني أقحمتُ خيالي على العمل وكتبتُ تقاريرَ صوّرت للمملكة مستقبلاً مجيدا. كانت لديَّ أرقامٌ تقديرية أستخدمها لتقدير أشياء كالكلفة التقريبية لإنتاج ميغاوط واحد من الكهرباء، أو ميل واحد من الطرق، أو ما يكفي عاملا واحدا من الماء والمجاري والسكن والطعام والخدمات العامة. ولم يكن مطلوباً مني أنْ أحدد هذه التقديرات أو أن أضع استنتاجاتٍ نهائية. كانت مهمتي ببساطة أن أشرح سلسلة من الخطط (أو “التصورات”، إذا أردنا الدقة) لما قد يكون ممكنا، وأن أتوصل إلى تقديرات فضفاضةٍ للكلف المرتبطة بها.

      كنتُ دائما أضع في ذهني الهدفين الحقيقيين: رفع ما تقبضُه الشركات الأمريكية إلى الحد الأعلى وجعل السعودية تعتمد أكثر فأكثر على الولايات المتحدة. ولم آخذ وقتاً طويلا لأتبيّن مدى توافق هذين الهدفين؛ إذ أنّ معظم المشاريع المدروسة حديثا سوف تتطلب تعديلا وخدمة، وهي على درجة عالية من التقانة بحيث تضمن للشركات التي خططتها أصلا صيانتها وتحديثها. وواقعُ الأمر أنني في تقدمي في عملي بدأتُ أضع قائمتين اثنتين لكلٍّ من المشاريع التي تصوّرتُها: قائمة بأنواع عقود التصميم والبناء التي نتوقعها، وأخرى باتفاقيات الخدمة والإدارة طويلتي الأمد. وبهذا سوف تُحقِّقُ ربحاً عاليا لعقود من الزمن شركات مين، وبكتل، وبراون وروت، وهلِبيرتُن، وستون ووبستر، والكثرةُ من المهندسين والمقاولين الأمريكيين.

      هناك حيلة أخرى أبعد من الاقتصاد المحض تجعل السعودية معتمدةً علينا ولو بطريقة مختلفة جدا. فتحديثُ هذه المملكة الغنية بالنفط سوف يُسبب ردود فعل معادية. من ذلك غضبُ المسلمين المحافظين، وشعورُ إسرائيل والدول المجاورة الأخرى بالتهديد. لذلك، من المحتمل أن يُفرخَ النموُّ الاقتصاديُّ لدى هذه الدولة نموَّ صناعةٍ أخرى: ألا وهي حماية شبه الجزيرة العربية. ويُمكن الشركاتِ الخاصةَ المتخصصةَ في هذا الشأن، والصناعةَ العسكريةَ والدفاعيةَ الأمريكيةَ أن تتوقع عقوداً سخية – ومرة أخرى، اتفاقيات الخدمة والإدارة طويلتي الأمد. وسوف يتطلّبُ وجودُها مرحلةً أخرى من المشاريع الهندسية والإنشائية، من ضمنها المطاراتُ، ومواقعُ الصواريخ، وقواعدُ العاملين، وجميعُ البنى التحتية ذات العلاقة.

      أرسلتُ تقاريري في مظاريف مشموعة عبر بريد المكتب مُعنونةً إلى “مدير المشاريع، دائرة الخزينة”. وكنت أحيانا ألتقي بأعضاء آخرين من فريقنا – نوابٍ لرئيس شركة مين ورؤسائي. وإذ لم يكن لدينا اسم رسميٌّ لهذا المشروع، لأنه لم يزل في طور البحث والتطوير ولم يكن بعدُ جزءاً من جيكور، كنا نشير إليه – همساً – باسم “ساما”. وكان هذا الاسم ظاهريا يعني مسألة غسيل المال السعودي، ولكنه كان أيضا لعبا بالألفاظ، لأن المصرف المركزي في المملكة يحمل الاسم المختصر ذاته [باللغة الإنكليزية].

      كان ينضمُّ لنا أحيانا مندوبٌ عن الخزينة. وكنتُ في الاجتماع أسأل أسئلة قليلة، وبصورةٍ رئيسية، أصف عملي، وأجيبُ على تعليقاتهم، وأوافق على محاولة فعل ما يُطلبُ مني. كان نوابُ الرئيس ومندوبُ الخزينة يُعجَبون بصورةٍ خاصةٍ بأفكاري حول اتفاقيات الخدمة والإدارة طويلتي الأمد. وقد دفع هذا أحدَ نواب الرئيس إلى مقولةٍ كثيراً ما ردّدناها بعد ذلك في الإشارة إلى المملكة بأنها “البقرة التي يُمكنُنا حلبُها حتى تطلع الشمسُ على تقاعدنا.” أما بالنسبة إليّ، فكان هذا القول يستحضر في بالي الماعزَ لا البقر.

      تبيّن لي من خلال هذه الاجتماعات أنّ عدة منافسين لنا كانت لهم مهمات شبيهة، وأننا جميعاً نتوقع في نهاية المطاف أنْ نُكافأ بعقود مربحة نتيجةً لجهودنا. افترضتُ أن شركة مين والشركات الأخرى كانت تعدّ الفاتورة لهذا العمل الأولي، آخذة مخاطرة قصيرة لدخول الحلبة. وقد عزّز هذا الافتراضَ حقيقةُ أنّ الرقم الذي وضعتُه مقابل وقتي في الجدول الزمني الشخصي الذي نملأه يوميا بدا أنه حساب نفقات عامة وإدارية. كانت مثل هذه الوسيلة نموذجا لمرحلة البحث والتطوير وإعداد العرض في معظم المشاريع. ومن المؤكد أنّ الاستثمارِ الابتدائيَّ في هذه الحالة قد جاز العُرفَ كثيراً، لكن نواب الرئيس بدوا واثقين جدا من المردود.

      بالرغم من علمنا بأن منافسينا كانوا أيضاً داخلين معنا، فقد افترضنا كلنا أن ثمة من العمل ما يكفي الجميع. لقد مضى عليّ في هذا العمل حينٌ من الزمن يكفي للاعتقاد بأنّ المكافآتِ الممنوحةَ تعكسُ مستوى قبول الخزينة للعمل الذي قمنا به، وأن أولئك المستشارين الذين قدّموا الدراساتِ التي تُطبَّقُ أخيراً سوف يُحظَون بأفضل العقود. وقد اعتبرتُ الأمرَ تحدياً شخصياً لابتداع مشاهد يُمكنُ وصولها إلى مرحلة التصميم والبناء. سبق أنْ أخذ نجمي يعلو بسرعةٍ في شركة مين؛ وكوني لاعباً مهما في “ساما” سوف يضمن تسارعَه إن نحن نجحنا.

      كذلك ناقشنا بصراحةٍ في اجتماعاتنا إمكانية أن تُفرخَ “ساما” وعملية “جيكور” برمتها سوابق جديدة. فقد كانت تُمثِّلُ وسيلةً مبتكرةً لاختلاق عمل مربح في بلاد لا تحتاج إلى طلب قروض من البنوك العالمية. وعلى الفور خطرت بالبال كلٌّ من إيران والعراق كمَثَلَيْن إضافيين لهذه البلدان. أضف إلى ذلك أننا، جرياً على الطبيعة الإنسانية، شعرنا أن قادة مثل هذه الدول يُمكن حفزُهم لمحاولة تقليد السعودية. ولم يكن لدينا إلا القليلُ من الشك في أنّ حظر النفط عام 1973 – الذي بدا على ذلك السوء في بادئ الأمر – يُمكنُ أنْ ينتهي بمنح الكثير لأعمال الهندسة والبناء مما لم يكن متوقعا، وأنْ يُساعدَ على تمهيد الطريق للإمبراطورية العالمية.

      عملتُ على تلك المرحلة الحالمةِ زهاء ثمانية أشهر – لكني لم أتجاوز عدة أيام مضغوطةٍ مرةً واحدة – معزولا في غرفتي الخاصة أو في شقتي المطلة على “بوسطن كُمُن”. كان للموظفين التابعين لي واجباتٌ أخرى، وقد اعتنوا بأنفسهم جيداً، وإنْ كنتُ أتفقدهم بانتظام. ثم انحدر مستوى السرية حول عملنا بمرور الوقت، وأصبحت الكثرةُ من الناس على علم بأنّ شيئاً كبيرا ذا علاقة بالسعودية يجري إعداده. فازدادت الإثارة، وتطايرت الشائعات. كذلك غدا نوابُ الرئيس وممثلو الخزينة أكثر انفتاحا – أعتقد أن جزءاً من ذلك أنهم أنفسهم أصبحوا على علم خاصٍّ بمعلومات إضافية حين ظهر بعضُ التفاصيل حول هذا المخطط البارع.

      بهذه الخطة، أرادت واشنطن من السعودية أن تضمنَ دوامَ تدفقِ النفطِ واستقرارِ الأسعارِ حولَ مستوياتٍ يُمكنُ أنْ تتذبذب، ولكنها تبقى مقبولة للولايات المتحدة وحلفائها. فإذا هددتْ بإقامة الحظر دولٌ كإيران، والعراق، وإندونيسيا، وفنزويلا، سدّت السعوديةُ النقصَ بما تملكُه من كميات ضخمة من النفط؛ وببساطة، إن معرفةَ الدول الأخرى بما يُمكنُ السعوديةَ عملُه سوف يُثنيها على المدى البعيد حتى عن التفكير بالحظر. مقابلَ هذا الضمان، تُقدِّمُ الولاياتُ المتحدةُ لآل سعود عرضا مغريا: التزاما بتقديم دعم سياسيٍّ وأمنيٍّ – إن لزم الأمرُ. وفي هذا توكيدٌ على استمرار وجودهم كحكام لبلدهم.

      كان هذا عرضا لم يستطعْ آلُ سعودٍ رفضَه، بالنظر إلى موقعهم الجغرافيّ، وافتقارهم إلى القوة العسكرية، وضعفهم العام أمام جيرانهم، كإيرانَ، وسوريةَ، والعراقِ، وإسرائيل. لذلك من الطبيعيِّ أن تستخدمَ واشنطن تميُّزَها في فرضٍ شرطٍ آخرَ حساس، شرطٍ أعاد تحديد دور القتلة الاقتصاديين في العالم، ومثَّلَ نموذجاً حاولنا لاحقاً تطبيقه في دول أخرى، أهمُّها العراق. وبالنظر إلى الخلف، أجدُ أحياناً صعوبةً في فهم قبول السعوديةِ لهذا الشرط. ومن المؤكَّدِ أن بقيةَ العالم العربيّ، وأوبك، والدولَ الإسلامية الأخرى أُصيبتْ بالفزع حين اكتشفت بنود الصفقة والكيفية التي أذعنَ فيها البيتُ الملكيُّ لمطالب واشنطن.

      كان الشرطُ أنْ تشتري السعوديةُ بمال نفطها سنداتٍ ماليةً تُصدِرها حكومة الولايات المتحدة؛ وبالمقابل تُنفقُ دائرةُ الخزينةِ الأمريكية فوائدَ هذه السندات بطرق تجعل السعوديةَ قادرةً على الخروج من مجتمعها المتخلِّف إلى العالم الصناعيّ الحديث. بتعبير آخر، سوف تُُستعملُ الفائدةُ المتحققةُ من مليارات الدولارات المكتسبة من نفط المملكة لكي تُدفَعَ للشركات الأمريكية لتحقيق الرؤية التي قمتُ أنا (وبعض منافسينا، كما أفترض) بوضعها لتحويل السعودية إلى قوة صناعية حديثة. وبهذا تستخدمنا دائرة الخزينة التابعة لدولتنا على حساب السعودية لبناء مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ، بل مدنٍ كاملةٍ في أرجاء شبه الجزيرة العربية.

      بالرغم من أن السعوديين احتفظوا بحقهم في اقتراح ما يتعلّقُ بالطبيعة العامة لهذه المشاريع، فالحقيقةُ أنّ مجموعةً مصطفاةً من الأجانب (أو الكفّار، كما يراهم المسلمون) هم من كانوا يُقرِّرون المظهر المستقبليّ والبنية الاقتصادية في شبه الجزيرة العربية. وهذا ما حدث في مملكةٍ أُسِّست على المبادئ الوهابية المحافظة وتُحكَمُ وفقاً لتلك المبادئ منذ قرون. وإذ بدا الأمرُ خروجا عن التقاليد بالنسبة إليهم، إلا أنّني أظنُّ أن الأسرة السعودية شعرت بندرة البدائل في ظل الظروف السائدة، وبسبب الضغوط السياسية والعسكرية التي ما من شكٍّ في أنّ واشنطن مارستها.

      لقد بدت، من منظورنا، إمكانيةُ تحقيق أرباح ضخمة غيرَ محدودة. كانت صفقةً مغريةً، تَعِدُ بسابقة مذهلة. ولكي تزداد حلاوتُها، لم تكن ثمة ضرورة للحصولُ على موافقة من الكنغرس – وهي موافقةٌ تمقتُها الشركات، خصوصاً الشركات الخاصة مثل بكتل ومين، التي تُفضِّلُ أن لا تفتح دفاترها أو تشيَ بأسرارها لأحد. طومس لِبمَن، الباحث المساعد في معهد الشرق الأوسط والصحفي السابق، لخّصَ ببلاغةٍ النقاط البارزة في هذه الصفقة:

      “يدفع السعوديون، الغارقون في المال، مئات ملايين الدولارات لدائرة الخزينة، فتحتفظ بالمال إلى حين تحتاجُ إلى أن تدفعه للباعة والموظفين. ويضمنُ هذا النظامُ أن يعودَ المالُ السعوديُّ إلى الاقتصاد الأمريكي … كذلك يضمنُ لمديري اللجنة تقرير أية مشاريع يرونها هم والسعوديون مفيدة بدون الحاجة إلى تبريرها أمام الكنغرس.”[iv]

      لقد استغرق وضعُ الخطوط العريضة لهذا المشروع التاريخيّ وقتاً أقلَّ مما يتخيّلُه أحد. إلا أنه كان علينا بعد ذلك أن نجد السبيل إلى تنفيذه. ولكي تتحرّك العملية، أُرسِلَ إلى السعودية أحدُ الذين يتبوأون أعلى منصب في الحكومة في مهمةٍ سريةٍ للغاية. لم أكن أعلم من هو على وجه اليقين، ولكنني أعتقد أن ذلك المبعوثَ كان هنري كسنجر.

      كائنا من كان ذلك المبعوث، لقد كانت مهمتُه أنْ يُذكِّرَ الأسرة الملكية بما حدث للجارة إيران حين حاول مُصدّق أن يتخلّص من المصالح النفطية البريطانية. بعد ذلك كان عليه أن يشرح خطةً أكثر إغراءً لهم من أنْ يرفضوها، أي أن يقول للسعوديين إن خياراتهم قليلة. لا أشكُّ في أنهم أُعطُوا الانطباع الواضح بأنّ عليهم أنْ يقبلوا عرضنا، فيكسبوا ضماناتنا بدعمهم وحمايتهم كحكام، أو أنْ يرفضوا – فيذهبوا مذهبَ مصدّق. وحين عاد المبعوثُ إلى واشنطن، حمل معه رسالةً بأن السعوديين يؤثرون الطاعة.

      كانت هناك عقبة واحدة بسيطة، أنّ علينا أن نُقنعَ اللاعبين الرئيسيين في الحكومة السعودية. وقد أُعلمنا أن هذه مسألة عائلية. لم تكن السعودية دولة ديمقراطية، إلا أنه لا بد من الإجماع داخل الأسرة الحاكمة.

      عام 1975، أنيط بي التعاملُ مع واحد من هؤلاء اللاعبين الرئيسيين. كنتُ دائما أظنه الأمير “واو”، بالرغم من أنني لم أعلم قط أنه كان حقيقة وليَّ العهد. كانت مهمتي أن أقنعه بأن عملية غسيل المال السعودي سوف تفيد بلاده وتفيده شخصيا.

      لم يكن الأمر بالسهولة التي بدت عليها. فقد أعلن الأمير “واو” بأنه وهابيٌّ ملتزم وأنه لا يودُّ أنْ يرى بلاده تتبع الخطى التجارية الغربية. كذلك زعم بأنه يُدرك الطبيعة الخبيثة فيما نعرض؛ وقال إنّنا نطمحُ إلى الأهداف ذاتها التي كان يطمحُ إليها الفرنجةُ الصليبيون قبل ألف حول: نصرنة العالم العربي. ولقد كان مُحقاً في ذلك إلى حدٍّ ما. ففي رأيي، إن الفرق بيننا وبين الصليبيين كان في الدرجة. ذلك أنّ كاثوليكيي القرون الوسطى في أوربا كانوا يزعمون أنهم يريدون تخليص المسلمين من العذاب؛ أما نحن فنزعمُ أننا نريد مساعدة السعوديين في التحول إلى الحداثة. وفي الحقيقة، أعتقد أن الصليبيين، مثل سلطة الشركات، كانوا في الأساس يريدون توسيع إمبراطوريتهم.

      بعيدا عن الإيمان الديني، كان لدى الأمير “واو” ضعفٌ واحد – الشقراوات الجميلات. يبدو من المضحك نوعاً ما أن نذكر ما أصبح اليوم أمراً شائعا وغير عادل؛ ويجب عليّ أن أذكر أن الأمير “واو” كان الرجلَ الوحيد بين الكثرة من السعوديين الذين عرفتهم ممن كانت لهم هذه النزعة، أو أنه الوحيد الذي سمح لي بالاطلاع عليها. إلا أنها أدّت دوراً في ترتيب هذه الصفقة التاريخية، وهي أيضا تكشف المدى الذي ذهبتُ إليه لإتمام مهمتي.




      [1] نورالدين عواد، ” الثورة الكوبية على المحك” كنعان الالكترونية العدد 2441، بتاريخ 24 ديسمبر 2010.

      [2] العهد التشريعي مدته خمسة اعوام، ومنذ ترسيخ ماسسة السلطة الشعبية في كوبا عام 1976 تجرى انتخابات البلديات كل سنتين ونصف، اما الانتخابات العامة للمحافظات وللوطن فتجرى كل خمسة اعوام.

      [3] وهو صاحب المقولة الخالدة “الحقوق لا تشحذ، بل بحد السيف تنتزع”، وكانت نظرته ثاقبة ازاء الخطر الامريكي المحدق بالجزيرة الى حدّ انه، بعد ان عرض عليه المستعمرون اتفاق الزانخونZANJONالاستسلامي عام 1878(نوع من اتفاق اوسلو الفلسطيني) ولم يقبله بل رفضه باعلان استئناف الكفاح المسلح قال ” الطريقة الوحيدة التي يمكن ان اقف فيها الى جانب الاسبانيين [المستعمرين] ان يحاربوا الامريكيين]”، ولاحقا عندما تم وقف العمليات المسلحة، فضّل المهجر (جامايكا) على الخيانة، ثم عاد وقاتل واستشهد.

      [4] اختيار يوم 24 فبراير 2013 لهذه الخطوة بالغة الاهمية بالنسبة لمصير الثورة والوطن، يكتسب رمزيته التاريخية مما حدث بنفس التاريخ من عام 1895، عندما تم استئناف الكفاح الكوبي المسلح من اجل الاستقلال عن الاستعمار الاسباني، من خلال اندماج المقاتلين المتمرسين القدامى في حرب التحرير الاولى 1868 ـ 1878، مع “الصنوبر الجديد” اي المقاتلين الجدد، تحت قيادة الحزب الثوري الكوبي، بزعامة خوسيه مارتي، وهو في راي فيديل كاسترو “انسان ثوري بوليفري ومعاد للامبريالية الامريكية ” . كان الكوبيون يحاربون باستعمال سلاح اساسي وهو “السيف المامبي” اي سيف المحاربين من اجل الاستقلال والحرية.

      [5] للمزيد من المعطيات يمكن الرجوع الى كنعان الالكترونية العدد 2551 بتاريخ 25 نيسان (ابريل) 2011.

      [6] هذه العبارة تعود الى الزميل الفنزويلي والتر مارتينيسWALTER MARTINEZ، مُعدّ ومُقدِّم برنامج “دوسييه” DOSIERفي تلفزيون الجنوب TELESUR .


      [i] لقراءة المزيد عن الأحداث التي أدت إلى حظر النفط عام 1973 وعن أثر هذا الحظر، راجع:

      Thomas W. Lippman, Inside the Mirage: America’s Fragile Partnership with Saudi Arabia (Boulder, CO: Westview Press, 2004); Daniel Yergin, The Prize:The Epic Quest for Oil, Money & Power (New York: Free Press, 1993); Stephen Schneider, The Oil Price Revolution (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1983); Ian Seymour, OPEC: Instrument of Change (London: McMillan, 1980).

      [ii] Lippman, ibid, p 160.

      [iii] David Holden and Richard Johns, The House of Saud: The Rise and Rule of the Most Powerful Dynasty in the Arab World (New York: Holt Rinehart and Winston, 1981), p 359.

      [iv] Lippman, ibid, p 167.
      قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

      Comment

      • نجمة الجدي
        مدير متابعة وتنشيط
        • 25-09-2008
        • 5278

        #18
        رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

        الفصل السادس عشر

        العمل قوّادا

        وتمويل أسامة بن لادن

        منذ البداية، أخبرني الأمير “واو” أنه حين يأتي لزيارتي في بوسطن يودُّ أنْ تُرافقه امرأةٌ جذابة، ويتوقّعُ منها أنْ تقوم بأكثر من مجرد مرافقته. لكنه قطعاً لا يريد مومساً محترفة، بل امرأةً قد يلتقي بها هو أو أيٌّ من أفراد أسرته في الشارع أو في حفلة شراب. ولما كانت اجتماعاتي بالأمير “واو” سرية، فقد كانت الاستجابةُ لرغباته أسهلَ.

        كانت “سالي” امرأةً جميلةً شقراءَ ذاتَ عينين زرقاوين، وتعيشُ في منطقة بوسطن. وكان زوجُها، وهو طيارٌ في الخطوط الجوية المتحدة (يُنايتد)، يُسافرُ كثيرا، بحكم عمله أو بغير ذلك، ولا يبذل جهدا كبيراً في إخفاء عدم إخلاصه لها. أما سالي، فقد اتخذتْ موقفاً فروسياً من نشاطات زوجها. ذلك أنها كانت تُقدِّرُ حجمَ راتبه، والشقةَ المترفةَ التي يسكنانها، والفوائدَ التي كانت زوجةُ طيار تستمتعُ بها في تلك الأيام. وكانت قبل ذلك بعقد من الزمن تعيشُ حياة الصعلكة، ومعتادة على ممارسة الجنس بدون التزام. وقد وجدتْ مسألة وجود موردٍ سريٍّ للمال فكرةً جذابة. لذلك وافقت على أن تُجرِّبَ العلاقة مع الأمير “واو”، بشرط واحد: أصرّتْ على أنّ مستقبل علاقتهما ستعتمد كلياً على تصرّفه وعلى موقفه منها.

        ولحسن حظي، سكنَ كلٌّ منهما إلى الآخر.

        لكنّ هذه العلاقةَ بين الأمير “واو” وسالي، وهي جزءٌ من مسألة غسيل المال السعودي، قد خلقت لي مجموعةً من المشاكل. كانت شركة مين تُحرِّم على شركائها القيام بشيءٍ غير شرعي. وكنتُ، من الوجهة القانونية، أُسهِّلُ ممارسةَ الجنس – أُقوِّد – وهو عمل غير مشروع في [ولاية] ماساشوستس. لذلك كانت المشكلةُ الرئيسيةُ في كيف نُغطي خدمات سالي. ولحسن الحظ، كانت الدائرةُ المالية قد منحتني حريةً واسعةً في مصروفي. وإذ كنت كريماً في دفع الإكرامية، استطعتُ إقناع النوادل في بعض مطاعم بوسطن الفخمة بأن يُعطوني وصولاتٍ فارغة. كان ذلك أيام كان البشرُ لا الحواسيبُ من يملأ الوصولات.

        مع مرور الوقت، أصبح الأمير “واو” أكثر صراحة؛ وفي نهاية الأمر طلب مني أن أهيِّئَ لسالي أن تذهب معه لتعيش في كوخه الخاص في السعودية. لم يكن ذلك طلباً غريباً في تلك الأيام؛ فقد كانت هناك تجارةٌ نشطةٌ بالصبايا بين البلدان الأوربية والمشرق. كان هؤلاء النساء يُمنحْنَ عقوداً لمدة من الزمن، وحين ينتهي العقد يَعُدن إلى بلادهنّ بحساب مصرفيٍّ وفير جدا. وفيما يلي ما أجمله حول الموضوع روبرت بير، وهو ضابط أحوال له خبرة عشرين سنة في مديرية العمليات في وكالة الاستخبار المركزية، ومتخصص بشؤون الشرق الأوسط: “في السنين المبكرة من سبعينات القرن العشرين، حين أخذ مالُ النفط يتدفق، بدأ النشطاءُ اللبنانيون يُهرِّبون المومسات إلى المملكة للأمراء…. ولما لم يكن أحد من الأسرة الحاكمة على درايةٍ بموازنة دفتر الشكات، أثرى اللبنانيون بشكل خرافي.”[i]

        كنتُ على علم بهذا الوضع، بل كنت أعرف أناساً يستطيعون ترتيب مثل هذه العقود. إلا أنّ عقبتين رئيسيتين بالنسبة إليّ كانتا هناك: سالي والدفع. كنتُ واثقاً من أنّ سالي لن تترك بوسطن لتعيش في منزل صحراويٍّ في الشرق الأوسط. وكان واضحاً أيضاً أنه ما من عددٍ من الوصولات الخالية يُمكن أن تُغطي هذا المصروف.

        حلّ الأميرُ “واو” المشكلة الأخيرة بأنْ أكّدَ لي أنه سوف يدفع مكافآت عشيقته بنفسه؛ وما عليّ سوى القيام بالترتيبات. كذلك أراحني حين أكّدَ أيضاً أنْ ليس ضروريا أن تكون “سالي السعودية” هي نفسها المرأة التي رافقته في الولايات المتحدة. لذلك هاتفتُ عددا من أصدقائي ممن يعرفون بعض اللبنانيين في لندن وأمستردام، وخلال أسبوعين كانت “سالي” البديلةُ تُوقِّع العقد.

        كان الأميرُ “واو” شخصيةً مُعقَّدة. صحيحٌ أنّ سالي استطاعت إرضاء رغبته الجسدية، وأنّ قدرتي على مساعدته في هذا أكسبتني ثقته، إلا أنّ الأمر لم يُقنعه قطُّ بأنّ “ساما” كانت مخططاً يُمكن قبولُه لبلاده. فكان عليَّ أن أعملَ بجِدٍّ لكسب قضيتي. لذلك أنفقتُ ساعاتٍ طوالاً أُريه الإحصاءاتِ وأُساعدُه في تحليل الدراساتِ التي قمنا بها للدول الأخرى، بما فيها النماذجُ الاقتصادية الرياضية التي أنجزتُها للكويت حين كنتُ أتدرّبُ مع كلودين في تلك الأشهر القليلة قبل توجهي إلى إندونيسيا. لكنّ موقفه أخيراً لان.

        لا أعرف تفاصيلَ ما جرى بين زملائي من القتلة الاقتصاديين وبين الآخرين من اللاعبين السعوديين المهمين. كلُّ ما أعرفُه هو أنّ الأسرة الحاكمة وافقت على الرزمة بكاملها. وقد كوفئتْ شركة مين على الجزء الذي قامت به بمنحها أحد العقود الأولى المربحة جدا بإدارة دائرة الخزينة الأمريكية. وقد انتُدِبْنا للقيام بمسح شاملٍ للنظام الكهربائي الفوضوي القديم، ولتصميم نظام جديد على المعايير المعمول بها في الولايات المتحدة.

        وكالعادة، كانت مهمتي أنْ أُرسلَ الفريق الأول لوضع التنبؤات للاقتصاد وللأحمال الكهربائية في كل منطقةٍ في البلاد. كان ثلاثةُ رجالٍ من موظفي مكتبي – وكلُّهم ذوو خبرةٍ في المشاريع الدولية – يتأهبون للمغادرة إلى الرياض حين جاءنا إشعارٌ من الدائرة القانونية أنّ علينا، حسب شروط العقد، أن يكون لنا مكتبٌ في الرياض مجهّزٌ تماماً وعاملٌ بطاقة كاملة خلال الأسابيع القليلة القادمة. ويبدو أنّنا سهونا عن هذا البند لأكثر من شهر. كذلك اشترطتْ اتفاقيتنا مع دائرة الخزينة أنّ جميع المعدات يجب أنْ تكون مصنوعةً إما في الولايات المتحدة أو في السعودية. ولما كانت السعودية خالية من المصانع التي تنتج مثل تلك المعدات، فلا بد من إرسال كل شيء من الولايات المتحدة. ولكي ينتابنا الغمُّ، اكتشفنا أنّ هناك صفاً طويلا من سفن الشحن تنتظر دورها إلى موانئ شبه الجزيرة العربية. وقد يستغرق الأمر أشهراً طويلة لوصول الشحنة إلى المملكة.

        كادت شركةُ مين تخسر ذلك العقدَ القيِّمَ بسبب أثاث غرفتَيْ مكتب. فلجأنا إلى ساعاتٍ من القدح الفكري في مؤتمر حضره جميع الشركاء المعنيين. وكان الحلُّ الذي اتفقنا عليه أن نستأجر طائرة بُوِنْغ 747 نملأُها بالتجهيزات من مخازن منطقة بوسطن ونرسلُها في رحلة عارضةً إلى السعودية. أذكر أنني فكَّرتُ أنّ من المناسب لو نستأجرُ الطائرة من الخطوط الجوية المتحدة (يُنايتِد)، وأن يقودَها ذلك الطيارُ الذي قامت زوجتُه بدور حساس في استئناس آل سعود.

        ***

        في ليلة وضحاها، عمليا، غيّرتْ الصفقةُ ما بين الولايات المتحدة والسعودية شكل تلك المملكة. فقد حلَّ محِلَّ الماعز مئتا شاحنة لضغط القمامة، أمريكية، صفراء وضاءة، قامت بتزويدها بموجب عقد قيمته 200 مليون دولار شركة إدارة الفضلات.*[ii] وبالطريقة عينها، حُدِّثَ كلُّ قطاع في الاقتصاد السعودي، من الزراعة والطاقة إلى التعليم والاتصالات. وكما قال طومس لِبمَن عام 2003:

        “لقد أعاد الأمريكيون تشكيل منظر واسع كئيبٍ من خيم البدو وأكواخ الفلاحين الطينية، إلى حدِّ وجود مقاهي ستاربَكس في زاوية الشارع وممراتٍ خاصة بالكراسي المتحركة في العمارات العامة الجديدة. والسعودية اليوم دولةٌ ذاتُ طرقٍ سريعةٍ، وحواسيبَ، وأسواقٍ مسقوفةٍ مكيفةِ الهواءِ مملوءةٍ بالدكاكين الجميلةِ الموجودةِ في الضواحي الأمريكية المنعمة، وفنادقَ ممتازةٍ، ومطاعمِ أطعمةٍ سريعة، وتلفزةٍ فضائيةٍ، ومستشفياتٍ حديثةٍ، وأبراجِ مكاتبَ عاليةٍ، وحدائقِ ملاهٍ فيها ركوباتٌ حلزونية.”[iii]

        لقد أوجدتْ الخططُ التي وضعناها عام 1974 معياراً لمفاوضاتنا مع الدول الغنية بالنفط. وبطريقةٍ ما، كانت ساما/جيكور المهبط التالي بعد ذلك الذي أسسه كيرمِت روزفِلت في إيران. وقد جلبتْ مستوىً إبداعيّاً من البراعة إلى مستودع السلاح السياسي-الاقتصادي يستخدمه جيل جديد من الجنود في خدمةِ الإمبراطورية العالمية.

        كذلك أوجدتْ مسألةُ غسيل المال السعودي واللجنةُ المشتركةُ سوابقَ جديدةً في القانون الدولي. كان هذا واضحاً في قضية عيدي أمين. فحين نُفي هذا المستبدُّ اليوغنديُّ سيئُ الصيت عام 1979، مُنِح حقَّ اللجوء في السعودية. وبالرغم من أنه كان يُعتَبَرُ طاغيةً مجرما، مسؤولا عن موتِ ما بين مئة ألفٍ وثلاثمئة ألفٍ من الناس، فقد قضى تقاعده في حياةٍ مرفهةٍ تماما، بسياراتٍ وخدم منزليٍّ قدّمها له آلُ سعود. وإذ اعترضت الولاياتُ المتحدة بهدوءٍ، إلا أنها رفضت أنْ تمارس ضغطاً حول المسألة خوفاً من تخريب ترتيباتها مع السعودية. وقد أمضى عيدي أمين أعوامه الأخيرةَ يصطادُ السمك ويتمشى على الشاطئ. وفي العام 2003، مات في جدة بالفشل الكلوي عن ثمانين عاما.[iv]

        كان الأكثرَ براعةً، والأشدَّ تخريباً في نهاية المطاف، الدورُ الذي سُمح للسعودية بالقيام به في تمويل الإرهاب الدولي. لم تُخفِ الولاياتُ المتحدةُ رغبتها في أن يٌموِّلَ آلُ سعود أسامةَ بنَ لادن في الحرب الأفغانية ضدَّ الاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن العشرين. وقد أسهمت الرياض وواشنطن معا بما يقدّرُ بـ3.5 مليار دولار للمجاهدين.[v] غير أن مشاركة الولايات المتحدة والسعودية ذهبت أبعد بكثير من هذا.

        في العام 2003، أجرتْ صحيفةُ يو إس نيوز آند وورلد ريبورت دراسةً جامعةً بعنوان “العلاقة السعودية”. وقد راجعت المجلةُ آلاف الصفحات من سجلات المحاكم، والتقارير الاستخبارية الأمريكية والأجنبية، وغيرها من الوثائق، وقابلت عشرات المسؤولين الحكوميين وخبراء الإرهاب والشرق الأوسط. وفيما يلي بعض نتائج أبحاثها:

        “كان الدليلُ بحيثُ لا يقبل الجدل: بطريقة ما، أصبحت السعودية، وهي حليفةُ أمريكا لزمن طويل، وأكبرُ منتج للنفط في العالم، “مركز” تمويل الإرهاب، حسب تعبير مسؤول كبير في الخزينة….

        ابتداءً من السنين الأخيرة من ثمانينات القرن العشرين – بعد صدمتَيْ الثورة الإيرانية والحرب السوفييتية في أفغانستان – أصبحت اللجانُ الخيريةُ السعوديةُ شبهُ الرسمية المصدرَ الماليَّ الأولَ لحركات الجهاد التي كانت تنمو بسرعة. كان المالُ يُستخدَمُ في حوالي 20 دولةً لتشغيل معسكرات تدريبٍ شبه عسكرية، ولشراء السلاح وتجنيد الأعضاء الجدد….

        كان السخاءُ السعوديُّ يُشجِّعُ المسؤولين الأمريكيين على غضِّ الطرف، كما يقول بعضُ قدامى ضباط الاستخبار. وقد أُنفقتْ ملياراتُ الدولارات على شكل عقودٍ، وهباتٍ، ورواتبَ دُفعت لطيفٍ عريضٍ من المسؤولين الأمريكيين السابقين الذين تعاملوا مع السعوديين: من سفراء، ومدراء محطاتٍ تابعة لوكالة الاستخبار المركزية، بل حتى لأعضاء في مجلس الوزراء….

        وقد التَقَطَتْ عملياتُ التصنُّت الإلكترونيةُ تورُّطَ أعضاء في الأسرة الحاكمة لا يدعمون القاعدة وحدها، بل مجموعاتٍ إرهابيةً أخرى أيضا.”[vi]

        بعد الاعتداء على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في [أيلول] 2001، ظهر دليلٌ أكبر على العلاقة الخفية بين واشنطن والرياض. وفي تشرين الأول 2003، في تقرير في العمق بعنوان، “إنقاذ السعوديين”، كشفت مجلة فانِتي فير معلوماتٍ لم تُنشر على الملأ من قبل. ولم أُفاجأ أنا بالقصة التي ظهرت عن العلاقة ما بين آل بوش، وآل سعود، وآل ابن لادن. فقد كنتُ أعلمُ أنّ تلك العلاقاتِ تعود على الأقل إلى زمن “مسألة غسيل المال السعودي”، التي بدأت عام 1974، وإلى أيام جورج بوش [الأب] كسفير في الأمم المتحدة (1971-1973)، ثم كمدير لوكالة الاستخبار المركزية (1976- 1977). والذي فاجأني هو أنّ الحقيقة وصلت أخيراً إلى الصحافة. كان ما استنتجته فانِتي فير ما يلي:

        “لآل بوش وآل سعود، أقوى أسرتين حاكمتين في العالم، روابطُ شخصيةٌ وتجاريةٌ وسياسيةٌ حميمةٌ لأكثرَ من 20 عاما….

        ففي القطاع الخاصِّ، دعم السعوديون هاركن للطاقة، وهي شركة يُساهمُ فيها جورج و. بوش [الابن]. أما الرئيس السابق جورج هـ. و. بوش [الأب]، وحليفُه منذ زمن، وزير الخارجية السابق جيمس بيكر، فقد سبقا السعوديين في التبرع لمجموعة كارليل، التي يُعتقَد أنها أكبر شركة مالية خاصة في العالم. واليوم، لا يزال الرئيس السابق بوش [الأب] يعمل بمنصب كبير المستشارين لهذه الشركة….

        قبل [أحداث] التاسع من أيلول، أُخرجَ على وجه السرعة من الولايات المتحدة بعضُ الأثرياء السعوديين على طائرات نفاثةٍ خاصة، وكان منهم أعضاء في أسرة ابن لادن. ليس هناك من يعترف بالسماح للرحلات ولم يُسألُ المسافرون شيئا. فهل ساعدت في ذلك العلاقةُ الطويلةُ لآل بوش مع السعوديين؟”[vii]
        قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

        Comment

        • نجمة الجدي
          مدير متابعة وتنشيط
          • 25-09-2008
          • 5278

          #19
          رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

          الجزء الثالث

          1975-1981



          الفصل السابع عشر



          المفاوضات حول قناة بنما

          وغْراهَم غْرين

          أوجدتْ السعوديةُ مِهَنا كثيرة، أما مهنتي فكانت ماضية قُدُما. لكنّ المؤكَّد أنّ نجاحاتي في تلك المملكة الصحراوية قد فتحت لي أبواباً جديدة. وما إنْ حلّ عام 1977، حتى كنتُ بنيتُ لي إمبراطوريةً صغيرةً تضمُّ من الموظفين حوالي عشرين مهنيا مقرُّهم الرئيسيُّ في مكتبنا في بوسطن، ومجموعةً من المستشارين من الدوائر والمكاتب الأخرى في شركة مين، منتشرين حولَ العالم، كما أصبحتُ أصغر شريك في تاريخ الشركة البالغ مئة سنة. وبالإضافة إلى لقبي ككبير الاقتصاديين، لٌُقِّبْتُ بمدير الاقتصاد والتخطيط الإقليمي. وكنتُ أُحاضرُ في هارفرد وأماكن أخرى، وكانت الجرائدُ تطلبُ مني مقالاتٍ حول الأحداث الراهنة.[i] كذلك كنتُ أملك يختاً شراعياً راسياً في ميناء بوسطن إلى جانب السفينة الحربية التاريخية “كُنْستِتْيوشن”، الملقّبة باسم “أُولد آيرُنْسايْد”، والمشهورة في إخضاعها القراصنةَ البربر بعد الحرب الثورية بمدة قصيرة. كنتُ قبل بلوغي الأربعين أقبضُ راتباً ممتازاً وأملكُ ثروةً واعدةً بوضعي في عداد الندرة من أصحاب الملايين. صحيحٌ أنّ زواجي تداعى؛ لكني كنتُ أقضي وقتي مع نساء جميلات ساحرات في قارات عدة.

          جاء برونو بفكرةٍ لمحاولةٍ مبتكرةٍ في التنبّؤ: نموذجٍ اقتصاديٍّ رياضيٍّ معتمدٍ على كتابات رياضيٍّ روسي ظهر عند انعطاف القرن. ويتضمنُ النموذجُ تخصيصَ احتمالاتٍ ذاتيةٍ للتوقعات بأنّ بعضَ قطاعاتٍ محددةٍ من اقتصادٍ ما سوف تنمو. وقد استطعتُ أنْ أرى أن هذا يُمكنُ أن يكون أداةً مثاليةً لتبرير معدّلات الزيادة المنفوخة التي كنا نحبُّ أن نعرضها للحصول على قروض كبيرة. وقد سألني برونو أن أفكِّر فيما يُمكنني فعلُه بهذه الفكرة.

          جئتُ إلى دائرتي برياضيٍّ شابٍّ من معهد مساشوستس للتقانة (إم.آي.تي)، هو الدكتور ناديبورام بْراساد، ووضعتُ تحت يده ميزانية. فقام، خلال ستة أشهر، بتطوير طريقة ماركوف للنماذج الاقتصادية الرياضية. ثم وضعنا معا سلسلة من الأبحاث الفنية التي عرضت ماركوف كطريقة ثورية للتنبؤ بأثر الاستثمار في البنية التحتية على النمو الاقتصادي.

          كان لنا ما أردنا تماما: أداةٌ “تُثبتُ” علمياً أننا نُسدي خيراً إلى الدول بمساعدتها في طلب القروض التي لن تستطيع سدادها. أضفْ إلى ذلك أنه ما من أحد سوى اقتصاديٍّ رياضيٍّ ماهر يملك الوقت والمال يُمكنه فهمُ خفايا ماركوف المعقدة، أو مساءلةُ استنتاجاتها. وقد نُشرت أوراق البحث من قِبَلِ عدة منظمات محترمة، وقمنا بعرضها رسميا في مؤتمراتٍ وجامعاتٍ في عدد من الدول. فغدت الأوراقُ مشهورةً في نطاق المهنة كلِّها – ونحن معها.[ii]

          التزمنا، عمر توريجُس وأنا، بكتمان اتفاقنا السري. تأكّدتُ من أنْ تكونَ دراساتُنا صادقة ومن أنّ توصياتنا تأخذ الفقراءَ بعين الاعتبار. وبالرغم من أنني كنتُ أسمع بعض الهمهمات من أنّ تنبؤاتنا في بنما لم تكن ملتزمةً بالمعايير المنفوخة المعتادة، بل كانت تشي بالاشتراكية، فالحقيقةُ أنّ شركة مين بقيت تكسب العقود من حكومة توريجُس. وقد تضمنت هذه العقودُ العقد الأول – تقديم خطط رئيسية مبتكرة تشمل الزراعة وقطاعات البنية التحتية الأكثر تقليدياً. كذلك كنتُ أراقبُ من بعيد حين بدأ توريجُس وجيمي كارتر يتفاوضان حول معاهدة القناة.

          أثارتْ مفاوضاتُ القناة اهتماما كبيرا وعواطف جياشةً حول العالم. فقد كان الناس في كل مكان ينتظرون ليروا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفعل ما يعتقد سوادُ الناس في العالم أنه الحق – أي السماح للبنميين بالسيطرة – أو أنها بدل ذلك سوف تُعيد وضعَ “بيان المصير” بصيغةٍ عالمية، وهو الذي هزّه تهافتنا في الفيتنام. وقد بدا للكثرة من الناس أن رجلا معقولا وذا رحمةٍ قد انتُخِب لرئاسة الولايات المتحدة في الوقت المناسب تماما. بيد أن معاقلََ المحافظين في واشنطن ومنابرَ اليمين الديني كانت تصرخُ شاجبة. كيف لنا أن نتخلّى عن هذا الحصن الدفاعي الوطني، عن هذا الرمز الإبداعي الأمريكي، عن هذا الشريط المائي الذي يربط ثروات أمريكا الجنوبية بنزوات المصالح التجارية الأمريكية؟

          في أثناء رحلاتي إلى بنما، كنت معتادا على النزول في فندق كنتننتال. لكنني في زيارتي الخامسة انتقلتُ إلى فندق بنما عبر الشارع بسبب أعمال التجديد في الكنتننتال والضجيج الذي يُحدثُه البناء. وقد انزعجتُ من ذلك التغيير في البداية – لأن الكنتننتال كان بيتي بعيدا عن بيتي. أما الآن فقد بدأتْ تأسرني الردهةُ الفسيحةُ حيث أجلس، بكراسيِّها من الخيرزان ومراوحها الخشبية المعلقة في السقف. وقد تخيلت فيها المشهدَ المُصوّرَ في فِلم الدار البيضاء، وتراءى لي أنّ هَمْفْري بوغَرْت سيدخل الردهة في أية لحظة. وضعتُ جانباً نسخة صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس حيث انتهيتُ للتو من قراءة مقال كتبه غْراهَم غْرين حول بنما، وحدّقت إلى تلك المراوح أتذكّر إحدى الأمسيات قبلَ سنتين تقريبا.

          عام 1975، إذ كان عمر تورجُس يتكلمُ إلى مجموعة من البنميين ذوي النفوذ، قال متنبئاً، “فورد رئيسٌ ضعيفٌ، ولن يُعادَ انتخابُه.” كنتُ يومئذٍ من الأجانب القلة الذين دُعوا إلى ذلك النادي الأنيق ذي المراوح المعلقة في السقف. واستأنف قائلاً، “وهذا هو السبب الذي جعلني أقرِّرُ الإسراعَ في قضية القناة هذه. فقد آن الأوانُ للبدء في معركةٍ سياسيةٍ شاملةٍ لاستردادها.”

          كان خطابُه موحياً لي. فعدتُ إلى غرفتي في الفندق وكتبتُ رسالة أرسلتُها لاحقاً إلى صحيفة بوسطُنْ غْلوب. وحين عُدتُ إلى بوسطن، هاتفني أحدُ المحررين على مكتبي طالباً أنْ أكتب مقالا عموديا. وفي العدد الصادر في 19 أيلول 1975 من تلك الصحيفة، ظهر مقالي “ليس للاستعمار مكانٌ في بنما عام 1975″، مستنفداً حوالي نصف الصفحة المقابلة لمقال المحرر.

          ذكر المقالُ ثلاثةَ أسبابٍ محددةٍ لنقلِ مسؤوليةِ القناةِ إلى بنما. أوَّلُها أنّ “الوضعَ الحاليَّ غيرُ عادل – وهو سببٌ مهمٌّ لأي قرار.” وثانيها أنّ “المعاهدة الحالية تخلقُ مخاطر أمنيةً أسوأ بكثير مما لو نُقلت السيطرة إلى البنميين.” وقد استندتُ كمرجع إلى دراسةٍ وضَعَتْها “مفوضيةُ القناة البحرية”،* التي توصلتْ إلى نتيجةٍ مفادها أنّ “الحركة يمكن إيقافها لسنتين بقنبلة مزروعةٍ – على نحو يُمكن تصوره من قبل رجل واحد – في جانب سدِّ غاتُن”. وهي نقطةٌ أكد عليها الجنرال توريجُس في خطاب أمام الجمهور. وثالثُها أنّ “الوضع الحالي يخلق مشاكل خطيرةً للعلاقات ما بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وهي علاقات مأزومة أصلا.” وخلصتُ إلى ما يلي:

          “إنّ أفضلَ وسيلةٍ لضمان عمل القناةِ باستمرارٍ وكفاءةٍ مساعدةُ البنميين في السيطرة عليها وتحمُّل مسؤوليتها. فإن قمنا بهذا، نكن فخورين بأننا ابتدأنا عملا يؤكد التزامنا بقضية تقرير المصير التي عاهدنا أنفسنا عليها قبل 200 عام. …

          كان الاستعمارُ أمرا دارجا عند انعطاف القرن (بداية القرن العشرين) كما كان عام 1775. ولعل إقرار مثل هذه المعاهدة يُمكنُ فهمُه في سياق تلك الأزمان. أما اليوم فلا مبرر لها، ولا مكان للاستعمار عام 1975. وإذ نحتفلُ بمئويتنا الثانية، يجب أن نُدرك هذا الأمر ونتصرف بموجبه.”[iii]

          كانت كتابةُ ذلك المقال خطوةً جريئة من جانبي، خاصّةً أنني قُبلتُ شريكاً في شركة مين، حيث يُتَوَقَّعُ من الشركاء أنْ يتجنبوا الصحافة، وبالتأكيد أن يمتنعوا عن نشر مقالات سياسية ناقدة في صفحات تحرير أكثر الجرائد احتراماً في نيو إنكلاند. وقد استلمتُ من خلال البريد المكتبي كمّاً هائلاً من الملاحظات البذيئة المشبوكة إلى نسخٍ من المقال، معظمها بلا توقيع. بيد أني كنتُ واثقاً من أنني تعرّفتُ على خطِّ أحدهم، هو شارلي إلِنغْويرث، مديرُ أول مشروعٍ لي في شركة مين، الذي مضى عليه أكثرُ من عشر سنواتٍ (مقارنةً بأقلَّ من خمسٍ لي) ولم يُصبحْ بعدُ شريكا. كان على ورقة الملاحظة صورة جمجمةٍ وحشيةٍ وعظمتين متصالبتين، وكانت رسالتُها بسيطة: “أحقّاً أنّ هذا الشيوعيَّ شريكٌ في شركتنا؟”

          استدعاني برونو إلى مكتبه وقال، “لسوف تتلقي سيلاً من الاستهجان على هذا، فشركة مين محافظة إلى حدِّ كبير. لكنني أعتقد أنك بارع. توريجُس سيُحبُّها؛ وآملُ أنْ ترسل له نسخة منها. عظيم. أما هؤلاء المهرِّجون هنا في هذا المكتب، الذين يظنُّون توريجُس اشتراكيا، فلن يهتموا بالأمر ما دام العمل جاريا في مجراه.”

          كان برونو محقّاً – كالعادة. كان الزمنُ عام 1977، وقد احتلّ كارتر البيت الأبيض، والمفاوضاتُ الجديةُ حول القناة جارية. وكان الكثرةُ من منافسي شركة مين قد التزموا الجانبَ الخاطئ فاُخرجوا من بنما، بينما تضاعفت أعمالنا. كنتُ جالساً في ردهة فندق بنما، وقد انتهيتُ للتوِّ من قراءة مقال كتبه غْراهَم غْرين في صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس.

          كان المقالُ، “الدولةُ ذاتُ الحدودِ الخمسة”، قطعةً جريئةً تضمنتْ نقاشاً للفساد بين كبار الضباط في الحرس الوطني في بنما. وقد أشار الكاتبُ إلى أنّ الجنرال نفسه اعترف بمنحه الكثيرين من أركانه مزايا خاصّةً، كالمساكن الفخمة، لأنه “إنْ لم أدفعْ لهم أنا، فستقوم بذلك وكالة الاستخبار المركزية.” والإشارة واضحة في أنّ الاستخبارات الأمريكية كانت مصممةً على تقويض رغبات الرئيس كارتر، ومستعدةً، إنْ تطلّب الأمر، لرشوةِ القادة العسكريين البنميين لكي يُخرِّبوا مفاوضات المعاهدة.[iv] لم أستطع أن أصرف عن بالي ما إذا كانت الواوياتُ قد بدأت فعلاً تُحاصر توريجُس.

          كنتُ رأيتُ صورةً في صفحة “الناس” في مجلة تايم أو مجلة نيوزويك لتوريجُس وغْرين جالسَيْن معا. وقد أشار التعليقُ إلى أنّ الكاتب كان ضيفاً خاصّاً وبات صديقا. تساءلتُ عن شعور الجنرال تجاه هذا الروائيِّ، الذي يبدو أنه يثق به، وقد كتب مثل هذا الانتقاد.

          أثار مقالُ غْراهَم غْرين تساؤلا آخر ذا علاقةٍ بذلك اليوم من سنة 1972 حين جلستُ إلى طاولة القهوة مع توريجُس. في ذلك الوقتُ، افترضتُ أن توريجُس كان مدركاً أنّ الغايةَ من لعبة المساعدات الخارجية أنْ تجعله ثرياً بينما تَغُلُّ بالدَّيْن بلادَه. كنتُ واثقاً من أنّ العملية تستند إلى افتراض أنّ لدى رجال السلطة قابليةً للإفساد، وأن قراره ألا يبحثَ عن منفعة شخصيةٍ – بل أن يستخدم المساعدة الخارجية لنفع شعبه – سوف يُعتبرُ تهديداً قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالنظام برمته. كان العالمُ يُراقبُ هذا الرجل؛ فقد كانت لتصرفاته عواقبُ جازت بنما بعيدا، ولهذا لن يُستَخَفَّ به.

          تساءلتُ كيف يكون ردُّ فعل سلطة الشركات إذا ساعدت القروضُ الممنوحة لبنما الفقراءَ ولم تُسهمَْ في تراكم الديون المستحيلة. والآن أتساءل إن كان توريجُس ندم على الصفقة التي اتفقنا عليها هو وأنا في ذلك اليوم – ولم أكن متأكداً من شعوري أنا تجاه تلك الصفقات. فقد تراجعتُ عن دوري كقاتل اقتصادي، ولعبتُ لعبتَه هو لا لعبتي أنا، متقبِّلا إصراره على الأمانة مقابل الحصول على مزيدٍ من العقود. كان هذا، من وجهة نظرٍ اقتصاديةٍ محضة، قراراً تجارياً حكيماً لشركة مين. بالرغم من هذا، فإنه لم يكنْ متماهياً مع ما غرسته كلودين في نفسي، إذ لم يكن يُسهمُ في تقدم الإمبراطورية العالمية. فهل أُطلِقَ العِنانُ الآن لبنات آوى؟

          تذكّرتُ أنه عنّ ببالي حين غادرتُ منزل توريجُس في ذلك اليوم بأن تاريخ أمريكا اللاتينية مليءٌ بالأبطال القتلى. فالنظامُ القائمُ على إفساد الشخصيات العامة لا يرأفُ بالشخصيات التي ترفض الفساد.

          ظننتُ أن عينيَّ تخادعانني حين مرّ شخصٌ مألوفُ الوجه يمشى بطيئاً في الردهة. فللوهلة الأولى تشوّش ذهني إذ خِلتُه هَمْفْري بوغَرْت. لكنّ بوغَرْت قضى نحبه منذ زمن بعيد. ثم عرفتُ الرجل الذي مرّ بي على مهل. إنه أحد أركان الأدب الإنكليزي الحديث، مؤلف السلطة والمجد، الممثلون الهزليون، رجلنا في هافانا،* بالإضافة إلى ذلك المقال الذي وضعته إلى جانبي على المائدة. إنه غْراهَم غْرين، وقد تردد قليلا ناظرا حوله، ثم مضى قُدُماً نحو المقهى.

          انتابني دافعٌ أن أناديه أو أن ألحق به؛ لكنني لم أفعل. فقد شعرتُ بصوتٍ في داخلي يقول إنه في حاجةٍ إلى أن يصفو لنفسه، وبصوتٍ آخر يقول إنه سيُشيحُ بوجهه عني. حملتُ صحيفة نيويوركرِفيو أُف بُكس وفوجئتُ بعد لحظةٍ أنْ وجدتُني أقفُ في مدخل المقهى.

          كنتُ قد تناولتُ فطوري في ساعةٍ مبكرةٍ من ذلك الصباح، فنظر لي كبير النوادل نظرة مستغربة. أجلتُ بصري ورأيتُ غْراهَم غْرين يجلسُ وحده إلى مائدة بالقرب من الحائط.

          أشرتُ إلى المائدة المجاورة له، وقلتُ للنادل، “هناك، أودُّ أنْ أتناول فطوراً ثانياً هناك.” كنتُ دائما كريماً في دفع الإكراميات، فابتسم لي النادل وقادني إلى تلك المائدة.

          كان الروائيُّ مستغرقاً في قراءة جريدته، أما أنا فطلبتُ قهوةً وهلاليةً بالعسل. كنتُ أودُّ أنْ أكتشف أفكار غْرين عن بنما، وعن توريجُس، وعن مسألة القناة، لكنني لم أجد وسيلةً للبدء في مثل هذه المحادثة. ثم رفع نظره ليرتشف رشفةً من كأسه، فبادرتُه بالقول، “أرجو المعذرة.”

          حملق بي – أو هكذا بدا لي. وقال، “نعم؟”

          “أكره أن أتطفّل. أظنُّك غْراهَم غْرين، ألست هو؟”

          “بلى، أنا هو حقا.” وابتسم بحرارة مضيفاً، “معظمُ الناس في بنما لا يُميِّزونني.”

          واسترسلتُ في القول إنه الروائيُّ المفضّلُ عندي، ثم أجملتُ له تاريخ حياتي، بما في ذلك عملي مع شركة مين واجتماعاتي بتوريجُس. فسألني إنْ كنتُ المستشار الذي كتب مقالا عن خروج الولايات المتحدة من بنما. “في بوسطن غلوب، إنْ لم تخنّي الذاكرة.”

          شعرتُ بالإطراء.

          فقال، “جريءٌ منك ما فعلتَ، خاصّةً بالنظر إلى منصبك. لمَ لا تجلس معي؟”

          انتقلتُ إلى مائدته وجلستُ معه زهاءَ ساعة ونصف الساعة. فتبيّن لي من دردشتنا سويّاً مدى قربه من توريجُس، إذ أحياناً ما كان يتكلّمُ عن الجنرال كأبٍ عن ولده.

          قال، “دعاني الجنرالُ إلى كتابة كتابٍ عن بلده، وهذا بالضبط ما أفعل. لن يكون قصّاً خياليا – سيكون خارج نطاق ما أكتب في العادة.”

          سألتُه عن سبب كتابته الرواية بدل الكتابة الواقعية، فقال، “الرواية الخيالية أسلم. فمعظم موضوعاتي مثيرةٌ للجدل. فيتنام. هاييتي. الثورة المكسيكية. والكثرةُ من الناشرين يخشَوْنَ نشرَ الكتابة الواقعية حول هذه الأمور.” ثم أشار إلى صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس حيث كانت ملقاةً على المائدة التي أخليت، وقال، “مثلُ هذه الكلماتِ يُمكنُ أنْ تُخرِّبَ كثيراً.” ثم ابتسم وأضاف، “أنا أيضاً أُحبُّ كتابةَ القصّ الخياليّ، فهي تمنحني حرية أوسع بكثير.” ثم نظر لي بتأمُّل، وأضاف، “المهمُّ أنْ تكتبَ عن أشياء مهمّة، مثل مقالك عن القناة في بوسطن غلوب.”

          كان إعجابُه بتوريجُس واضحاً. وقد بدا أنّ باستطاعة رئيس دولة بنما أنْ يُثير إعجابَ روائيٍّ بقدر ما يُثير إعجاب الفقراء والمحرومين. وكان واضحاً أيضاً خوفُ غْرين على حياة صديقه.

          قال، “إنه لمسعىً ضخمٌ أنْ تُنافسَ ذلك العملاق في الشمال.” وهزّ رأسَه آسفاً، ثم قال، “أخافُ على سلامته.”

          وإذ أزف وقتُ مغادرته، وقف ببطءٍ وصافحني قائلا، “عليّ أن ألحقَ بالطائرة إلى فرنسا.” ثم حدّق إلى عينيّ وقال، “لمَ لا تكتبُ كتابا؟” وأومأ لي إيماءةً مُشجّعة قائلاً، “إنه في نفسك. ولكنْ تذكّرْ أنْ تجعله عن أشياء مهمة.” ثم استدار ومضى في سبيله، لكنه وقف وعاد بضع خطواتٍ إلى المطعم، وقال، “لا تقلق. سوف ينتصرُ الجنرال. سوف يستعيدُ القناة.”

          بلى، لقد استعادها توريجُس. ففي ذلك العام، 1977، نجح في تفاوضه حول معاهدةٍ جديدة مع الرئيس كارتر انتقلت بموجبها منطقةُ القناة والقناةُ ذاتُها إلى السيادة البنمية. وكان على البيت الأبيض أنْ يُقنع الكنغرس بالتصديق عليها، مما أثار معركة طويلةً شاقّة. وفي نهاية الأمر فاز التصديق على المعاهدة بصوتٍ واحدٍ أحد. غير أن المحافظين أقسموا على الانتقام.

          حين ظهر كتاب غْراهَم غْرين، الوصول إلى معرفة الجنرال،* بعد عدة سنوات، كان الإهداءُ “إلى أصدقاء صديقي، عمر توريجُس، في نيكاراغوا والسلفادور وبنما.”[v]




          [1] منذ مظاهرات إسقاط حلف يغداد 1954 كان أوسع معتقل هو أل إتش 4 الذي اسسه الاستعمار البريطاني، ثم جاءت حملة 1965.

          * Interoceanic Canal Commission

          * The Power and the Glory, The Comedians, Our Man in Havana.

          * Getting to Know the General


          [i] راجع على سبيل الامثال:

          John M. Perkins, “Colonialism in Panama Has No Place in 1975,” Boston Evening Globe, Op-Ed page, September 19, 1975; John M. Perkins, “US-Brazil Pact Upsets Ecuador,” The Boston Globe, Op-Ed page, May 10, 1976.

          [ii] للاطلاع على أـمثلة حول الأوراق التي كتبها جون بيركنز في مجلات تقنية، راجع:

          John M. Perkins et al, “A Markov Process Applied to Forecasting, Part I-Economic Development” and “A Markov Process Applied to Forecasting, Part II-The Demand for Electricity,” The Institute of Electrical and Electronics Engineers, Conference Papers C 73 475-1 (July 1973) and C 74 146-7 (January 1974), respectively; John M. Perkins and Nadipuram R. Prasad, “A Model for Describing Direct and Indirect Interrelationships Between the Economy and the Environment,” Consulting Engineer, April 1973; Edwin Vennard, John M. Perkins, and Robert C. Ender, “Electric Demand from Interconnected Systems,” TAPPI Journal (Technical Association of the Pulp and Paper Industry), 28th Conference Edition, 1974; John M. Perkins et al., “Iranian Steel: Implications for the Economy and the Demand for Electricity” and “Markov Method Applied to Planning,” presented at the Forth Iranian Conference on Engineering, Pahlavi University, Shiraz, Iran, May 12-16, 1974; and Economic Theories and Applications: A Collection of Technical Papers, with a foreword by John M. Perkins (Boston: Chas. T. Main, Inc. 1975)

          [iii] John M. Perkins, “Colonialism in Panama Has No Place in 1975,” Boston Evening Globe, Op-Ed page, September 19, 1975.

          [iv] Graham Green, Getting to Know the General (New York, Pocket Books, 1984), pp 89-90

          [v] Green, ibid.
          قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

          Comment

          • نجمة الجدي
            مدير متابعة وتنشيط
            • 25-09-2008
            • 5278

            #20
            رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

            الفصل الثامن عشر

            شاهنشاه إيران



            كثيراً ما كنتُ أزورُ إيران ما بين الأعوام 1975 و1978. وأحيانا كنتُ أتنقّل بين أمريكا اللاتينية وإندونيسيا وطهران. أما الشاهنشاه (أي ملك الملوك، حسب لقبه الرسمي) فقد كان ذا وضعٍ مختلفٍ تماماً عما هو حالُ البلدان التي عملنا فيها.

            كانت إيرانُ غنيةً بالنفط؛ وكحال السعودية، لم تكن في حاجةٍ إلى الاقتراض لتمويل قائمة مشاريعها الطموح. بيد أنّها تختلفُ اختلافاً بيِّناً عن السعودية في أنّ سكانها العديدين ليسوا عربا، وإن كانوا مسلمين مشرقيين. أضفْ إلى ذلك أنّ لتلك الدولة تاريخاً من الاضطراب السياسي – أكان داخلياً أم في علاقاتها بجيرانها. بناءً على ذلك اتخذنا إزاءها مدخلا مختلفا: تضافرت جهود واشنطن ومجموعةِ الأعمال على جعل الشاه رمزاً للتقدم.

            قمنا بجهد هائل لنُريَ العالم ما يستطيعُ إنجازَه صديقٌ قويٌّ وديمقراطيٌّ للشركات والمصالح السياسية الأمريكية. وبغضِّ النظر عن لقبه الذي يشي بالبعدِ عن الديمقراطية، وعن الحقيقة الأقلِّ وضوحاً في الانقلاب الذي رتبته وكالة الاستخبار المركزية على رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا، فإن واشنطن وشركاءها الأوربيين كانوا مصممين على تقديم حكومة الشاه كبديلة لحكومات العراق، وليبيا، والصين، وكوريا، وغيرها، حيث يطفو على السطح تيارٌ داخليٌّ قويٌّ مضادٌّ للأمركة.

            كان الشاهُ في الظاهر صديقاً تقدميا للمحرومين. ففي عام 1962، أمرَ بتجزئة ملكيات عقارية كبيرة خاصّةٍ ومنحِها للفلاحين. وفي السنة التالية قام بتدشين ثورته البيضاء التي كانت تنطوي على برنامجٍٍ واسع للإصلاح الاجتماعي الاقتصادي. وخلال سبعينات القرن العشرين، نمت قوة أوبك وأصبح الشاهُ قائدا عالمياً ذا تأثير متزايد. وفي الوقت نفسه، طوّرت إيرانُ إحدى أقوى القوات العسكرية في العالم الإسلامي والشرق الأوسط.[i]

            كانت شركة مين مشترِكةً في مشاريعَ تغطي معظمَ أرجاء البلاد، من مناطق السياحة في بحر قزوينَ في الشمال، إلى المنشآت العسكرية السرية المطلة على مضيق هرمز في الجنوب. ومرةً أخرى، كان عملنا يركز على التنبؤ بالإمكانيات التنموية الإقليمية، ومن ثم على تصميم أنظمة التوليد الكهربائي والإرسال والتوزيع التي تزوِّد الطاقة المهمة المطلوبة لدعم النمو الصناعي والتجاري الذي من شأنه أنْ يُحقق هذه التنبؤات.

            بين وقت وآخر، قمتُ بزيارة معظم مناطق إيران، مُتتَبِّعاً خطَّ القوافل القديم عبر الجبال الصحراوية، من كِرمان إلى بندر عباس، وتجوّلتُ في آثار بِرِسبولِس، المكان الأسطوري للملوك الأقدمين وإحدى عجائب العالم القديم. وقمتُ بالسياحة في معظم المواقع الجميلة في البلاد: شيراز، وأصفهان، ومدينة الخِيام الرائعة بالقرب من بِرِسبولِس، حيث تُوِّجَ الشاة. وبهذا عشقتُ تلك البلادَ وخليطَ أهلها عشقاً خالصاً.

            ظاهرياً، كانت إيرانُ تبدو نموذجاً للتعاون المسيحي-الإسلامي. غير أني علمتُ أن المظاهر الهادئة قد تُخفي حقدا دفينا.

            ذات مساءٍ عامَ 1977، عدتُ متأخراً إلى غرفتي في الفندق لأجد قُصاصة ورق مدسوسةً تحت الباب. فصُدمتُ إذ اكتشفتُ أنها موقَّعةً من قِبَلِ رجل اسمُه يامين. لم ألتق به من قبل، ولكنه كان قد وُصِفَ لي في إيجازٍ حكوميٍّ بأنه أصوليٌّ مشهورٌ ومُخرِّبٌ كبير. وفي القصاصة المكتوبة بلغة إنكليزية جميلة، كان يدعوني للاجتماع به في مطعم مُعيّن. غير أنه وضعَ تحذيراً: ألا أجيء إلا إنْ كنتُ مهتما في استكشاف جانبٍ من إيرانَ لم يره قطُّ معظمُ من هم “في منصبي”. تساءلتُ ما إذا كان يامين يعرف طبيعةَ منصبي الحقيقية، وتبيّن لي أنني مقدمٌ على مخاطرة كبيرة. بيدَ أني لم أستطع مقاومة الإغراء لمقابلة هذه الشخصية الغامضة.

            أنزلتني سيارةُ الأجرة أمام بوابةٍ صغيرةٍ جداً في حائط عال – عالٍ إلى درجة أنني لم أستطع أنْ أرى العمارة المنتصبة خلفه. استقبلتني امرأةٌ إيرانيةٌ جميلةٌ وقادتني عبر ممرٍّ مضاءٍ بمصابيحِ زيتٍ مزخرفةٍ متدلِّيَةٍ من سقفٍ منخفض. في نهاية الممرِّ دخلنا غرفةً كانت متألِّقةً كأنها جوفُ قطعةٍ من الماس بهرت عيني بإشعاعها. وحين تكيّفتْ عيني مع الجوّ، رأيتُ الجدران مرصعةً بالصدف وأحجارٍ شبه كريمة. كان المطعمُ مُضاءً بشمعتين طويلتين ناتئتين من شمعدانين من البرنز منحوتين بدقة بالغة.

            تقدم مني رجلٌ طويلٌ ذو شعر أسودَ، يلبسُ بذلةً كُحلية اللون، وصافحني، مُعرِّفاً نفسه بأنه يامين، وتكلّم بلهجةٍ تنمُّ على أنه إيرانيٌّ تعلم في مدرسة ذات نظام بريطانيّ. وقد هالني أنه لم يبدُ لي أصوليا مُخرِّبا. ثم وجّهني صوب مختلىً خاصٍّ، بعد أنْ مررنا بعدة موائد يتناولُ عليها بعضُ الأزواج طعامَهم بهدوء، وأكد لي أننا نستطيع أنْ نتكلم هناك بسرية تامة. أخذتُ انطباعا واضحاً أن هذا المطعم يُهيّئُ للمواعيد السرية؛ ولعلَّ موعدنا في تلك الليلة كان الوحيد غير الغرامي.

            كان يامين ودودا جدا. ومن حديثنا معا، بدا واضحاً أنه يظنني مجرد مستشار اقتصاديٍّ، لا رجلاً ذا دوافع خفية. وقد شرح لي أنه اصطفاني لعلمه أنني كنت متطوعا في فرقة السلام، وأنني كنتُ أغتنم كل فرصةٍ ممكنة لمعرفة بلاده وللاختلاط بأهلها.

            قال لي، “مقارنةً بمعظم من هم في مهنتك، أنت صغيرٌ جدا ولديك اهتمامٌ حقيقيٌّ بتاريخنا ومشاكلنا الحاضرة. إنك تمثل أملنا.”

            شعرتُ بالارتياح بسبب هذا الأمر، والجوِّ الذي نحن فيه، وهيئةِ يامين، ووجودِ كثيرين غيرنا في المطعم. وكنتُ معتاداً على أناس يمنحونني صداقتَهم، مثل راسي في جاوة، وفِدِل في بنما، متقبِّلا ذلك باعتباره إطراءً وفرصة. كنتُ أعلمُ أنني، بسبب وقوعي في هوى الأماكن التي زرتُها، أختلفُ عن الأمريكيين الآخرين. وقد وجدتُ أن الناس يألفونك بسرعة إذا فتحتَ لثقافتهم عينيكَ وأذنيكَ وقلبَك.

            سألني يامينُ إنْ كنتُ أعلم عن مشروع “الصحراء المُزهرة”،[ii] قائلا، “يعتقد الشاهُ أن صحارينا كانت يوما سهولا خصبةً وغاباتٍ خضراء. هذا، على الأقل، ما يزعمُه. في أثناء حكم الإسكندر الأكبر، حسب هذه القصة، كانت الجيوش الجرارةُ تزحف عبر هذه الأراضي، وتسوقُ معها الملايينَ من الأغنام. وقد التهمتْ هذه الحيواناتُ العشبَ برمته وكلَّ ما عداه من خضرة، فسبَّبَ اختفاءُ هذه النباتات جفافاً. وفي نهاية المطاف تحوّلت المنطقة بكاملها إلى صحراء. والآن، كلُّ ما علينا فعلُه، أو هكذا يقول الشاه، أنْ نزرع الملايين من الأشجار. بعد ذلك سوف تعود الأمطار سريعاً وتُزهرُ الصحراء مرةً أخرى. وفي هذه العملية، طبعاً، علينا أنْ ننفق ملايين الدولارات.” ثم ابتسم بلطفٍ وأضاف، “وسوف تجني أمثالُ شركتك أرباحاً طائلة.”

            قلت، “أفهم أنك لا تؤمنُ بهذه النظرية.”

            “الصحراءُ رمز. وتخضيرُها أبعدُ مدىً من الزراعة.”

            كان عددٌ من النوادل يأتوننا بصَوانٍ من الطعام الإيراني مُقدَّماً بطريقةٍ جميلة. استأذن مني يامين، ثمّ أخذَ ينتقي تشكيلةً من مختلف الصواني قبل أنْ يعود إلى حديثنا.

            “عندي سؤالٌ لك، يا سيد بيركنز، إن جاز لي أن أكون صريحا. ما الذي دمّر ثقافة أهل بلادكم الأصليين، أعني الهنود [الحمر]؟”

            أجبته باعتقادي أنّ ثمة عوامل كثيرة، منها الطمعُ وتفوُّقُ السلاح.

            “نعم، كلُّ هذا صحيح. ولكنْ، أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر، ألم يؤدِّ ذلك إلى تدمير البيئة؟” ومضى يُفسِّرُ أنه ما أنْ تُدمَّرَ الغاباتُ والحيواناتُ، كالجواميس، وينتقلَ الناسُ إلى المحمياتٍ، فلا مناصَ لأسس الثقافاتِ من الانهيار.”

            “ألا ترى؟ إنّ الحالَ هو ذاتُه هنا. فالصحراءُ بيئتنا، ومشروعُ “الصحراء المُزهرة” يُهدِّدُ نسيجَنا [الاجتماعيَّ] كلَّه في الصميم. فكيف لنا أنْ نسمح به؟”

            أخبرتُه أنني فهمتُ أنّ فكرةَ المشروع كلَّها جاءت من الشعب. فأجاب بضحكة ساخرة وقال إن الفكرة زُرِعت في ذهن الشاه من قِبَلِ حكومة الولايات المتحدة، وما الشاهُ إلا أُلعوبةٌ في يد تلك الحكومة.

            ثم قال، “لا يقبلُ إيرانيٌّ أصيلٌ مثلَ هذا أبدا.” ثم شرع في حديثٍ مُطوّلٍ عن العلاقة ما بين أهله – البدو – والصحراء. وشدّد على حقيقة أنّ الكثرةَ من الإيرانيين يقضون عُطلهم في الصحراء، حيثُ يبتنون خياماً كبيرة تسعُ الأسرةَ جميعها، ويقضون فيها أسبوعاً أو أكثر.

            “نحن – أعني شعبنا – جزءٌ من الصحراء. والشعبُ الذي يزعمُ الشاهُ حُكمَه بيده الحديدية ليس من الصحراء، حسب، بل نحن الصحراء بعينها.”

            بعد ذلك قصَّ عليَّ قصصاً عن خبرته الشخصية في الصحراء. وحين انتهت أمسيتُنا، مشى معي إلى ذلك الباب الصغير في الحائط الكبير، حيث كانت سيارةُ الأجرةِ تنتظرني في الشارع. صافحني يامين وأبدى تقديره للوقت الذي قضيتُه معه، ذاكراً مرةً أخرى صغرَ سني وانفتاحي، وحقيقةَ أنّ تبوئي مثلَ هذا المنصبِ قد أعطاه أملاً للمستقبل.

            قال، ولا يزالُ يُمسكُ يدي بيده، “أنا سعيدٌ جداً لقضاء هذا الوقتِ مع رجلٍ مثلك. أودُّ أن أطلبَ منك معروفاً آخر. لا أطلبُه استخفافا، بل لعلمي، بعد الوقت الذي قضيناه معا هذا المساء، أنه سيكون ذا معنىً لك. سوف تغنم كثيرا منه.”

            “ما الذي أستطيعُ فعله لك؟”

            “أودُّ أنْ أُقدِّمَكَ لصديق عزيز عليّ، رجلٍ يستطيعُ أنْ يُخبرَك الكثيرَ عن الشاهنشاه الذي يحكمنا. قد يُشكِّلُ ذلك صدمةً لك، لكنني أؤكد لك أنّ الاجتماع به يستحقُّ وقتَك.”




            [i] William Shawcross, The Shah’s Last Ride: The Fate of an Ally (New York: Simon and Schuster, 1988). For more about the Shah’s rise to power, see H.D.S. Greenway, “The Iran Conspiracy,” New York Review of Books, September 23, 2003; Stephen Kinzer, All the Shah’s Men: An American Coup and the Roots of Middle East Terror (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons, Inc., 2003)

            [ii] لقراءة المزيد حول يامين، ومشروع الصحراء المزهرة، وإيران، راجع:

            John Perkins, Shapeshifting (Rocheter, VT: Destiny Books, 1997)
            قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

            Comment

            • نجمة الجدي
              مدير متابعة وتنشيط
              • 25-09-2008
              • 5278

              #21
              رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

              **



              الفصل التاسع عشر



              اعترافاتُ رجل تعرّضَ للتعذيب

              بعد عدة أيام، أخذني يامينُ خارج طهران، عبر بلدةٍ غبراءَ ذاتِ أكواخ فقيرة، وطريق قديمة للجِمال أفضتْ بنا إلى الصحراء. كانت الشمسُ تغربُ خلف البلدة حين أوقف سيارته عند بعض أكواخ من اللَّبن والطين، تحفُّها أشجار النخيل.

              قال يامينُ، “هذه واحةٌ قديمةٌ جدا، يعود تاريخُها إلى قرونٍ قبل ماركو بولو.” ثم تقدّم صوبَ أحد الأكواخ، واستأنف قوله، “الرجلُ في الداخل يحمل الدكتوراه من إحدى أهمِّ جامعاتكم. ولأسبابٍ سوف تتضحُ لك قريباً يجبُ أنْ أكتمَ عنك اسمَه. تستطيعُ أن تسميه (دُك).”

              قرع البابَ الخشبيَّ، فجاءه ردٌّ مخنوق. دفع يامينُ البابَ وقادني إلى الداخل. كانت الحجرةُ من غير نوافذَ ومضاءةً بسراج زيتيٍّ موضوع على طاولةٍ قصيرةٍ في إحدى الزوايا. حين تكيّفتْ عيناي مع الجوِّ، رأيتُ أنّ الأرضيةَ الترابيةَ مغطّاةٌ بسجادٍ عجميّ. ثم أخذتْ تظهرُ في العتمة هيئةُ رجل يجلسُ أمام السراج بطريقةٍ أخفتْ معالمه. استطعتُ أن أرى أنه ملفوفٌ ببعض البطانياتٍ، ويلبسُ شيئاً حول رأسه، ويجلسُ في كرسيٍّ متحرِّكٍ كان، هو والطاولة، كلَّ ما في الغرفةِ من أثاث. أشار لي يامينُ أنْ أجلسَ على السجادة، ومضى يحتضنُ الرجلَ بلطف، ويهمسُ بعض كلماتٍ في أذنه. ثم عاد ليجلس إلى جانبي.

              قالَ يامين، “أخبرتُك، سيِّدي، عن السيد بيركنز. نحن كلانا نتشرفُ بأخذِ هذه الفرصةِ لزيارتك.”

              “أهلا بك، يا سيد بيركنز.” كان الصوتُ خفيضاً خشناً، ولا يكادُ المرءُ يتبيّنُ فيه أية لهجة.” وجدتُني أنحني إلى الأمام في الفراغ الضيِّقِ بيننا حين قال، “ترى أمامك رجلا مُحطَّما. لم أكنْ هكذا من قبل. كنتُ ذاتَ يومٍ مثلك قويا. كنتُ مستشاراً للشاه، قريباً منه، وموضعَ ثقته.” ثم سكتَ طويلا قبل أن يقول، “شاهنشاه، ملك الملوك.” كانت نبرتُه، على ما ظننتُ، أكثرَ حزنا منها غضبا.

              “أنا، شخصياً، عرفتُ الكثيرين من قادة العالم. آيزِنهَوَر، نِكْسُنْ، ديغول. كانوا يثقون بي للمساعدة في قيادة هذه البلاد إلى المعسكر الرأسمالي. وكان الشاهُ أيضاً يثقُ بي.” ثمّ أخرج صوتاً كأنه سعال، لكني اعتقدتُ أنه صوتُ ضحكة. “كنتُ من جانبي أثقُ بالشاه. صدّقتُ كلامَه الخطابي. كنتُ واثقاً من أنّ إيرانَ ستقودُ العالمَ الإسلاميَّ إلى عصر جديد وأنّ بلاد فارسَ ستفي بوعدها. بدا ذلك مصيرنا – مصيرَ الشاه، مصيري، مصيرَنا كلِّنا، نحن الذين كنا نحمل الرسالة التي ظننا أننا وُلدنا للوفاء بها.”

              تحركتْ كتلةُ السجاد إذ انعطف الكرسيُّ المتحرِّكُ قليلا، مُصدراً صوتَ أزيز، فاستطعتُ أن أرى الشكل الجانبيَّ لوجه ذلك الرجل ولحيتَه الكثة. ثم ارتعدتُ كاتما لهاث الدهشة – لم يكنْ للرجل أنف.

              “ليس بالمنظر الجميل. أهذا ما تقولُه، يا سيد بيركنز؟ مؤسف جداً ألا تراه في الضوء الساطع. إنه حقاً مُنفِّر.” مرة أخرى كان هناك صوتُ ضحكة مخنوقة. “لكنني متأكِّدٌ من أنك تقدِّرُ أنّ عليّ ألا أبوحَ باسمي. من المؤكَّد أنك تستطيعُ أن تعرف من أنا إنْ أنتَ حاولت، بالرغم من أنك قد تكتشفُ أنني ميت. فأنا، رسميا، غير موجود. لكنني واثقٌ منْ أنك لن تحاول. فالأفضلُ لك ولأسرتك ألا تعرفَ مَن أنا، لأنّ ذراعَ الشاه والسافاك طويلة.”

              أزّ الكرسيُّ وعاد إلى موضعه الأول، فشعرتُ بارتياح، وكأنّ عدمَ رؤيةِ جانبِ الرجل يمحو بطريقةٍ ما ذلك العنفَ الذي مورس عليه. في ذلك الوقت، لم أكن أعلمُ بهذه العادة في الثقافات الإسلامية. فمن يجلبْ الخزيَ والعارَ للمجتمع أو لقادته، يُجدعْ أنفُه تعزيرا. فبهذه الطريقة يحملُ المتهمُ وصمةً مدى حياته – وهو ما أفشاهُ وجهُ هذا الرجل بوضوح.

              “أنا مُتأكِّدٌ، يا سيّد بيركنز، من أنك تتساءلُ لماذا دعوناك إلى هنا.” وبدون انتظار جوابي، استأنف الرجل المُقعَدُ قائلا، “هذا الرجلُ الذي يُسمي نفسَه ملكَ الملوكِ إنما هو حقيقةً من فعل الشيطان. أُقصيَ أبوه عن العرش من قِبَلِ وكالة الاستخبار المركزية – وللأسف الشديد – بمساعدتي، لأنه اتُهم بالتعاون مع النازيين. بعد ذلك كانت نكبةُ مُصدَّق. والشاهُ اليوم في طريقه إلى بذِّ هتلر في ميدان الشر. وهو يفعل ذلك بمعرفة تامّةٍ ودعم من لدنْ حكومتكم.”

              سألتُ، “لماذا؟”

              “لسببٍ بسيط. إنه حليفكم الحقيقيُّ الوحيدُ في الشرق الأوسط؛ والعالمُ الصناعيُّ يدور حول محور النفط، أي الشرق الأوسط. آه، عندكم إسرائيلُ، طبعا. لكنها في الواقع عالةٌ عليكم، وليست ذخرا. كذلك ليس فيها نفط. وعلى سياسييكم أن يتزلفوا للصوتَ اليهوديَّ، أن يستعينوا بأموالهم لتمويل حملاتهم [الانتخابية]. لذلك، أخشى أنْ تكونوا متورطين بإسرائيل. أما إيرانَ فهي المفتاح. شركاتُكم النفطية – وهي أقوى من اليهود – تحتاجُ إلينا. أنتم تحتاجون إلى شاهنا – أو لعلكم تظنون ذلك، تماما كما حسبتم أنكم في حاجةٍ إلى القادة الفاسدين في فيتنامَ الجنوبية.”

              “هل تقترحُ أمراً آخر؟ أتعادلُ إيرانُ فيتنام؟”

              “قد تكونَ أسوأ بكثير. أعني أنّ الشاهَ لن يُعمَّرَ طويلا. فالعالمُ الإسلاميُّ يمقتُه. ليس العرب وحدهم، بل المسلمون في كلِّ مكان – إندونيسيا، الولايات المتحدة، ولكنْ، وبصورة خاصّةٍ هنا تحديدا، شعبه الفارسي.”صدر صوتٌ قويّ، فتبيّن لي أنه من ضربه جانب الكرسيّ. “إنه لشرِّير! نحن الفُرسَ نكرهُه.” ثم ساد صمتٌ لم أسمع فيه سوى نَفَسِهِ الثقيل، وكأنما أنهكه الإجهاد.

              قال يامين وهو يُحدِّثني بصوتٍ خفيض هادئ، “إن (دُك) قريب من علماء الدين. هناك تيارٌ خفيٌّ قويٌّ يسري بين الأجنحة الدينية هنا، وهو يعمُّ معظم بلادنا، باستثناء حفنة من الناس تنتمي للطبقات التجارية التي تنتفع من رأسمالية الشاه.”

              فقلتُ له، “لا أشكُّ في ما قلت. لكنّ عليّ القولَ إنني خلال أربع زياراتٍ لي هنا لم أرَ شيئاً من هذا. فكلُّ من تحدّثتُ معه بدا لي مُحبّاً للشاه، ومُُقدِّراً للقفزة الاقتصادية.”

              أجابني يامين، “لكنك لا تتكلمُ الفارسية. لا تسمعُ إلا ما يقولُه أولئك المنتفعون. إنّ من يتعلمون في الولايات المتحدة أو في إنكلترا، ينتهي بهم الأمر ليعملوا في خدمة الشاه. أما (دُك) فهو استثناء – الآن.”

              سكت قليلا، ليتفكّرَ، على ما يبدو، بكلماته التالية. “وصحافتكم، أيضاً، على المنوال ذاته. تتكلم مع القلة الذين هم جماعته وبطانته. صحافتُكم في معظمها، بطبيعة الحال، محكومةٌ أيضاً للنفط. لذلك يسمعون ما يودون سماعه ويكتبون ما يودُّ المعلنون قراءته.”

              “لماذا نُسمعُكَ كلّ هذا، يا سيد بيركنز؟” كان صوتُ (دُك) أشدّ خشونةً عنه من ذي قبل، وكأنّ ما بذل في كلامه من عواطفَ وجهدٍ استنزفَ الطاقةَ الضئيلةَ التي لملمها الرجلُ لهذا الاجتماع. “لأننا نريد أنْ نُقنعك بأنْ تحثَّ شركتكَ على الابتعاد عن بلادنا. نريد أنْ نُحذِّركَ بأنّ ظنكم أنكم ستكسبون مالا وفيراً هنا إنما هو محضُ وهم. فهذه الحكومة لن تدوم.” مرة أخرى سمعتُ صوتَ يده تلطم الكرسيّ. “وحين تذهبُ، فالحكومة التي تحلُّ محلها لن تتعاطف معكم ولا مع أمثالكم.”

              “تعني أننا لن نقبضَ مستحقاتِنا؟”

              ألمّت بـ(دُك) نوبةٌ من السعال، فذهب إليه يامينُ ودلّك له ظهره. حتى إذا ذهبَ عنه السعال، قال له يامينُ شيئاً بالفارسيةِ ثم عاد إلى مجلسه.

              قال يامينُ لي، “يجبُ أن نُنهي هذا الحديث. جواباً على سؤالك: بلى، لن تقبضوا مستحقاتكم. سوف تُنفِّذون العملَ كله، وحين يحلُّ موعد استلام أتعابكم، يكونُ الشاهُ قد ولّى.”

              في طريق عودتنا، سألتُ يامينَ لماذا يريدُ هو و(دُك) أن يقيا شركةَ مين من النكبة المالية التي يتوقعان.

              “سنَسعَدُ أن نرى شركتكم وقد أفلست. لكننا نفضِّلُ لو نراكم تُغادرون إيران. فمغادرةُ شركةٍ واحدةٍ كشركتكم يُمكنُ أن تكونَ الخطوةَ الأولى لهذا الاتجاه. هذا ما نأمله. كما ترى، نحنُ لا نريد حمّام دم هنا. ولكنّ على الشاه أنْ يولّي عنا، وسوف نفعل ما بوسعنا لتيسير الأمر. لذلك ندعو الله تعالى أنك ستُقنع السيد زَمْبُتِّي على المغادرة ما دام هناك مُتَّسعٌ من وقت.”

              “لماذا أنا؟”

              “حين تكلّمنا عن مشروع الصحراء المُزهرة في عَشائنا معا، تبيَّنَ لي أنك منفتحٌ على الحقيقة. كذلك تبيَّنَ لي أنّ معلوماتنا عنك صحيحة – أنتَ رجلٌ بين عالَمين، رجلٌ يقفُ في الوسط.”

              كلامُه جعلني أعجبُ ما الذي عرفه عني.
              قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

              Comment

              • نجمة الجدي
                مدير متابعة وتنشيط
                • 25-09-2008
                • 5278

                #22
                رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                الفصل العشرون



                سقوط ملك

                ذات مساءٍ من عام 1979، بينما كنتُ أجلس وحدي في الحانة الفخمة المتصلة بردهة فندق إنتركُنتننتَل في طهران، شعرتُ بمن يُربِّتُ على كتفي. التفتُّ، فرأيتُ رجلا إيرانيا قويّ البنيةِ يرتدي بذلة رجال الأعمال.

                “جون بيركنز! ألا تذكُرني؟”

                كان لاعبُ كرة القدم سابقا قد ازداد وزناً، لكنّ صوتَه لا يخفى. إنه فرهد، صديقي القديم في مِدِلْبِري، الذي لم أره منذ نيِّفٍ وعشر سنين. احتضنا بعضنا بعضا وجلسنا سويا. وسرعان ما تبيّن لي بوضوح أنه كان يعرف كلّ شيءٍ عني وعن عملي. وكان واضحاً أيضاً أنه لم يُردْ أنْ يُطلعني كثيراً على طبيعةِ عمله.

                حين طلبنا الكأس الثاني من الجعة، قال لي، “فلندخلْ في الموضوع. أنا مسافرٌ غدا إلى روما، حيث يعيش والداي. معي لك تذكرةٌ على الرحلة ذاتها. الأمورُ هنا تنهار. عليك أنْ تُغادر البلد.” ثم سلّمني تذكرة سفر بالطائرة.

                لم أشكّ في ما قال للحظة واحدة.

                في روما، أخذنا عشاءنا مع والدَيْ فرهد. عبّرَ والدُه، ذلك الجنرالُ الإيرانيُّ المتقاعدُ الذي خطا ذات يوم ليتلقى بنفسه رصاصةً أُطلقتْ على الشاه لاغتياله، عن خيبةِ أملِه برئيسه السابق. قال إن الشاهَ، في السنوات القليلة الماضية، أظهر لونَه الحقيقيّ غطرسةً وجشعا. وحول البغضاء التي تجتاحُ الشرقَ الأوسط، لام الجنرالُ سياسةَ الولايات المتحدة – خاصةً في دعمها إسرائيل، والقادةَ الفاسدين، والحكوماتِ المستبدة. كذلك تنبّأ أن يسقط الشاه خلال أشهر معدودات.

                قال، “أتعلم أنكم بذرتم بذور هذا العصيان في بداية الخمسينات حين قلبتم حكومةَ مُصدَّق؟ ظننتم يومها – كما ظننتُ أنا أيضاً – أنّ ذلك براعةٌ منكم. واليوم، هاهي ذي تعود لتُلاحقكم – وتُلاحقنا.”[i]

                ذُهلتُ لما قال. فقد سمعتُ شيئاً شبيها من يامين و(دُك). أما أن يخرجُ الكلامُ من هذا الرجل، فأمرٌ ذو أهميةٍ خاصة. في هذا الوقت، كان الجميعُ على علم بوجود حركةٍ سريّةٍ إسلاميةٍ أصولية. بيد أننا أقنعنا أنفسَنا أنّ الشاه كان يتمتّعُ بشعبيةٍ طاغيةٍ بين الأغلبية من شعبه، ولهذا كان منيعاً سياسيا. أما الجنرالُ فكان متمسِّكاً برأيه.

                قال بِوَقار، “تذكَّرْ كلماتي؛ سقوطُ الشاه سيكونُ البداية. إنه مراجعةٌ لمسيرةِ العالم الإسلامي. غضبُنا يغلي تحت الرمال منذ زمنٍ طويل. وقريباً سوف ينفجر.”

                في أثناء العَشاءِ سمعتُ الكثير عن آية الله روح الله الخميني. وقد أوضح فرهد وأبوه أنهما لا يؤيدان شيعيتَه المتعصّبة، ولكنّ من الواضح أنهما كانا مُعجَبَيْنِ بهجومِه على الشاه. قالا لي إن عالِمََ الدين هذا، الذي يحملُ اسم “روح الله”، وُلد عام 1902 في قريةٍ بالقرب من طهران لأسرة من علماء الشيعة الملتزمين.

                تعمّد الخمينيُّ ألا يُقحمَ نفسَه في الصراع ما بين مُصدَّق والشاه في أوائل خمسينات القرن العشرين. لكنه كان مناوئاً للشاه بشكل فعال في الستينات، منتقدا هذا الحاكم بعنادٍ نُفي بسببه إلى تركيا، ثم إلى النجف، المدينة المقدّسة لدى الشيعة في العراق، حيث أصبح قائدَ المعارضةِ المعترفَ به. ومن هناك كان يُرسل الكتبَ، والمقالاتِ، والرسائلَ المسجلةَ على أشرطةٍ صوتية، يحثُّ فيها الإيرانيين على الانتفاض لطرد الشاه وإقامة دولة دينية.

                بعد يومين من عَشائي مع فرهد وأبويه، جاءت الأنباءُ من إيرانَ بوقوع تفجيراتٍ وأعمال شغب. لقد بدأ آيةُ الله الخمينيُّ وعلماءُ الدين هجومَهم الذي أدى فيما بعدُ بوقتٍ قصيرٍ إلى استلامهم السلطة. بعد ذلك تسارعت الأحداثُ. فقد انفجر الغضبُ الذي وصفه والد فرهد على شكل انتفاضة إسلامية عنيفة، هرب على إثرها الشاهُ إلى مصر في كانون الثاني 1979، وحين شُخِّص بالسرطان ذهبَ إلى مستشفى في نيويورك.

                طالبَ أتباعُ آيةِ الله الخمينيِّ بعودته. وفي تشرين الثاني 1979، استولت جماهيرُ إسلاميةٌ عنيفةٌ على سفارة الولايات المتحدة في طهرانَ وألقت القبض على اثنين وخمسين أمريكيا أُخِذوا رهائن لمدة دامت 444 يوما.[ii] حاول الرئيسُ كارتر أن يُفاوضَ على إطلاق سراح الرهائن. وحين فشل، أذِنَ لحملة إنقاذٍ عسكرية خرجتْ إلى مهمتها في نيسان 1980. فتمخضت عن مصيبةٍ، وكانت في ما بعدُ المطرقةَ التي أنفذت المسمارَ الأخير في نعش رئاسة كارتر.

                ضغطتْ مجموعاتٌ تجاريةٌ وسياسيةٌ أمريكيةٌ ضغطاً هائلاً أجبر الشاه المصابَ بالسرطان على مغادرة الولاياتِ المتحدة. ومنذ مغادرته طهران، كان يواجه وقتاً عصيباً وهو يبحثُ عن ملاذ؛ فلقد تخلّى عنه أصدقاؤه القدامى جميعا. بيد أنّ الجنرال توريجُس أبدى تعاطفه المعهود وعرض على الشاه اللجوءَ إلى بنما، بالرغم من كرهه الشخصيِّ لسياساته. وصل الشاهُ واستلم ملاذه في المنتجع ذاته حيث جرت المفاوضاتُ حديثاً حول معاهدة قناة بنما الجديدة.

                طالب علماءُ الدين بعودة الشاه مقابلَ الإفراج عن رهائن السفارة. فاتَّهَم معارضو معاهدة القناة في واشنطن الجنرالَ توريجُس بالفساد والتواطؤ مع الشاه، وبتعريض أرواح المواطنين الأمريكيين للخطر. كذلك طالبوا بردّ الشاه إلى آية الله الخميني. ومن السخرية أنّ الكثرةَ من هؤلاء الناس أنفسهم، حتى ما قبل بضعة أسابيع، كانوا أشدَّ الناس دعماً للشاه. وفي نهاية المُطاف، عاد إلى مصر ملكُ الملوك الذي كان يوماً من المتكبِّرين ليقضيَ فيها نحبَه بالسرطان.

                لقد تحققتْ نبوءة (دُك). فقد خسرتْ شركةُ مين ملايين الدولارات في إيران، كما خسر مثلها الكثرةُ من منافسينا. وخسر كارتر انتخابَه لفترةٍ رئاسيةٍ ثانية. وحلّتْ في واشنطن إدارةُ ريغَن-بوش مطلقةً الوعود بتحرير الرهائن، والإطاحة بعلماء الدين، وإعادة الديمقراطية إلى إيران، وتصحيح وضع قناة بنما.

                كانت الدروسُ بالنسبة إليّ لا تقبلُ الدحض. فقد بيّنت إيرانُ، بما لا يترك موضعاً للشك، أنّ الولاياتِ المتحدةَ كانت دولةً تعملُ على التنكُّر لحقيقةِ دورنا في العالم. فليس مفهوماً أننا كنا مُضلَّلين حول الشاه وتيّار الكراهية المندفع ضده. حتى نحن العاملين في شركات مثل مين، التي كان لها مكاتبُ وموظفون في تلك البلاد، لم نكنْ نعلم. كنتُ واثقاً من أنّ وكالة الأمن القوميِّ ووكالةَ الاستخبار المركزية كانتا تريان ما كان واضحا لتوريجُس، حتى حين اجتمعتُ به عام 1972. لكنّ استخباراتِنا تعمّدت تشجيعنا جميعا على إغلاق أعيننا.


                [i] لمعرفة المزيد عن صعود الشاه إلى السلطة، راجع:

                H.D.S. Greenway, “The Iran Conspiracy,” New York Review of Books, September 23, 2003; Stephen Kinzer, All the Shah’s Men: An American Coup and the Roots of Middle East Terror (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons, Inc., 2003)

                [ii] See TIME magazine cover articles on Ayatollah Ruhollah Khimeini, February 12, 1979, January 7, 1980, and August 17, 1987.
                قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                Comment

                • نجمة الجدي
                  مدير متابعة وتنشيط
                  • 25-09-2008
                  • 5278

                  #23
                  رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                  الفصل الحادي والعشرون

                  كولُمبيا: حجر الزاوية في أمريكا اللاتينية

                  بينما قدّمتْ السعوديةُ، وإيرانُ، وبنما دراساتٍ رائعةً ومزعجة، فقد كانت استثناءً للقاعدة. ذلك أنه بسبب ما لدى الدولتين الأوليين من مخزونٍ نفطيٍّ، وبسبب وجود القناة في الثالثة، فإنها لم تلائم النموذج المتبع. لكنّ وضع كولُمبيا كان نموذجيا، وكانت شركةُ مين الشركةَ الهندسيةَ الرئيسية والمُصممة لمشروع كهرومائيٍّ ضخم هناك.

                  أخبرني ذات يوم أستاذٌ جامعيٌّ كولُمبيٌّ يكتبُ كتاباً عن تاريخ العلاقات الأمريكية الشاملة أنّ تِدي روزفلت كان مُقدِّراً لأهمية بلاده. وقد رُوي عن هذا الرئيس الأمريكيّ، والمتطوّع السابق في وحدة “الفرسان الاشداء”*، أنه، إذ كان يُشير إلى خريطةٍ أمامه، وصف كولُمبيا بأنها “حجر الزاوية في قوس جنوب أمريكا.” لم أتأكدْ قطُّ من هذه الرواية. بيد أنها حقيقةٌ مؤكّدةٌ أنّ كولُمبيا، إذ تتربَّعُ في أعلى القارة، تبدو أنها تجمعُ بقية القارة معا. فهي تصلُ جميع البلاد الجنوبية ببرزخ بنما، فبأمريكا الوسطى والشمالية كلتيهما.

                  سواءٌ وَصفَ روزفلت كولُمبيا بهذه الكلمات أم لا، فقد كان واحدا من رؤساءَ كثيرين أدركوا وضعها المحوري. فلقرنين من الزمن تقريباً، تنظر الولاياتُ المتحدةُ لكولُمبيا باعتبارها حجر زاوية – أو، ربما بتعبير أدق، باعتبارها بوابة التجارة والسياسة معاً إلى نصف الكرة الجنوبي.

                  لهذا البلدِ أيضاً جمالٌ طبيعيٌّ أخّاذ: شواطئُ خلابةُ المنظر محفوفةٌ بالنخيل على ساحلَيْ الأطلسيِّ والهادئ، وجبالٌ مهيبةٌ، وسهولٌ معشوشبةٌ تنافسُ السهولَ الكبرى في منطقة الغرب الأوسط في أمريكا الشمالية، وغاباتٌ مطيرةٌ واسعةٌ وغنيةٌ في تنوعها الحيوي. ولسكانها أيضا صفةٌ خاصّةٌ إذ يجمعون المُميِّزاتِ الجسديةَ والثقافيةَ والفنيةَ للخلفيات العرقية المختلفة، من التايرونيين المحليين إلى الآتين من أفريقيا وآسيا وأوربا والشرق الأوسط.

                  على الصعيد التاريخيّ، قامت كولُمبيا بدور حاسمٍ في تاريخ أمريكا اللاتينية وثقافتها. وفي الحقبة الاستعمارية، كانت مقرّ نائب الملك المنتدب لجميع المناطق الإسبانية من شماليّ البيرو إلى جنوبيّ كوستا ريكا. وكانت أساطيلُ سفنِ الذهبِ الشراعيةِ الضخمةِ تُبحرُ من مدينتها الساحلية، قرطاجنّة، لتنقل الكنوز التي لا تُقدّرُ بثمن من أقصى الجنوب في تشيلي والأرجنتين إلى موانئ إسبانيا. وفي كولُمبيا أيضا وقعت الأعمالُ الحاسمةُ لحروب التحرير. فقد انتصرت قوات سِيمون بوليفار، مثلا، على الملكيين الإسبان في معركة بوياكا المحورية عام 1819.

                  في العصر الحديث، اشتُهرت كولُمبيا بكونها وطنَ بعض ألمع الكُتّاب والفنانين والفلاسفة وغيرهم من المُفكِّرين في أمريكا اللاتينية، وكذلك بحكوماتها الحصيفةِ ماليا والديمقراطيةِ نسبيا. وقد أصبحت نموذجا للرئيس كندي في برامجه لبناء الأمة في جميع أرجاء أمريكا اللاتينية. وعلى عكس غواتيمالا، لم تتلطّخْ سمعةُ حكومتِها بكونِها من صنع وكالة الاستخبار المركزية؛ وعلى عكس نيكاراغوا، كانت حكومتُها منتخبة، وهو ما مثّل بديلاً للمستبدين اليمينيين وللشيوعيين. وأخيراً، على عكس دول كثيرة أخرى، كالبرازيل والأرجنتين القويتين، لم تحمل كولُمبيا ريبةً تجاه الولايات المتحدة. وبالرغم من شائنة عصابات المخدِّرات لديها، استمرت صورة كولُمبيا كحليفٍ يُعتمَدُ عليه.[i]

                  بيد أنّ أمجادَ التاريخ الكولُمبي كانت تُقابلُها الكراهيةُ والعنف. ذلك أنّ مقرَّ نائب الملك الإسباني كان أيضاً مركزا لمحاكم التفتيش. فقد شُيِّدت القلاعُ الضخمةُ والمزارعُ والمدنُ على عظام الهنود [الحمر] والعبيد الأفارقة. أما الكنوزُ التي كانت تُحمَلُ على سفن الذهب الشراعية الضخمة، والتماثيلُ المُقدّسةُ والتحفُ الفنيةُ التي كانت تُسيَّحُ لتسهيل نقلها، فكانت تُنتزَعُ انتزاعاً من قلوب القدماء. والثقافاتُ الأثيرةُ نفسُها دمَّرتْها سيوفُ الفاتحين وأمراضُهم. وحديثا، تولّدَ عن انتخاباتٍ رئاسيةٍ مثيرة للجدل عام 1945 انقسامٌ عميقٌ بين الأحزاب السياسية أدى إلى “أحداث العنف” (1948-1957)،*التي قُتل فيها أكثر من مئتي ألف نسمة.

                  بالرغم من تلك النزاعات والسخافات، كانت واشنطن ومركزُ وول ستريت الماليُّ ينظران إلى كولُمبيا كعامل جوهريٍّ في تعزيز المصالح السياسية والتجارية في عموم أمريكا. ويعود هذا إلى عدة عوامل منها، بالإضافة إلى موقع كولُمبيا الجغرافيِّ الحاسم، أنّ القادة في نصف الكرة ينظرون إلى بوغوتا [عاصمة كولُمبيا] كمصدر للإلهام والريادة، وأن هذا البلد مصدرٌ لمنتجاتٍ كثيرة تُباع في الولايات المتحدة – كالقهوة، والموز، والأنسجة، والزمرّد، والأزهار، والنفط، والكوكائين – وسوقٌ أيضاً لبضاعتنا وخدماتنا.

                  كانت إحدى أهمّ الخدمات التي بعناها لكولُمبيا خلال نهايات القرن العشرين خبراتنا الهندسية والإنشائية. وقد كانت كولُمبيا نموذجاً لأماكنَ كثيرةٍ عملتُ فيها. فقد كان سهلا نسبياً أن يُبرهن المرءُ أن باستطاعة هذا البلد أن يتحمّل مقاديرَ كبيرةً من الدين ثم يُسددها من المنافع المتحققة من المشاريع نفسها ومن موارد البلد الطبيعية. وهكذا، فإن الاستثمارات الضخمة في الطاقة الكهربائية، والطرق السريعة، والاتصالات من شأنها أنْ تساعد كولُمبيا في فتح مواردها الغازية والنفطية ومناطق الأمازون غير المنمّاة التابعة لها. ومن شأنِ هذه المشاريع أنْ تُنتجَ الدخلََ اللازمَ لسداد القروض والفوائد.

                  كانت هذه هي النظرية. غير أنّ الحقيقةَ المتماشيةَ مع نيَّتنا الحقيقية حول العالم كانت إخضاعَ بوغوتا في سبيل تعزيز الإمبراطورية العالمية. وكما هو الحالُ في أماكن عديدة، كانت وظيفتي أنْ أُقدِّمَ الحجة لقروض ضخمة جدا. وإذ لم تنتفعْ كولُمبيا بوجود واحد مثل توريجُس، فقد شعرتُ أنّ عليّ أنْ أضع تنبؤاتٍ مبالغاً بها في الاقتصاد والأحمال الكهربائية.

                  باستثناء نوباتٍ من الشعور بالذنب كانت تنتابني بين الحين والحين، أصبحتْ كولُمبيا ملاذا شخصياً لي. وقد قضينا، آنْ وأنا، شهرين هناك في وقتٍ مبكر من سبعينات القرن العشرين. بل إني دفعتُ دفعةً أولى لمزرعة قهوةٍ صغيرة في الجبال فوق الساحل الكاريبي. أعتقد أنّ الوقت الذي قضيناه معاً كان أفضلَ ما فعلنا لمداواة الجروح التي سببناها أحدنا للآخر خلال السنوات الماضية. لكنّ تلك الجروح في نهاية المطاف تعمقت أكثر من أنْ تُحتمل. ولم أتعرّفْ جيداً على تلك البلاد إلا بعد أنْ تداعى زواجُنا.

                  خلال سبعينات القرن العشرين، مُنحتْ شركة مين عددا من العقود لتطوير عدة مشاريع بنية تحتية، تتضمّنُ شبكةً للمرافق الكهرومائية وأنظمةَ توزيع لنقل الكهرباء من أعماق الأدغال إلى المدن في أعالي الجبال. خُصِّصَ لي مكتبٌ في مدينة بَرَنْكْوِلاّ الساحلية، وحدث في العام 1977 هناك أنني التقيتُ بامرأةٍ كولُمبية جميلةٍ أصبحت عاملاً قوياً في تغيير مجرى حياتي.

                  كانت بولا ذاتَ شعرٍ أشقرَ طويلٍ وعينين خضراوين ساحرتين – وهو ما لا يتوقعُه معظمُ الأجانب لدى امرأة كولُمبية. كان أبوها وأمُّها قد هاجرا من شمال إيطاليا، والتزاماً بإرثها أصبحت مصممة أزياء. لكنها تقدمت خطوة إلى الأمام إذ أنشأت مصنعاً صغيراً كان يتحوّلُ فيه إبداعُها إلى ملابس تبيعُها في متاجر الطبقة العليا في البلاد، وكذلك في بنما وفنزويلا. كانت امرأةً مُفعمةً بالمحبة، ساعدتني في التغلب على بعض الصدمات الشخصية من جرّاء زواجي المتداعي، وفي البدء في معالجة بعض مواقفي من النساء، وهو ما أثر بي بصورة سلبية جدا. كذلك أرشدتني كثيرا بالنسبة إلى نتائج السلوك الذي أسلكه في وظيفتي.

                  كما قلتُ سابقاً، تتألّفُ الحياةُ من سلسلة من المصادفات التي لا نملك لها ضابطا. من هذه المصادفات في حياتي أنني نشأتُ ابناً لأبٍ يُعلِّمُ في مدرسة إعدادية للذكور في نيوهامبشَيَر الريفية. ثم قابلتُ آن وعمّها فرانك، الذي اشترك في حرب فيتنام، وكذلك آينر غريف. غير أنه حين تأتينا هذه المصادفات تكون أمامنا الخيارات. والذي يصنع الفرق يكمنُ في استجابتنا لهذه المصادفات وتصرفنا إزاءها. والمثلُ على ذلك أن تفوُّقي في المدرسة، وزواجي من آن، وانضمامي إلى فرقة السلام، واختياري أن أصبح قاتلا اقتصاديا – كلُّ هذه القرارات أوصلتني إلى حيث أنا في الحياة.

                  كانت بولا مصادفة أخرى. وكان لتأثيرها أنْ يقودني إلى التصرف بما غيّر مجرى حياتي. فإلى أنْ التقيتٌُ بها، كنتُ ماضياً قُدُما مع ذلك النظام. غالباً ما وجدتني أتساءل عما أفعل، وكان أحيانا ينتابني شعور بالذنب تجاهه، غير أني كنت دائماً أكتشفُ وسيلةً لتبرير بقائي. لعل بولا صادفتني في الوقت المناسب. ولعلّ من المحتمل أنني كنت سأُقدِمُ على تلك الاندفاعة على أي حال، وأنّ تجاربي في السعودية وإيران وبنما كانت ستدفعُني إلى العمل. لكنني كنتُ واثقاً من أنه حتى حين كانت امرأةٌ، أعني كلودين، فعّالةً في إقناعي أن أنضمَّ إلى صفوف القتلة الاقتصاديين، فإن امرأةً أخرى، هي بولا، كانت الحافز الذي كنتُ في حاجةٍ إليه في ذلك الوقت. لقد أقنعتني أن أغوص في أعماق نفسي لأرى أنني لن أكون سعيداً أبداً ما دمتُ أُمارسُ ذلك الدور.
                  قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                  Comment

                  • نجمة الجدي
                    مدير متابعة وتنشيط
                    • 25-09-2008
                    • 5278

                    #24
                    رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                    الفصل الثاني والعشرون
                    ***
                    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                    Comment

                    • نجمة الجدي
                      مدير متابعة وتنشيط
                      • 25-09-2008
                      • 5278

                      #25
                      رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                      الفصل الثالث والعشرون



                      ملخّص السيرة الخادع

                      حين كنتُ في كولُمبيا جاءنا خبرُ تقاعد جيك دوبر كرئيس لشركة مين. وكما كان متوقعاً، قام رئيسُ مجلس الإدارة والمديرُ التنفيذيُّ الأعلى، مَك هول، بتعيين برونو خلفاً لدوبر. كانت خطوطُ الهاتف بين بوسطن وبَرانكِلاّ مشغولة بشكل جنوني. وإذ كنتُ واحداً من أكثر المقربين لبرونو والحائزين على ثقته، توقع الجميعُ لي أيضا أن أنال ترقية.

                      كانت هذه التغييراتُ والإشاعاتُ حوافزَ إضافيةً لي لمراجعة وضعي الخاص. وبينما كنتُ لا أزالُ في كولُمبيا، اتّبعتُ نصيحةَ بولا بقراءة النص الإسباني لملخص سيرتي. ولقد صدمتني. حين عدتُ إلى بوسطن، أخرجتُ الأصل الإنكليزيَّ ونسخة شهر تشرين الثاني 1978 من مينلاينز، مجلة الشركة؛ وكان في هذا العدد ذكرٌ لي في مقالة بعنوان “المختصون يُقدِّمون لعملاء مين خدماتٍ جديدة”. (ص 157 و158.)

                      كنتُ ذات يوم فخوراً جداً بتلك السيرة وتلك المقالة. أما الآن، حين رأيتهما كما فعلتْ بولا، شعرتُ بغضب عارم واكتئاب. فقد انطوتْ مادةُ هاتين الوثيقتين على خداع، إن لم يكن على أكاذيب. وكانت هاتان الوثيقتان تحملان أهميةً أعمقَ، وحقيقةً تعكسُ أزماننا وتصلُ إلى صميم مسيرتنا الحالية نحو الإمبراطورية العالمية: لقد لخصتا مخططا محسوباً بحيث يُقدِّمُ مظاهر ويُخفي الحقيقة الكامنةَ وراءها. وبطريقةٍ غريبةٍ، كانتا ترمزان إلى قصة حياتي: طبقة لامعة خارجية تُغطي سطحاً خشنا.

                      وبطبيعة الحال، لم يُسعدني كثيراً أنْ أعرفَ أنّ عليّ أن أتحمّلَ كثيراً من المسؤولية لما تضمنه ملخّصُ سيرتي. فحسب الإجراءات العملية المتبعة، كان مطلوبا مني أن أُحدِّثَ بصورةٍ دائمةٍٍ ملخصَ السيرةِ الأساسيَّ وملفاً يحتوي على معلومات احتياطية ذات صلة عن العملاء الذين يتلقون خدماتنا ونوعَ العمل المُنجَز. فلو أن شخصاً تسويقياً أو مدير مشروع أراد أنْ يُضمِّنني في عرض ما أو أن يستخدم أوراق اعتمادي بطريقة أخرى، فبإمكانه استعمالُ هذه المعطيات الأساسية بطريقة تعزز حاجاته الخاصة.

                      مَثَلُ ذلك أنه قد يختارُ ذلك الشخصُ أنْ يُلقي الضوء على خبرتي في الشرق الأوسط، أو في تقديمه عرضاً أمام البنك الدولي ومنابر أخرى متعددة الجنسية. عندئذٍ، يُفترض به أنْ يحصل على موافقتي قبل نشر الملخّص المُراجَع. لكنْ، لما كنتُ أسافرُ كثيرا، كما يفعل الكثيرون من موظفي مين، كانت هناك استثناءاتٌ متكررة. وهكذا، فإن الملخص الذي اقترحتْ بولا أن أطَّلع عليه وعلى نصه الإنكليزي المقابل كانا عليَّ جديدين تماما، بالرغم من وجود المعلومات في ملفي.

                      لأول وهلة، كان ملخصُ سيرتي يبدو بريئاً بما يكفي. فتحتَ بند “الخبرة”، ذُكر أنني كنتُ مسؤولا عن مشاريعَ مهمةٍ في الولايات المتحدة، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط. وكانت هناك قائمةٌ لأنواع المشاريع: التنمية والتخطيط، التنبؤ الاقتصادي، التنبؤ باحتياجات الطاقة، وهكذا. وانتهى هذا القسم بشرح عملي في فرقة السلام في الإكوادور؛ إلا أنه ألغى إشارتي إلى فرقة السلام نفسها، مُعطياً الانطباع أنني كنتُ المدير المهني لشركة مواد بناء، بدل كوني متطوعاً يقوم بمساعدة جمعية تعاونية صغيرة مؤلفة من فلاحين أنديزيين أُميين يصنعون القرميد.

                      بعد ذلك كانت هناك قائمةٌ طويلةٌ من العملاء. كان في هذه القائمة البنكُ الدولي لإعادة الإعمار والتنمية (وهو الاسم الرسمي للبنك الدولي)؛ بنك التنمية الآسيوي؛ حكومة الكويت؛ وزارة الطاقة الإيرانية؛ شركة النفط العربية الأمريكية في السعودية؛ وغيرها الكثير. لكنّ المادة الأخيرة لفتت نظري بصورة خاصة: دائرة مالية الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية. وقد عجبتُ كيف طُبعت هذه القائمة، بالرغم من أنها كانت جزءاً من ملفي.

                      وضعتُ ملخص سيرتي جانباً لأعود إلى المقالة في مجلة مينلاينز. تذكرتُ تماماً مقابلتي مع كاتبة المقالة، وكانت شابّةً حسنةَ الطويّةِ ذاتَ موهبة عالية. وقد أعطتني المقالةَ للموافقة عليها قبل نشرها. تذكرتُ كم شعرتُ بالرضا للإطراء الذي أناطته بي، فوافقتُ عليها فورا. ومرةً أخرى، أتحمّلُ أنا المسؤولية. بدأت المقالة هكذا:

                      “بالنظر إلى الوجوه خلف المكاتب، من السهل القولُ إنّ الاقتصادَ والتنميةَ الإقليميةَ أحدُ أحدث المجالات التي تشهد نمواً سريعا في شركة مين …

                      بينما كان لعدة أناس أثرُهم في الشروع بعملِ المجموعة الاقتصادية، إلا أنها بدأتْ أساساً بجهود رجل واحد، هو جون بيركنز، الذي يترأس الآن هذه المجموعة.

                      وإذ وُظِّفَ جون مساعداً لكبير متنبئي الأحمال في كانون الثاني، 1971، فقد كان واحداً من الاقتصاديين القلائل العاملين في شركة مين في ذلك الوقت. ولأداء مهمته الأولى، أُرسل كعضوٍ في فريقٍ مؤلفٍ من أحدَ عشرَ رجلا للقيام بدراسة الاحتياجات الكهربائية في إندونيسيا.”

                      لخّصتْ المقالةُ تاريخ عملي السابق، وشرحتْ كيف “قضيتُ ُثلاث سنوات في الإكوادور،” ثم استُرسلت كما يلي:

                      “في هذا الوقت، التقى جون بيكنز بآينر غريف (أحدَ الموظفين السابقين) [منذ تركه مين، أصبح رئيساً لشركة تَكسُن للغاز والكهرباء] الذي كان يعمل في بلدة بوتي في الإكوادور على مشروع كهرومائي لشركة مين. وقد تصادق الاثنان، ومن خلال تراسلهما المستمر، عُرض على جون منصبٌ في شركة مين.

                      بعد ذلك بسنة تقريبا، أصبح جون كبير متنبئي الأحمال. وإذ زاد الطلب من قِبَلِ العملاء والمؤسسات، كالبنك الدولي، تبين له أن شركة مين أصبحت بحاجة لمزيد من الاقتصاديين.”

                      لم تكن أيٌّ من العبارات في كلا الوثيقتين كذبا مباشرا – فقد كان في ملفي نسخةٌ لكل منهما؛ إلا أنني اليوم أرى التواءً في الفكرة التي أُريدَ إيصالُها وتعقيمُها. وفي ثقافة تُقَدِّسُ الوثائقَ الرسمية، أراهم ارتكبوا ما هو أشد شرا. ذلك أنّ الأكاذيب المباشرة يُمكنُ دحضُها. لكنَّ وثائق كهاتين الوثيقتين يستحيلُ دحضُهما لأنهما استندتا إلى شيءٍ من الحقيقة، فليستا خداعا مُطلقا، ولأنهما صادرتان عن شركة نالت ثقة الشركات الأخرى والبنوك العالمية والحكومات.

                      فيما يتعلق بملخص سيرتي، كان هذا صحيحا بصورة خاصة لكونها وثيقة رسمية، مُقارنةً بالمقالة التي كانت مجرد مقابلة في مجلة. وشعار مين المثبت في أسفل الملخص وعلى مُغلَّفات جميع العروض والتقارير، التي من المرجَّح أن يحتفي بها الملخص، يحمل أهمية كبيرة في عالم الأعمال العالمية. فهو خاتم للأصالة التي تُعطي المستوى ذاته من الثقة، مَثَلُها مًَثَلُ تلك الشعارات المثبتة على الشهادات المعلقة على جدران عيادات الأطباء ومكاتب المحامين.

                      وقد صورتني هاتان الوثيقتان باعتباري اقتصاديا كُفئاً ورئيساً لدائرة في شركة استشارات مهيبة يُسافرُ حول العالم ويُشرفُ على عددٍ من الدراسات التي من شأنها أن تجعل العالم أكثر حضارةً وازدهارا. على أنّ الخداع لم يكنْ فيما ذُكر، بل فيما لم يُذكر. فلو أني لبستُ قبّعة رجل خارجي – أي نظرتُ نظرةً موضوعية – لكان عليّ أنْ أعترفَ بأنّ من شأن ما أُغفل أنْ يُثيرَ أسئلة كثيرة.

                      مَثَلُ ذلك أنه لم يكن ثمة ذكرٌ لتجنيد وكالة الأمن القومي لي أو لعلاقة آينر غريف بالجيش ولدوره كضابط ارتباط مع الوكالة المذكورة. وبطبيعة الحال، لم يكن هناك ذكرٌ لحقيقة أنني كنتُ أُوضع تحت ضغطٍ هائل لكي أُنتج تنبؤاتٍ اقتصاديةً مُبالغاً فيها، أو أنّ كثيراً من وقتي كان يدورُ حول ترتيب قروضٍ لن تستطيع دولٌ كإندونيسيا وبنما أنْ تٌسدِّدَها إطلاقا. كذلك لم يكن هناك امتداحٌ لاستقامةِ سلفي، هِوَرد باركر، ولا اعترافٌ بأنني أصبحتُ كبير متنبئي الأحمال لأنني كنتُ مستعداً للإتيان بالدراسات المنحازة المتوقعة مني، بدل أنْ أقول – كما فعل هِوَرد – ما اعتقدتُ أنه صحيح، ثم أنْ أواجه الفصل نتيجة ذلك. والأكثرُ عجباً كان القيدَ الأخير في قائمة عملائي: دائرة الخزينة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية.

                      كرّرتُ عودتي إلى ذلك السطر متسائلا عمّا يمكنُ الناسَ أن يُؤَوِّلوه. فقد يسألون ما العلاقةُ بين الخزينة الأمريكية والسعودية. لعلهم سيحسبونه خطأً مطبعياً، سطرين منفصلين دُمجا معا بطريقة خاطئة. إلا أنّ أغلبَ القراء لن يحزروا حقيقة أن ذلك القيد قد وُضِع لسبب محدد، وهو أنْ يفهم أولئك القابعون في دوائر العالم الداخلية حيث كنتُ أعمل أنني كنتُ جزءاً من الفريق الذي صنع صفقة القرن، الصفقة التي غيّرت مجرى تاريخ العالم، ولكنها لم تصل إلى الجرائد، وأنني اشتركتُ في وضع اتفاقيةٍ ضمنتْ استمرار تدفق النفط إلى أمريكا، وأنني أمّنتُ حُكم آل سعود، وساعدتُ في تمويل أسامةَ بن لادن وفي حماية مجرمين دوليين، مثل عيدي أمين. كان هذا السطرُ الواحدُ يُخاطبُ أولئك العارفين. كان يقول إن كبير اقتصاديي مين رجلٌ قادرٌ على الإنجاز.

                      كانت الفقرةُ الأخيرةُ من مقالة مينلاينز ملاحظةً شخصيةً من الكاتبة استثارتني:

                      “توسعتْ دائرة الاقتصاد والتخطيط الإقليمي بخطوات سريعة، إلا أن جون يرى أنه كان محظوظاً في أنّ كلَّ من أُعطِيَ الوظيفةَ كان مهنيا مُجِدّاً في عملة. وإذ كان يُكلمني من على مكتبه، كان اهتمامُه بموظفيه ودعمُه لهم واضحاً وباعثا على الإعجاب.”

                      الواقعُ أنني لم أكنْ قطُّ لأرى نفسي اقتصاديا أصيلا. فقد تخرجتُ من جامعة بوسطن بدرجة بكالوريوس في إدارة الأعمال، بتركيز على التسويق. وكنتُ دائماً مقصِّرا في الرياضيات والإحصاء. وفي كلية مِدِلْبِري كان اختصاصي الأدبَ الأمريكي؛ والكتابة بالنسبة إليّ كانت أمرا سهلا. أما مركزي ككبير الاقتصاديين ومدير دائرة الاقتصاد والتخطيط الإقليمي، فلا يُعزى لقدراتي في الاقتصاد أو التخطيط؛ بل كان نتيجة قبولي الإتيانَ بنوع الدراسات التي يرغبُ في رؤيتها رؤسائي وعملائي، مضافاً إليها براعتي الطبيعية في إقناع الآخرين بالكلمة المكتوبة. أضف إلى ذلك أنني كنتُ من الذكاء بحيثُ وظَّفتُ أناساً ذوي كفاءة عالية، يحملُ الكثرةُ منهم المجستير واثنان الدكتوراه. فكان لديّ موظفون مُلمُّون بتقنيات عملي أكثر مني. فلا غروَ أن تقول كاتبة المقالة “كان اهتمامُه بموظفيه ودعمُه لهم واضحاً وباعثا على الإعجاب.”

                      احتفظتُ بهاتين الوثيقتين وبعدة وثائقَ شبيهةٍ في الدُّرْج الأعلى من مكتبي، وكثيرا ما كنتُ أعود لها. وأحياناً كنتُ أراني خارج غرفة مكتبي متجوِّلاً بين مكاتب موظفي دائرتي، أنظرُ إلى أولئك الرجال والنساء العاملين تحت إدارتي، شاعراً بالذنب لما فعلتُه بهم، وللدور الذي قمنا به جميعا لتوسيع الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء. كنتُ أُفكر بالناس الذين كانوا يتضوّرون جوعاً، بينما كنا ننامُ في فنادق الدرجة الأولى، ونأكل في أرقى المطاعم، ونُكبِّرُ محافظنا المالية.

                      كنتُ أُفكِّرُ في حقيقة أنّ من درَّبتُهم قد انضموا الآن إلى صفوف القتلة الاقتصاديين. أنا من جاء بهم، ومن جنّدَهم ودرّبهم. لكن الأمر اختلف عن الزمن الذي التحقتُ فيه بعملي. فقد تحرّك العالم وتقدّمت سلطة الشركات. أصبحنا أكثر إيذاءً وخبثا. أما موظفو دائرتي، فقد أصبحوا سلالة مختلفة. فليس في حياتهم قيودٌ لدى وكالة الأمن القومي ولا امرأةٌ مثل كلودين. لم يقلْ لهم أحدٌ ما يُتوقَّعُ منهم أن يعملوا لكي يقوموا بمهمة الإمبراطورية العالمية. لم يسمعوا قطُّ بتعبير “قاتل اقتصادي”، ولم يُقَلْ لهم إنه لا مخرج لهم مدى الحياة مما دخلوا فيه. فقد تعلموا ببساطة من حذوِهم حذوي ومن نظامنا في المكافأة والعقاب. كانوا يعلمون أن عليهم أن يضعوا نوع الدراسات ويخرجوا بنوع النتائج التي أريدُها. فرواتبُهم، وهدايا عيد الميلاد، بل ووظائفُهم، كانت تعتمد على إرضائي.

                      كنتُ، بطبيعة الحال، أقوم بكلِّ ما أستطيعُ تخيُّلَه للتخفيف عن أعبائهم. كتبتُ الأوراق، وألقيتُ المحاضرات، وأستغللتُ كلَّ فرصةٍ لأقنعهم بأهميةِ التنبؤات المتفائلة، والقروض الضخمة، وضخِّ رأس المال الذي يحفز الناتج القومي الكليّ ويجعلُ من العالم مكاناً أفضل. وقد استغرقَ الأمرُ أقلَّ من عقد من الزمن للوصول إلى هذه النقطة حيث اتخذ الإغراءُ والإكراهُ شكلاً أكثر براعة وأشدّ مكرا، نوعاً من الأسلوب اللطيف لغسيل الدماغ. والآن، يخرج إلى العالم هؤلاء الرجالُ والنساءُ الجالسون إلى مكاتبهم خارج غرفة مكتبي لكي يدفعوا بقضية الإمبراطورية العالمية إلى الأمام. وبمعني حقيقي، لقد شكّلتُهم كما شكّلتني كلودين. لكنهم، على العكس مني، أُبقُوا وراء ستار.

                      ليالٍ كثيرةٌ كنتُ أسهد فيها مفكِّرا بهذه الأمور، مغتاظاً منها. فقد فتحتْ إشارةُ بولا لملخّص سيرتي بابَ مشاكلَ لم تخطرْ بالبال، وكثيراً ما كنتُ أحسدُ موظفي دائرتي لسذاجتهم. لقد خدعتُهم عامدا متعمدا؛ وبعملي هذا حميتُهم من أعباء ضمائرهم، فما كان عليهم أن يتصارعوا مع المسائل الأخلاقية التي كانت تُطاردُني.

                      كذلك كثيراً ما تأملتُ في فكرة الاستقامة في الأعمال، وفي المظهر مقابل المخبر. كنتُ أقول لنفسي من المؤكد أن الناس لا يزالون منذ فجر التاريخ يخدعون بعضهم بعضاً. فالأساطير والحكايات مفعمةٌ بالحقائق الملتوية والاتفاقات المخادعة: كتجار السجاد الغشاشين، والمرابين، والخياطين المستعدين لإقناع الإمبراطور بأنه وحده من يرى ملابسه غير مرئية.

                      بيد أنني، بقدر ما كنتُ أريد الاستنتاج بأن الأشياء لا تزال كما كانت دائما، وبأن ظاهرَ ملخص سيرتي لدى شركة مين والحقيقةَ التي وراءها كانا محض انعكاسٍ للطبيعة الإنسانية، كنتُ أعلم في قلبي أنْ ليست هذه هي القضية. فلقد تغيّرت الأشياء، وأنا الآن أُدرك أننا وصلنا مرحلةً جديدةً من الخداع سوف تقود إلى دمارنا – ليس أخلاقيا حسب، بل ماديا أيضا، كثقافة – ما لم نقم قريبا بتغييراتٍ مهمة.

                      تعطينا الجريمة المنظمة مثالا على ذلك. فغالباً ما يبدأُ زعماءُ المافيا كزعران شوارع. وبمرور الوقت، يُغيِّرُ من مظهرهم من يصلُون منهم إلى الأعلى، فيرتدون الملابس الفاخرة جدا، ويمتلكون الأعمال المشروعة، ويلفون أنفسهم بعباءة مجتمع الطبقة العليا، ويدعمون الجمعيات الخيرية المحلية، فيجتذبون احترام المجتمع. وهم جاهزون لإقراض المال للمعسرين. وكمثل جون بيركنز في ملخص سيرته لدى شركة مين، يبدو هؤلاء الرجالُ مواطنين نموذجيين. بيد أنّ تحت هذا الطلاء مسيرةً دموية. وحين يعجزُ الدائنون عن السداد، يتحرك القتلةُ لأخذ حصتهم من اللحم. فإن لم يأخذوها، أتت بالعصيِّ بناتُ آوى. وأخيراً، تُستلُّ السيوفُ باعتبارها الحلَّ الأخير.

                      تبيّن لي أن ما أُنيط بي من لمعةٍ باعتباري كبيرَ الاقتصاديين، ورئيسَ دائرة الاقتصاد والتخطيط الإقليمي، لم تكنْ الخدعة البسيطة التي يقوم بها بائع السجاد، أي ليست ما يستطيعُ المشتري الانتباه له. فقد كانت جزءاً من نظام شرّير لم يهدفْ إلى التفوّق بالحيلة على زبونٍ غير مرتاب، بل إلى تعزيز أبرع شكلٍ وأشدِّه تأثيراً لإمبريالية لم يعرفْها العالمُ من قبل قط. وقد كان لكلٍّ من موظفي دائرتي لقب – مُحلّل مالي، خبير اجتماعي، خبير اقتصادي، خبير في الاقتصاد الرياضي، خبير في تسعير كُلَف الظل، وهكذا. غير أنّ أيّاً من هذه الألقاب لم يكنْ ليدلَّ على أنّ كلا منهم بطريقته إنما هو قاتل اقتصادي، وأنّ كلا منهم إنما يخدم مصالح الإمبراطورية العالمية.

                      كذلك لم تكن حقيقةُ هذه الألقاب بين موظفي دائرتي لتدلّ على أننا لم نكنْ سوى رأس جبل الثلج. فلكلِّ شركة دولية كبرى – من تلك التي تصنعُ الأحذية والملابس الرياضية إلى التي تصنعُ المعدات الثقيلة – ما يُعادل القاتل الاقتصادي. لقد بدأت المسيرةُ وأخذت تطوّق الكرة الأرضية بسرعة. أما الزعران فقد خلعوا معاطفهم الجلدية، وارتدوا ملابس رجال الأعمال، محيطين أنفسهم بجوٍّ من الاحترام. من مقارِّ الشركات في نيويورك، وشيكاغو، وسان فرنسِسكو، ولندن، وطوكيو، يخرجُ رجالٌ ونساءٌ وينسابون عبر كلِّ قارّةٍ في العالم لإقناع السياسيين الفاسدين بجعل دولهم ترزح تحت نير سلطة الشركات، ولإغراء اليائسين من الناس على بيع أجسادهم في مصانع الكدح وخطوط الإنتاج.

                      كان مزعجا أن يُدرك المرءُ أن التفاصيل المسكوت عنها خلف الكلمات المكتوبة في ملخص سيرتي وفي تلك المقالة كانت تُحدد عالماً من الدخان والمرايا يُراد له أن يُبقينا مغلولين إلى نظامٍ بغيضٍ أخلاقيا، وفي آخر المطاف مدمر ذاتيا. وإذ جعلتني بولا أقرأ ما بين السطور، حفزتني إلى أنْ أخطو خطوةً أخرى على طريقٍ من شأنها أنْ تُعيد أخيرا تشكيل حياتي.
                      قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                      Comment

                      • نجمة الجدي
                        مدير متابعة وتنشيط
                        • 25-09-2008
                        • 5278

                        #26
                        رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                        الفصل الرابع والعشرون ****
                        قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                        Comment

                        • نجمة الجدي
                          مدير متابعة وتنشيط
                          • 25-09-2008
                          • 5278

                          #27
                          رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                          الفصل الخامس والعشرون ****
                          قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                          Comment

                          • نجمة الجدي
                            مدير متابعة وتنشيط
                            • 25-09-2008
                            • 5278

                            #28
                            رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز

                            الجزء الرابع

                            من 1981 إلى اليوم



                            الفصل السادس والعشرون

                            موت رئيس الإكوادور

                            لم يكنْ تركُ مين بالأمر السهل. فلم يقبلْ بول بْرِدي أن يُصدِّقَني. غمزني وقال، “كذبة نيسان.”

                            أكّدتُ له أنني كنت جادّاً. وإذ تذكّرْتُ نصيحةَ بولا أنّ عليّ ألا افعل شيئاً يستعدي أحداً أو يُثيرُ الشكّ بأني قد أُفشي اسرارَ عملي كقاتل اقتصادي، أكدتُ له أنني أقدِّرُ كلَّ ما فعلتْه شركةُ مين لي، ولكنني أريدُ أنْ آخذ سبيلي. كنتُ دائماً أودُّ أنْ أكتبَ عن الناس الذين عرّفتني بهم مين حول العالم، ولكنْ لا شيءَ في السياسة. وقلتُ إنني أودُّ أنْ أعمل كاتبا مستقلا مع مجلة ناشُنَل جيوغرافِك ومجلاتٍ أخرى، وأنْ أُواصل الترحال. كذلك أعلنتُ ولائي لشركة مين وأقسمتُ أنني سأتغنى بمديحها في كل مناسبة. أخيرا وافق بول.

                            بعد ذلك، أراد كلُّ واحدٍ أنْ يُقنعني بألا أستقيل. ذُكِّرتُ كثيرا بالخير الذي جنيتُه، بل اتُّهِمْتُ بالجنون. علمتُ أنه ما من أحدٍ كان يتقبّلُ حقيقةَ أنِّي أُغادر بمحض إرادتي، ولو جزئيا على الأقل، لأن ذلك يُجبرهم على النظر إلى أنفسهم. فلو لم أكنْ أترك لمسٍّ أصابني، فقد يكون عليهم أن ينظروا في سلامة عقولهم حين يبقَوْن. كان أسهلَ عليهم أن يرَوْني فاقدا عقلي.

                            أزعجتني بشكلٍ خاصّ ردةُ فعل موظفي مكتبي. ففي أعينهم أنني كنتُ أتخلّى عنهم، وما من وريثٍ ظاهر ليحلَّ محلي. بيد أني كنتُ حسمتُ قراري. فبعد كلِّ تلك السنينَ من التذبذبِ، أصبحتُ مصمما على نصر نظيف.

                            لسوء الحظ، لم يكن الأمر كذلك. صحيحٌ أنه لم يعدْ لديّ عمل، ولكنْ، لأنني لم أكنْ شريكا مُخوَّلا تماماً، فإن قيمة أسهمي لم تكنْ كافية للتقاعد. فلو بقيتُ في شركة مين بضع سنين أخرى، فقد أصبحُ المليونيرَ ذا الأربعين عاما الذي حلمتُ به ذات يوم. بيد أني، في الخامسة والثلاثين من عمري، كان أمامي طريقٌ طويلٌ لتحقيق ذلك الهدف. بلى، كان باردا مخيفا شهرُ من نيسانَ ذاك في بوسطن.

                            ذات يوم بعد ذلك، هاتفني بول بْرِدي ورجاني أنْ آتيه في مكتبه. قال لي، “إن أحدَ عملائنا يُهدِّدُ بتركنا. فقد استخدمونا لأنهم كانوا يُريدونك أنتَ أنْ تُمثِّلَهم في إعطاء شهادة الخبرة.”

                            فكّرتُ بها مليّاً. وفي الوقت الذي كنتُ أجلس فيه أمام بول في مكتبه، أخذتُ قراري. حددتُ السعرَ الذي أطلبه – أتعاباً تبلغ ثلاثة أضعاف ما كان عليه راتبي لدى مين. ولدهشتي، وافق عليها، وهو ما جعلني أبدأ سيرة عمل جديدة.

                            أصبحتُ في السنوات التالية أعملُ كشاهد خبرة عالي الأجر – بصورة رئيسية لدى الشركات الكهربائية الأمريكية التي تسعى إلى موافقة لجان المنافع الكهربائية العامة على إنشاء محطات كهربائية جديدة. وكانت إحدى عميلاتي شركةُ الخدمة العامة في نيوهَامْبْشَيَر. كانت مُهمّتي أن أُبرِّر، تحت القَسَم، الجدوى الاقتصادية لمحطة سيبرُك للطاقة النووية المثيرة جداً للجدل.

                            بالرغم من أنني لم أعدْ على علاقةٍ بأمريكا الجنوبية، فقد بقيتُ متابعاً للأحداث هناك. وإذ توافر لي وقتٌ طويلٌ بين مواعيد ظهوري على منصات الشهادة، بقيتُ على اتصال ببولا وجددتُ صداقاتي من أيامَ فرقة السلام في الإكوادور – وهو بلدٌ قفز فجأةً إلى المسرح الرئيسي في عالم سياسات النفط الدولية.

                            كان جيم رُلْدُس ماضياً قُدُما في السبيل الذي اختطّه. وإذ أخذ وعود حملته الانتخابية على محمل الجد، أخذ يشنُّ هجوماً واسعا على شركات النفط. وكان يرى بوضوح ما لم يكن يراه الكثيرون غيره على جانبي قناة بنما، أو كانوا يتجاهلونه. كان يُدرك التياراتِ التحتيةَ التي تُهدد بتحويل العالم إلى إمبراطورية عالمية وبالحطِّ من مواطني بلده إلى دور تافهٍ على شفا العبودية. وحين كنتُ أقرأ مقالاتِ الجرائد عنه، كنتُ أُعجبُ ليس بالتزامه حسب، بل بقدرته أيضاً على إدراك القضايا الأعمق، وهي التي تشير إلى حقيقة أننا ندخل عصراً جديداً من سياسات العالم.

                            في تشرين الثاني 1980، خسر كارتر انتخابات الرئاسة الأمريكية لرونَلد ريغَن. وقد كانت العواملُ الرئيسيةُ وراء ذلك معاهدةَ قناة بنما التي تفاوَضَ فيها مع توريجُس، والوضعَ في إيران، خاصةً الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية، والمحاولة الفاشلة في إنقاذهم. بيد أن شيئاً أكثر مكراً كان يحدث. فقد ذهبَ رئيسٌ كان هدفُه الأعظمُ سلامَ العالم وكان مُكرِّساً نفسه لتخفيف اعتماد الولايات المتحدة على النفط، ليحلَّ محِلّه رجلٌ مؤمنٌ بأنّ مكانَ الولايات المتحدة الصحيحَ هو قمةُ هرم العالم محمياً بالعضلات العسكرية، وأن السيطرة على حقول النفط أينما وُجدتْ إنما هو جزء من “بيان المصير”. ذهبَ رئيسٌ كان قد ركّب على سطح البيت الأبيض ألواحاً شمسيةً، ليحلَّ محِلّه واحدٌ ما إن احتل المكتبَ البيضاوي حتى أزالها.

                            لعلّ كارتر كان سياسياً غير فعّال، لكنه يحمل رؤية لأمريكا متوافقةً مع ما حدده إعلانُ الاستقلال. وبالنظر إلى الخلف، يبدو الآن ذا تفكير عفا عليه الدهرُ، ملتزماً بالمُثُل التي شكّلتْ هذه الأمةَ واجتذبت الكثيرين من أجدادنا إلى شواطئها. وحين نُقارن بينه وبين سلفه وخلفه المباشرين، نجده شاذاً عنهم. لقد كانت نظرتُه إلى العالم غير متوافقة مع القتلة الاقتصاديين.

                            أما ريغَن، فمن المؤكد أنه كان بانياً للإمبراطورية العالمية وخادما لسلطة الشركات. وفي أيام الانتخابات، وجدتُ مناسباً له أنْ يكون ممثلا من هوليوُد، رجلا يتبع أوامر سادته الذين يعرفون مقاصدهم. هذا هو طابعه. إنه يخدم أولئك القوم الذين يتنقلون من مناصب المديرين العامين في الشركات، إلى مجالس إدارات البنوك، فإلى المناصب الحكومية العليا. إنه يخدم الرجال الذين يبدون كأنهم يخدمونه، لكنهم هم حقيقة من يُسيِّرون شؤون الحكومة – من هؤلاء نائبُ الرئيس جورج بوش [الأب]، ووزير الخارجية جورج شُلْتْز، ووزير الدفاع كاسبر واينبيرغر، ورِتشَرد تشيني، ورِتشَرد هِلْمز، وروبرت مكنَمارا. إنه يدافعُ عما يريده هؤلاء الرجال: سيطرة أمريكا على العالم وعلى موارده، وطاعة العالم لأوامرها، وفرض جيشها القوانينَ التي تضعُها، ونظاماً تجاريا ومصرفيا دولياً يدعم أمريكا رئيسة عليا للإمبراطورية العالمية.

                            وإذ كنتُ أنظر إلى المستقبل، بدا لي أننا نلجُ حقبةً ستكون جيدة للقتلة الاقتصاديين. لقد كان انعطافَ مصيرٍ آخرَ أنني اخترتُ تلك اللحظة من التاريخ للخروج. وكلما تفكّرتُ بها، كلما شعرتُ بالارتياح. كنتُ أعلمُ أن توقيتي صحيح.

                            أما ما يعني ذلك في المدى البعيد، فلستُ منجّماً في الغيب. لكنني أعلم من التاريخ أنّ الإمبراطورياتِ لا تخلد، وأن عقارب الساعة تتحرك في الاتجاهين. ومن منظوري أرى أن رجالا مثل رُلْدُس يحملون الأمل. كنتُ متأكدا من أن رئيس الإكوادور الجديد مدركٌ للكثير من المكر الكامن في الوضع الجاري. كنتُ أعلمُ أنه مُعجبٌ بتوريجُس ومُقدِّرٌ لكارتر موقفَه الشجاع من قضية قناة بنما. وكنتُ أشعرُ شعوراً أكيداً أنَّ رُلْدُس لن يتردد، وليس لي إلا أنْ آمل في أنّ ثباته سوف يضيء شمعةً لقادة الدول الأخرى، الذين كانوا في حاجةٍ إلى وحيٍ باستطاعته هو وتوريجُس أن يقدماه.

                            في وقتٍ مبكر من عام 1981، عرضتْ إدارةُ رُلْدُس رسميا قانون الهايدروكربون الجديد على البرلمان الإكوادوري، وهو قانونٌ إنْ تم تطبيقه، فمن شأنه أنْ يُصلح علاقة البلاد بشركات النفط. وقد اعتُبر، بمقاييس كثيرة، ثوريا، بل متطرفا. ومن المؤكد أنه كان يهدف إلى تغيير الطريقة التي تدار بها الأعمال. أما تأثيره، فسوف يمتد بعيداً خارج حدود الإكوادور, إلى الكثرة من دول أمريكا اللاتينية وجميع أرجاء العالم.[i]

                            ردّتْ شركاتُ النفط بما كان متوقعا منها – تحلَّلتْ من كل الموانع. أخذ العاملون في العلاقات العامة لديها يعملون على تسويد صفحة جيم رُلْدُس، وهرول جماعة الضغط فيها إلى كويتو وواشنطن، يحملون حقائب مليئة بالتهديدات والرشاوى. لقد أرادوا تصوير أول رئيس إكوادوريٍّ منتخبٍ ديمقراطيا في العصر الحديث على أنه كاسترو آخر. لكنّ رُلْدُس لم يكن ليُذعن للتخويف. رد بشجب المؤامرة بين النفط والسياسة – والدين. وبالرغم من أنه لم يُقدِّم إثباتا ملموساً، فقد اتهم معهدَ اللغاتِ الصيفيَّ بالتواطؤ مع شركات النفط، وفي خطوة جريئة جدا، أمر هذا المعهد بمغادرة البلاد.[ii]

                            بعد أسابيع فقط من إرسال رزمته التشريعية إلى البرلمان، وبعد يومين من طرد المبشرين التابعين لمعهد اللغات الصيفي، حذّر رُلْدُس جميع المصالح الأجنبية، ومنها شركاتُ النفط، بأنها ما لم تُطبقْ خططا لمساعدة الشعب الإكوادوري، فسوف تُجبَرُ على مغادرة البلاد. وقد ألقى خطابا مٌهما في ملعب أتاهُوَالبا الأولمبي في كويتو، ومن ثَمّ توجّه إلى قريةٍ صغيرةٍ في جنوب الإكوادور.

                            هناك مات باحتراق طائرته وتحطُّمِها في 24 أيار 1981.[iii]

                            صُدم العالم، وعمّ الغضبُ أمريكا اللاتينية، وانفجرت الجرائد في أنحاء نصف الكرة معلنة، “الاغتيال الذي دبّرته وكالة الاستخبار المركزية!” وبالإضافة إلى حقيقة كره واشنطن وشركات النفط له، ظهرت أحداثٌ تدعم هذه المزاعم، وكبرت مثلُ هذه الشكوك حين عُرفتْ حقائق إضافية. لم يثبتْ شيء أبدا، لكن شهود عيانٍ زعموا أنّ رُلْدُس، وكان حُذِّر مسبقا بوجود محاولة لاغتياله، كان قد اتخذ احتياطات، بما فيها السفر بطائرتين. وفي اللحظة الأخيرة، كما قيل، أقنعه أحد ضباط أمنه بركوب الطائرة الشَّرَك.

                            بالرغم من ردة فعل العالم، فإن الأخبار كادت لا تُذكر في صحافة الولايات المتحدة.

                            تولى رئاسة الإكوادور أوزفَلدو هُرتادو. وتحت إدارته، استمرَّ معهدُ اللغاتِ الصيفيُّ يعمل في الإكوادور، ومُنح أعضاؤه تأشيرات خاصة. وبحلول نهاية السنة، كان قد ابتدأ برنامجاً طموحاً لزيادة الحفريات النفطية التي تقوم بها تكسَكو والشركاتُ الأجنبية الأخرى في خليج غْواياكِل وحوض الأمازون.[iv]

                            في تأبينه رُلْدُس، وصفه عمر توريجُس بـ”الأخ”. واعترف هو الآخرُ بكوابيسَ تأتيه حول اغتياله؛ فقد رأى في المنام نفسَه يسقط من السماء في كرة نار ضخمة. وكانت نبوءته صحيحة.
                            قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

                            Comment

                            Working...
                            X
                            😀
                            🥰
                            🤢
                            😎
                            😡
                            👍
                            👎