إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

اضاءات من دعوات المرسلين للأمام احمد الحسن اليماني ع ج3 ق 2

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • almawood24
    يماني
    • 04-01-2010
    • 2174

    اضاءات من دعوات المرسلين للأمام احمد الحسن اليماني ع ج3 ق 2

    إصدارات أنصار الإمام المهدي / العدد (54)



    إضاءات
    من دعوات المرسلين


    الجزء الثالث - القسم الثاني


    السيد أحمد الحسن


    طبعة منقحة




    الطبعة الثالثة
    1431هـ - 2010 م









    لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن 
    يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
    أنصار الإمام المهدي (ع) اتباع الإمام احمد الحسن اليماني (ع) - انصار الامام المهدي (ع)



































    إضاءات من مسيرة يوسف 


    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين.
    إضاءة السجن لماذا ؟!
    ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾( ).
    يوسف  الآن محاصر من أعداء الله، فإما الفاحشة وإما السجن، وهم الذين حددوا هذين الطريقين، ويوسف لم يخرج عن هذين الخيارين، ولكنه اختار ما يضره دنيوياً ومادياً، وهو السجن، دون ما يضره أخروياً وروحياً، وهو الفاحشة، خيار طبيعي، ولا أحد يتوقع سواه من وصي يعقوب  النبي الرسول يوسف .
    قال أمير المؤمنين علي : (... ولي بيوسف  أسوة، إذ قال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، فإن قلتم إنّ يوسف دعا ربّه وسأله السجن بسخط ربّه فقد كفرتم، وإن قلتم إنّه أراد بذلك لئلّا يسخط ربّه عليه فاختار السجن، فالوصيّ أعذر...) ( ).
    ولكن السؤال: هل عند الله نجاة يوسف من كيدهن محصورة بالسجن، أم أنه توجد سبل متعددة لنجاته من كيدهن، دون أن يقع عليه أذى السجن ؟!
    أعتقد أن جواب هذا السؤال بسيطاً على من يعتقد أن السماوات والأرض لو كانتا على عبدٍ رتقاً واتقى الله لجعل له الله منهما مخرجاً.
    ولو كان يوسف غفل عن هذه الحقيقة ﴿...... وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾( )، ولم يلتفت أن عند الله سبيلاً آخر، بل أكثر من سبيل غير السجن لنجاته من كيدهن.
    عن أبي الحسن الرضا ، قال: (قال السجان ليوسف: إني لأحبك، فقال يوسف: ما أصابني بلاء إلا من الحب إن كانت عمتي أحبتني فسرقتني، وإن كان أبي أحبني فحسدوني إخوتي، وإن كانت امرأة العزيز أحبتني فحبستني، قال: وشكا يوسف في السجن إلى الله فقال: يا رب بماذا استحققت السجن، فأوحى الله إليه أنت اخترته حين قلت ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، هلا قلت العافية أحب إلي مما يدعونني إليه) ( ).
    أوَ ليس الله بقادر على أن يُذكِّر يوسف  بهذه الحقيقة، ويجعله يدعو بهذا الدعاء: (العافية أحب إلي مما يدعونني إليه)، بدل أن يقول: ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾.
    وهل يعتقد أحد أن يوسف لم يكن يعرف هذه الحقيقة، وهو الذي وكل أمره من قبل عندما كان في الجب إلى إله إبراهيم، ولم يختر هو الخروج أو البقاء.
    عن أبي عبد الله ، قال: (لما طرح إخوة يوسف يوسف في الجب دخل عليه جبرئيل وهو في الجب، فقال: يا غلام من طرحك في هذا الجب، فقال له يوسف: إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ولذلك في الجب طرحوني، قال: فتحب أن تخرج منها، فقال له يوسف: ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، قال: فإن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك: قل اللهم إني أسألك بأن فإن لك الحمد كله لا إله إلا أنت الحنان المنان بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صل على محمد وآل محمد واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب، فدعا ربه فجعل الله له من الجب فرجاً ومن كيد المرأة مخرجاً وأعطاه ملك مصر من حيث لم يحتسب) ( ).
    فلماذا غفل الآن عن أن يقول: (ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب) ؟
    وهل يعتقد أحد أن يوسف  لا يستحق أن يذكره الله، أو أنه  ليس أهلاً لذلك، أم هل يعتقد أحد أن في ساحته سبحانه وتعالى بخلاً عن أن يتفضل بتذكير وتعليم يوسف نبيه الكريم أن يدعو بهذا لينجو من المكر والسجن معاً، ألم يرسل سبحانه وتعالى جبرائيل  ليُذكِّر يوسف ويعلمه الدعاء لينجو من الجب.
    لماذا الآن الله سبحانه وتعالى الكريم الرؤوف الرحيم يترك يوسف  في حيرته، ولا يُذكِّره ولا يُعلِّمه دعاءً ينجو به من المكر والسجن معاً ؟! لماذا الآن يوسف لا يجد أمام عينيه سبيلاً لنجاته من المكر إلا السجن ولا يجد إلا هذا الدعاء: ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ ؟!!
    إن هذا السؤال وغيره من الأسئلة في مسيرة يوسف  يجيبه تعالى في آية عظيمة من آيات سورة يوسف، فيبين فيها تعالى أن كل سكنة وحركة وغفلة وذكرى وعلم وجهل هي ضرورية في مسيرة تمكين وتعليم يوسف ، يقول تعالى في هذه الآية: أنا أمسك بمعصم يوسف  وأقوده إلى التمكين والعلم والمعرفة ﴿كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾( ).
    إذن، فمن هذه الآية ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ نعرف أن دخول يوسف  السجن واقع ضمن حكمة إلهية، وأكيد أنه يصبّ في تمكين يوسف وتعليمه، بل وأدائه لرسالته الإلهية.
    أما تعلق السجن بتمكين يوسف وتعليمه، فقد تبين فيما مضى من الإضاءات، وأما تعلق دخول يوسف إلى السجن بأدائه لرسالته فهو ما أريد بيانه، ويتلخص في أمور منها:
    1- إنَّ يوسف  إن كان قد صدع برسالته من الله خارج السجن ولم يتحصل إيمان أي شخص به، فلابد من إيجاد محيط آخر لتبليغ الرسالة.
    2- يوسف  خارج السجن عبد مملوك، ولا شك أن حال العبد المملوك في داخل السجن أكثر حرية منه وهو في خارج السجن وتحت سلطة مولاه، فإنّ قيد العبودية أعظم من قيود السجن. فالسجن وفرَّ ليوسف وقتاً أكثر وجواً أكثر حرية ليصدع بدعوة التوحيد.
    3- في السجن الكل سواسية العبد المملوك والحر فلا أحد ينظر إلى يوسف على أنه عبد مملوك ولا يستحق السماع منه.
    4- تقبُّل الإنسان للدين والدعوة لطاعة الله سبحانه وهو في ضيق يكون أكبر بكثير منه مما لو كان في يسر وراحة، ولذا نجده تعالى يقول: ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾( ). ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾( )، أي يرجعون إلى الحق والى الله سبحانه، ولا شك أن السجن ضيق وعسر وشدة بالنسبة لأي إنسان، ولذا نجد أن دعوة يوسف إلى التوحيد ورسالته من الله سبحانه شقت طريقها إلى قلوب من كانوا في السجن، فتعاطف معه كثير منهم وآمن به السجين الذي نجا كما تقدم في الإضاءات، فلو لم يكن من دخول يوسف السجن إلا إيمان هذا السجين لكفى.
    5- دعوة يوسف إلى التوحيد شاملة لمن خارج السجن ومن في السجن، ولم يكن هناك طريق لإيصال دعوته  إلى داخل السجن وبالصورة الصحيحة إلا دخول يوسف بنفسه إلى داخل السجن.
    وأخيراً أقول: إن دعوة يوسف إلى التوحيد لم تجد لها موضعاً في المجتمع الذي كان فيه وهو خارج السجن، ولكنها شقت طريقها إلى قلوب الناس لما دخل يوسف  السجن، وبدأت الدعوة إلى التوحيد من السجن بداية حقيقية، ولها من يؤمن بها وينتصر لها، وهذا السجين الذي آمن انتصر لدعوة يوسف الإلهية لمَّا وجد الفرصة الملائمة من خلال رؤيا الملك، وهذا المؤمن عرض نفسه للخطر بحساب أهل المادة وهو يخالف ملأ الملك في رأيهم حيث ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ﴾( )، ثم يذكر يوسف في محضر الملك وملئه ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾( ).
    وأخيراً ذهب إلى السجن وخاطب يوسف  المتهم والذي سجنه عزيز مصر وبمحضر السجانين بهذا الخطاب ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾( )، ليس فقط يعلمون تأويل الرؤيا، بل يعلمون أيضاً بصدقك ورسالتك من الله، ويعلمون بالظلم الذي وقع عليك، لقد اضطر الإيمان هذا السجين إلى ذكر يوسف  رغم الخطر المحتمل.
    والنتيجة، فإن السجن كان المكان والظرف الذي شقت منه دعوة يوسف إلى التوحيد طريقها إلى قلوب كثير من الناس في مصر، ليؤمنوا بها ويوحدوا الله، بل وآمن بها بعض من كانوا في قصر الملك، واستمر الإيمان بالتوحيد الذي صدع به يوسف  في مصر، بل وفي قصر ملك مصر حتى زمن رسالة موسى ، وهذا مؤمن آل فرعون في زمن موسى  يذكر يوسف  كرسول من الله يؤمن به وبرسالته:
    ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾( ).




    إضـــــــاءة
    ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾( ).
    ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾( ).
    الآيات التي رافقت يوسف  بإذن الله لم تكن عصا تتحول أفعى، ولم تكن يداً تشع نوراً ولم تكن بحراً ينشق، بل كانت قميصاً أظهر حق يوسف  وكانت توفيقاً وتسديداً إلهياً لمسيرة يوسف ، فمن هم وكم هم الذين يرون أن القميص الذي تمزق بل تمزقه بالذات كان آية ؟ وأين هم الذين يرون توفيق وتسديد الله ليوسف  ليعرفوا انه مرسل من الله سبحانه ؟ تلك الآيات رافقت يوسف ورآها أولئك الذين رافقوا مسيرة يوسف ، ولكنهم لم يروها كآيات، وكان أن قرروا ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.
    عن أبي جعفر  في قوله: ﴿ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾، (فالآيات شهادة الصبي والقميص المخرق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب فلما عصاها فلم تزل ملحة بزوجها حتى حبسه، ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ﴾( )، يقول: عبدان للملك احدهما خباز والآخر صاحب الشراب والذي كذب ولم ير المنام هو الخباز) ( ).
    لم تكن هذه الآيات هي كل ما رافق دعوة ومسيرة يوسف ، بل ما جاء به كل الأنبياء المرسلين كدليل على الدعوة الإلهية التي كلفوا بها، جاء به يوسف ، فهو  لم يكن شاذاً عن المرسلين وعن طريقهم الواحد للدلالة على رسالاتهم، ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ﴾( ) طريقهم المبين ( الوصية أو النص، العلم والحكمة، راية البيعة لله أو الملك لله أو حاكمية الله)، هذه الآيات الثلاث البينة جاء بها يوسف  ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
    وقبل أن نعرف كيف ومتى وأين جاء بها يوسف ، نحتاج إلى معرفة ما تمثله هذه الأمور الثلاثة في خط الدعوة الإلهية عموماً.
    قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾( ).
    دعوة الحق لا يمكن أن تكون وحدها، دون وجود دعوات باطلة تعارضها، فمنذ اليوم الأول الذي كان فيه نبياً يوصي لمن بعده بأمر الله سبحانه، وجدنا مدعياً مبطلاً يعارض دعوة الحق، فآدم  أول أنبياء الله مبعثاً يوصي لهابيل ، ويقوم قابيل بمعارضة دعوة الحق، وادعاء حق الخلافة، وحتى القربان الذي كان الفيصل في تحديد وصي آدم ، لم يقبل به قابيل كآية دالة على هابيل وصي آدم، وأقدم قابيل على تهديد هابيل الوصي، ثم قتله دون تردد أو خوف من الله سبحانه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾( ).
    وهذا حصل مع يوسف  لما حسده إخوته.
    بل وجرى مع كل الأوصياء ، فكما أن الله سبحانه وتعالى يصطفي رسله، كذا فإن إبليس (لعنه الله) يختار من جنده من يعارض دعوة الحق.
    فالله سبحانه وتعالى يختار هابيل ، وإبليس (لعنه الله) يختار قابيل ليعارض داعي الله، والله يختار محمداً ، وإبليس يختار مسيلمة وسجاح والأسود وغيرهم ليعارضوا داعي الحق محمداً .
    وهنا أوجه السؤال: هل يُعْذَر من ترك اتباع محمد بحجة وجود أكثر من دعوة في الساحة، وأنه لا يستطيع تمييز المحق من المبطل؟!!!
    والحق، إنه لا يعذر ويكون مصيره إلى جهنم تماماً كأولئك الذين اتبعوا من ادعوا النبوة أو الرسالة كذباً وزوراً.
    ثم هل ان الله سبحانه وتعالى وضع قانوناً يعرف به داعي الحق في كل زمان وهو حجة الله على عباده وخليفة الله في أرضه وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، والإيمان به والتسليم له هو الإيمان بالله والتسليم لله والكفر به والالتواء عليه، هو الكفر بالله والالتواء على الله.
    أم أن الله ترك الحبل على الغارب (حاشاه سبحانه وتعالى) وهو الحكيم المطلق وقدر كل شيء فأحسن تقديره، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾( )، وهو﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾( ).
    فالنتيجة، أنّ مقتضى الحكمة الإلهية هو وضع قانون لمعرفة خليفة الله في أرضه في كل زمان، ولابد أن يكون هذا القانون وضع منذ اليوم الأول الذي جعل فيه الله سبحانه خليفة له في أرضه، فلا يمكن أن يكون هذا القانون طارئاً في إحدى رسالات السماء المتأخرة عن اليوم الأول، لوجود مكلفين منذ اليوم الأول، ولا أقل أن القدر المتيقن للجميع هو وجود إبليس كمكلف منذ اليوم الأول، والمكلف يحتاج هذا القانون لمعرفة صاحب الحق الإلهي، وإلا فإنه سيعتذر عن اتباع صاحب الحق الإلهي بأنه لم يكن يستطيع التمييز، ولا يوجد لديه قانون إلهي لمعرفة هذا الخليفة المنصب من قبل الله سبحانه وتعالى.
    والقدر المتيقن للجميع حول تاريخ اليوم الأول الذي جعل فيه الله خليفة له في أرضه هو:
    1. إن الله نص على آدم وانه خليفته في أرضه بمحضر الملائكة  وإبليس.
    2. بعد أن خلق الله آدم  علَّمه الأسماء كلها.
    3. ثم أمر الله من كان يعبده في ذلك الوقت الملائكة وإبليس بالسجود لآدم.
    قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾( )، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( )، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾( )، ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾( ).
    هذه الأمور الثلاثة هي قانون الله سبحانه وتعالى لمعرفة الحجة على الناس وخليفة الله في أرضه وهذه الأمور الثلاثة قانون سَنَّه الله سبحانه وتعالى لمعرفة خليفته منذ اليوم الأول، وستمضي هذه السنة الإلهية إلى انقضاء الدنيا وقيام الساعة.
    ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾( ).
    ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾( ).
    كما أنه وببساطة: أي إنسان يملك مصنعاً أو مزرعة أو سفينة أو أي شيء فيه عمال يعملون له فيه، لابد أن يُعيِّن لهم شخصاً منهم يرأسهم، ولابد أن ينص عليه بالاسم وإلا ستعمّ الفوضى، كما لابد أن يكون أعلمهم وأفضلهم، ولابد أن يأمرهم بطاعته ليحقق ما يرجو، وإلا فإن قَصَّر هذا الإنسان في أيٍ من هذه الأمور الثلاثة فسيجانب الحكمة إلى السفه، فكيف يُجِّوز الناس على الله ترك أيٍ من هذه الأمور الثلاثة وهو الحكيم المطلق ؟!!
    وإذا تعرضنا إلى هذا القانون الإلهي بشيء من التفصيل نجد أن النص الإلهي على آدم  تحول إلى الوصية لعلة وجود الخليفة السابق، فهو ينص على من بعده بأمر الله سبحانه وتعالى، وهذا من ضمن واجبه كخليفة لله في أرضه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾( ).
    أما تعليم الله سبحانه لآدم الأسماء فالمراد منه معرفته بحقيقة الأسماء الإلهية، وتحليه بها وتجليها فيه، ليكون خليفة الله في أرضه. وهو  أنبأ الملائكة بأسمائهم أي عرَّفهم بحقيقة الأسماء الإلهية التي خُلقوا منها، فالله سبحانه عرَّف آدم كل الأسماء الإلهية وبحسب مقامه ، أما الملائكة فلم يكن كل منهم يعرف إلا الاسم أو الأسماء التي خُلق منها، وبهذا ثبتت حجية آدم  عليهم بالعلم والحكمة.
    والأمر الثالث في هذا القانون الإلهي هو أمر الله سبحانه وتعالى للملائكة وإبليس بالسجود لآدم، وهذا الأمر هو بمثابة ممارسة عملية للخليفة ليقوم بدوره كمستخلف، وممارسة عملية لعمال الله سبحانه (الملائكة) ليقوموا بدورهم كعمال ومتعلمين عند هذا الخليفة (آدم ).
    وهذا الأمر ثبّت أن حاكمية الله وملك الله في أرضه يتحقق من خلال طاعة خليفة الله في أرضه.
    وهكذا فإن جميع المرسلين ومنهم محمد كانوا يحملون هذه الراية: (البيعة لله، أو حاكمية الله، أو الملك لله)، ويواجهون الذين يقرون حاكمية الناس ولا يقبلون بحاكمية الله وملكه سبحانه وتعالى. وهم دائماً متهمون بسبب هذه المطالبة وهذه المواجهة، فعيسى  قيل عنه إنه جاء ليطلب ملك بني إسرائيل ليس إلا، وقيل عن محمد : (لا جنة ولا نار ولكنه الملك) أي أنّ محمداً جاء ليطلب الملك له ولأهل بيته، وقيل عن علي  إنه حريص على الملك.
    والحقيقة، أنه من تابع أحوال عيسى أو محمد أو علي  يجد أنهم معرضون عن الدنيا وزخرفها وما فيها من مال أو جاه، لكن هذا هو أمر الله لهم بأن يطالبوا بملكه سبحانه وتعالى، ثم هم يعلمون أن الناس لن يسلموهم الملك بل سيتعرضون لهم بالسخرية والاستهزاء والهتك ومحاولة القتل أو السجن، فهذا شبيه عيسى  يلبسونه تاجاً من الشوك وهم يسخرون منه قبل صلبه، وعلي  يُكسَر باب داره ويُكسَر ضلع زوجته الزهراء ويُجر من داره والسيوف مشرعة بوجهه، وموسى بن جعفر  الذي حدد فدكاً بأنها الملك وخلافة الله في أرضه يسجن حتى الموت، ومع هذا فانّ كثيراً من الجهلة جعلوا ما تشابه عليهم من مطالبة صاحب الحق بملك الله سبحانه وتعالى عاذراً لسقطتهم، وهم يصرخون بوجه صاحب الحق الإلهي إنه جاء ليطلب الملك ليس إلا، والحق إنه لو كان خليفة الله في أرضه طالباً للدنيا أو الملك لما طالب به أصلاً وهو يعلم أن هذه المطالبة ستكون حتماً سبباً لانتهاك حرمته والاستهزاء والتعريض به على أنه طالب دنيا.
    ثم لسلك طريقاً آخر يعرفه كل الناس ولكنهم يتغافلون، وهو طريق كل أولئك الذين وصلوا إلى الملك الدنيوي بالخداع والتزوير أو القتل والترويع، فعلي  يطالب بالملك ويقول أنا وصي محمد وأنا خليفة الله في أرضه، وفي المقابل ذاك الذي وصل إلى الملك الدنيوي أبو بكر بن أبي قحافة يقول: أقيلوني فلست بخيركم.
    فهل أن علياً طالب دنيا أو أن ابن أبي قحافة زاهد بالملك الدنيوي وهو الذي أنكر حق الوصي  وتنكر لوصية رسول الله لأجل الملك الدنيوي ؟! ما لكم كيف تحكمون؟!.
    والوصية بالخصوص جاء بها كل الأوصياء وأكدوا عليها، بل وفي أصعب الظروف نجد الحسين  في كربلاء يقول لهم ابحثوا في الأرض لا تجدون من هو أقرب إلى محمد مني (أنا سبط محمد الوحيد على هذه الأرض)، هنا أكد  على الوصية والنص الإلهي ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( )، فالذين يفهمون هذه الآية يعرفون أن الحسين  أراد أن الوصاية محصورة به  لأنه الوحيد من هذه الذرية المستخلفة.
    والآن، نعود إلى يوسف لنجد:
    1- الوصـية:
    في قول يعقوب  ليوسف : ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾( ).
    فيعقوب يبين أن يوسف  وصيه وأنه امتداد لدعوة إبراهيم  وبكل وضوح.
    وفي قول يوسف : ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾( )، فيوسف  يؤكد انتسابه إلى الأنبياء وأنه الخط الطبيعي لاستمرار دعوتهم .
    2- العلـم:
    في قوله: ﴿قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾( ).
    وفي قوله: ﴿... تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾( ).
    وفي قوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾( ).
    3- البيعـة لله:
    في قوله ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾( ).

















    إضــــاءة
    بعد أن عرفنا وجود قانون إلهي لمعرفة خليفة الله في أرضه، وهو مذكور في القرآن الكريم، بل وجاء به كل الأنبياء والمرسلين ، ويوسف  أيضاً جاء به، نحتاج أن ننتفع ونعمل بهذا القانون الإلهي في زمن الظهور المقدس (زمن يوسف آل محمد )؛ لأن من لا يعمل بهذا القانون يكون من أتباع إبليس (لعنه الله) كما تبين.
    وأنت تجد حتى في الإنجيل أن عيسى  يؤكد على أن الأنبياء السابقين من بني إسرائيل قد ذكروه وبشروا به وأوصوا به، وكذا جاء بالعلم والحكمة، وأيضاً رفع راية البيعة لله وطالب بملك الله وحاكميته. ومحمد أيضاً أكد هذا الأمر وبيَّن أن الأنبياء السابقين ذكروه وبشروا به وأوصوا به، وأنه مذكور في التوراة والإنجيل، وجاء ليُعلِّم الكتاب والحكمة، ورفع راية البيعة لله، وطالب بملك الله وحاكميته سبحانه وتعالى في أرضه.
    وكذا آل محمد ، وتوجد أكثر من رواية عنهم أكدوا بها هذا القانون الإلهي، لكي لا يضل شيعتهم( ). ولكن للأسف مَنْ يدَّعون أنهم شيعتهم اختاروا في آخر الزمان الكفر بروايتهم والإعراض عنها وعن القرآن الكريم، واتباع العلماء غير العاملين، فأضلوهم وخلطوا عليهم الحق بالباطل، فلم يعد عندهم قانون لمعرفة الحجة من الله وخليفة الله، مع أن هذا القانون الإلهي لمعرفة الحجة من الله وخليفة الله والوصي الذي يمتحن به الناس موجود في القرآن الكريم، وقد بينته بوضوح لعل من يدعون أنهم شيعة آل محمد، وعامة أصحاب الأديان الإلهية، يلتفتون إلى هذا القانون فينقذون أنفسهم من النار.
    إذن، فصاحب الحق الإلهي الوصي المعزي( ) لأنبياء الله ورسله، الذي يأتي في آخر الزمان إذا جاء بهذه الأمور الثلاثة، وهي:
    الوصية: أي أن الماضين أوصوا به ونصوا عليه بالاسم والصفة والمسكن، كما كانت الوصية بالرسول محمد من الأنبياء الماضين باسمه، وبصفته أنه راكب الجمل، وبمسكنه فاران أي مكة وما حولها (عرفات)، والروايات الدالة على الوصي في آخر الزمان باسمه وصفته ومسكنه كثيرة.
    وجاء أيضاً بالعلم والحكمة كما جاء رسول الله محمد بالعلم والحكمة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾( )، وهذا الرسول هو محمد بن عبد الله المرسل في الأوليين من هذه الأمة.
    ثم يقول تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾( )، وهذا الرسول في الآخرين هو المهدي الأول من ولد الإمام المهدي ، ومرسله هو الإمام المهدي ، وأيضاً يعلمهم الكتاب والحكمة مما جاء به رسول الله محمد ، وكان اسمه في السماء أحمد، والمهدي الأول اسمه في الأرض أحمد وفي السماء محمد، فهو صورة لرسول الله محمد ويبعث كما بُعث محمد ، ويعاني كما عانى محمد ، فلابد من وجود قريش وحلفائها وأم القرى والهجرة والمدينة وكل ما رافق دعوة رسول الله محمد ، فقط المصاديق والوجوه تتبدل إنما هي وهم كتلك وأولئك.
    أما الأمر الثالث: وهو المطالبة بحاكمية الله والملك الإلهي، فلابد أن يتحقق في الواقع المعاش بشكل يتوضح فيه صاحب الحق الإلهي وحكمته وعلمه ومعرفته بعاقبة الأمور. والحمد لله تم هذا بفضل الله سبحانه وتعالى، فكل أولئك العلماء غير العاملين دعوا إلى حاكمية الناس والانتخابات وشورى وسقيفة آخر الزمان إلا الوصي بفضل من الله عليه لم يرضَ إلا حاكمية الله وملك الله سبحانه، ولم يحد عن الطريق الذي بيَّنه محمد وآل محمد ، أما العلماء غير العاملين فقد خرجوا وحادوا عن جادة الصواب، وتبيَّن بفضل خطة إلهية محكمة أن رافع راية رسول الله محمد (البيعة لله) هو فقط الوصي.
    أما مَنْ سواه فهم قد رفعوا راية الانتخابات وحاكمية الناس وهي بيعة في أعناقهم للطاغوت وبملئ إرادتهم، بل وهم قد دعوا الناس لها، وانخدع الناس بسبب جهلهم بالعقيدة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى، مع ان أهل البيت قد بيَّنوا هذا الأمر بكل وضوح وجلاء، ودم الحسين في كربلاء خير شاهد على ذلك، وإن كانت فاطمة الزهراء لما نحى القوم الوصي علي  خاطبتهم قائلة: (أما لعمر إلهك لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً وزعافاً ممقراً، هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن أنفسكم أنفساً، واطمأنوا للفتنة جأشاً وابشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً وزرعكم حصيداً. فيا حسرتي لكم وأنى بكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) ( ).
    فهم اليوم علموا بأنفسكم غُبَّ ما سَنّوا، واحتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً.
    فهل هذا الحال الذي أنتم فيه عذاب من الله سبحانه أم لا ؟!!!
    في قرارة أنفسكم تقرون أنه عذاب من الله، ولكن تخافون أن تقروا بألسنتكم لئّلا يقال لكم: فهذا أحمد الحسن مرسل من الإمام المهدي  وهذه رسالة إلهية، والله يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾( ).
    أما المعجزة المادية فهي لا يمكن أن تكون وحدها طريقاً لإيمان الناس، بل الله لا يرضى بهكذا إيمان مادي محض، ولو كان يَقبل لقَبل إيمان فرعون بعد أن رأى معجزة مادية قاهرة لا تؤول، وهي انشقاق البحر، ورأى كل شق كالطود العظيم، ولمسه بيده فقال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾( ).
    ولكن الله لا يرضى هذا الإيمان: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾( ).
    وقد ترك الله بدن فرعون آية للناس ليتفكروا: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾( )، ولكن قليل من انتفعوا بهذه الآية و ﴿كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾.
    كما أن المعجزة لا يمكن أن تكون لكل من يطلبها، و إلا لآمن الناس جميعاً إيماناً قهرياً اجبروا عليه بما يرون من قدرة قاهرة لا طاقة لهم على مواجهتها، ولن يكون هذا إلا استسلاماً للأمر الواقع وليس إسلاماً وتسليماً للغيب، والله سبحانه هو الغيب، ولعل من تدبر في معجزات الأنبياء يجدها جميعاً جاءت مشابهة لما انتشر في زمانهم، فموسى يأتي بالعصا التي تصبح أفعى في زمن فيه عشرات يلقون عصيهم فإذا هي أفعى كما يخيل للناس، وكذا عيسى جاء ليشفي المرضى في زمن انتشر فيه الطب، ومحمد يأتي بالقرآن لقوم اشتهروا بالكلام والشعر، فالأمر وما فيه أنها جاءت كذلك للَّبس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾( ).
    وما هذا اللبس والمشابهة إلا لتكون هناك مساحة لتأول المتأولين الذين لا يؤمنون بالغيب، ولتبقى مساحة للإيمان بالغيب، و إلا فالإيمان المادي المحض ليس إيماناً، ولا إسلاماً، ولا يقبله الله قال تعالى: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾( ).
    فالإيمان الكامل هو الإيمان بالغيب مائة بالمائة، وهو إيمان الأنبياء والأوصياء، وكلما كان الإيمان مشوباً بآية أو إشارة أو كرامة أو معجزة مادية، كان أدنى وأقل، حتى إذا كانت المعجزة قاهرة وتامة ولا يمكن تأويلها، عندها لا يقبل الإيمان والإسلام، كما لم يقبل إيمان وإسلام فرعون، لأن هكذا إيمان هو إيمان مادي مائة بالمائة.
    والله وصف المؤمنين بأنهم:
    ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾( ).
    ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾( ).
    ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾( ).
    ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾( ).
    ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾( ).
    ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾( ).
    ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾( ).
    والحمد لله ربِّ العالمين.

    إضـــاءة
    ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾( ).
    في هذه الآية اتهم يوسف أخوته بالسرقة وعلى رؤوس الأشهاد ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾، ويمكن القول إنه أراد أنهم سرقوه هو من أبيه، إلا أنه يجب الالتفات إلى أنهم أخذوا يوسف من أبيه بإذنه ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾( )، فإنه وإن كان يوسف أراد بتآمر أخوته لإبعاده عن أبيه بأنه سرقة، ولكنه أراد مع هذا سرقة أعظم وأخطر من هذه.
    ثم إن يوسف  حدد المسروق ﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾( )، فالمسروق إذن محدد (صواع الملك)، والمتهم: (إخوة يوسف )، والسؤال هنا: كيف يتهم يوسف  إخوته بسرقة صواع الملك، وهو يعلم أنهم لم يسرقوه، بل هو من وضعه في رحل أخيه بنيامين ؟ ويوسف لا يقف عند هذا الحد، بل يؤكد بأنه هو من يتكفل أمر اتهامهم بالسرقة ﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾، ثم يدافع إخوة يوسف عن أنفسهم أنهم لم يأتوا أرض مصر للسرقة، ولم يكونوا سارقين فيما مضى أو معروفين بهذا الخُلق السيء ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾( ).
    ويعود يوسف  إلى التعريض بهم ويتهمهم هذه المرة بالكذب، فإن لم تكونوا جئتم هذه المرة للسرقة، فأنتم فيما مضى (كنتم سارقين)، فماذا أراد يوسف  بـ (صواع الملك لا السقاية) !؟ ومن هو الملك صاحب الصواع ؟
    الحقيقة أنّ يوسف  لم يتهمهم، بل هو متيقن أنهم سارقون، وبالتحديد كما قال هو : صواع الملك، بل وكما بيَّن في قوله: ﴿كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾( ) رداً على قولهم: ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾( )، والآن نعود إلى ما تقدم من مسيرة يوسف  لنعرف ماذا أراد يوسف  بالصواع، ومن هو الملك صاحب الصواع، وكيف أن يوسف هو المخوَّل بالصواع والكيل به للناس دون غيره ﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾، أو لو كان السؤال هكذا: ماذا سرق إخوة يوسف  فيما مضى من مسيرته ؟
    ربما لا يصعب الآن معرفة أن الصواع هو الولاية، أو قل خلافة الله في أرضه التي هي مقام أو منصب يوسف  كونه وصي يعقوب ، فقد سرقوا مقام يوسف  ومنعوه أن يكيل للناس الهداية إلى الحق ومعرفة الحقيقة، أما صاحب الكيل الذي استخلف يوسف  فهو الله سبحانه (الملك).
    إذن، فاتهام يوسف  لإخوته كان في مكانه، فهم سارقون وبالتحديد صواع الملك سبحانه وتعالى، وبالتحديد من يوسف  المستخلف عليه.
    وكلام الأنبياء والملائكة وهم ينظرون إلى ملكوت السماوات فهم يريدون بكلامهم ما في ملكوت السماوات، فكلامهم عن الحقائق وما هو معتبر عند الله سبحانه وتعالى، فالناس ينظرون إلى الدنيا والأنبياء ينظرون إلى الآخرة، لأنها محط نظر الله، فكلامهم في هذه الدنيا في كثير من الأحيان يريدون به الآخرة وما يتعلق بها، لأنها محط نظر الله (وإن الله لم ينظر إلى عالم الأجسام منذ خلقه) ( ).
    وإذا انتقلنا إلى حادثة أخرى ربما تتوضح الصورة أكثر في مسيرة يوسف .
    قال تعالى في قص حادثة امتحان داود : ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾( ).
    وهنا يجب الالتفات إلى أن التسوّر أي عبور الجدار لا يصح على من يقف في المحراب، لأنه ليس سوراً بل داخل بيت العبادة.
    ثم إنّ مكان داود  كان عليه حراسة شديدة، فلا يمكن اجتيازها؛ لأنه من ضمن الحرس ملائكة الله. ولذا فداود  فزع منهم وهم طمئنوه ﴿قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾( ). وكون المحراب (مكان الصلاة) هو مكان ظهور الخصمين، يدل على أنهما أتيا من جهة الله سبحانه وتعالى، أي من الغيب فهما ملكان وليسا إنسانين. فتسورهما من الآخرة إلى الدنيا من جهة العبادة (المحراب).
    فالسؤال: كيف يدَّعي ملك أنه يملك نعاجاً، ومال الملائكة ومال النعاج ؟ ولماذا اختصما وما هي خصومتهما ؟
    إذن، القضية ليست قضية نعاج، كما يتوهم من يسمع قصة الملكين مع داود ، فالملائكة معصومون ولا يمكن أن يكون كلامهم فيه كذب، كما أنهم من عالم الملكوت فلا يمكن أن يكونوا رعاة أغنام ويختصمون في نعجة.
    والحقيقة، أن الملكين جاءا لامتحان داود ، كما أمرهم الله سبحانه وتعالى وأحدهما خُلِق من تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله سبحانه وتعالى، (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) ( )، فالملائكة خُلقوا من أسماء الله، كما قدمت فيما مضى من المتشابهات( )، وكل اسم جناح ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾( )، والثاني خُلق من اسم واحد من أسماء الله غير التسعة والتسعين، وتحت كل من هذين الملكين ملائكة، فهما قادة لملائكة دونهم، فصاحب التسعة والتسعين اسماً يقود تسعة وتسعين نوعاً من الملائكة، لأنه يعرف أسماءهم، ولا أقصد بالاسم هنا اللفظ أو المعنى، بل حقيقة الاسم الممكنة للمخلوق. وهذا الملك طلب من الملك الآخر أن يعلمه ويعرفه حقيقة اسم الملك الذي يقوده هو، وهذا يستلزم معرفة اسم الله الذي خلق منه الملك، وبما انه - أي الملك صاحب التسعة والتسعين اسماً - لم يكن مخلوقاً من هذا الاسم، فهو غير قادر على معرفته، لأن فطرته لم يودع فيها هذا الاسم. إذن، فهو غير قادر على قيادة الملك الذي يقوده الملك الثاني والذي خُلق من اسم يجهله الملك الأول.
    وقد طلب الملك الأول من الملك الثاني تعريفه الاسم بأمر الله ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾( ).
    وعبّر الملك عن الملائكة التسعة والتسعين وعن الملك الذي يقوده بالنعاج؛ لأن الأغنام هي أكثر الحيوانات المرعية سلاسة في القيادة وطاعة لراعيها وقائدها، كما أن الملائكة سلسو القيادة ولا يعصون قائدهم، وهذا هو أسلوب إيصال العلم من الملكوت إلى هذا العالم الجسماني، وهو عملية التمثل بما هو موجود في هذا العالم، ليسهل فهم المعلومة والخبر الملكوتي، كما هو حال الرؤيا التي يريها الملائكة لإنسان، فهم يستخدمون هذه الأمور النعاج للتعبير عن الرعية والأتباع، والشمس والقمر للتعبير عن الهادي، والشاي للتعبير عن الهم، وهكذا يستخدمون رموزاً من هذا العالم الجسماني لبيان المعاني، فالنعاج ترمز إلى ملائكة يقودهم هذان الملكان.
    هذا بالنسبة لكلام الأنبياء والملائكة، أما القرآن فهو كلام الله سبحانه وتعالى والله ليس كمثله شيء، فكلامه سبحانه ليس ككلام البشر ولا تجري عليه قواعد كلام البشر، بل كلامه سبحانه ليس كمثله كلام كما أنه ليس كمثله شيء.


















    إضــــاءة
    ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ﴾( ).
    لماذا استعاذ يوسف بالله أن يأوي إليه أحدهم ؟ وما هو متاع يوسف ؟
    ولو كان يوسف استعاذ بالله أن يأخذ إلا من كان عنده السقاية (الكيل)، فإنه أكد اتهام بنيامين بأنه سارق بهذا الكلام، مع أن بنيامين لم يكن سارقاً.
    فالحق، أن متاع يوسف  شيء آخر غير السقاية والكيل، بل هو الولاية لولي الله والاعتراف بحاكمية الله والسجود لخليفته في أرضه.
    ولم يكن موجوداً إلا في قلب بنيامين؛ لأنه لم يكن معهم أصلاً، ولم يشترك في جريمة اغتصاب مقام يوسف ، فهو يقر لأخيه يوسف  بأنه خليفة الله في أرضه. إذن، فمتاع يوسف موجود في قلب بنيامين؛ لأن متاع يوسف  هو الدين والإيمان الحقيقي.
    وكذلك المهدي القائم  يقول: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، ومتاع المهدي القرآن، فهو ينتقي أصحابه وأنصاره ممن حملوا القرآن في قلوبهم، فلأنهم حملوا متاع المهدي ولم يرضوا أن يكونوا شركاء في جريمة إقصاء القرآن وصاحبه المهدي، استحقوا أن يكونوا أصحاب وأنصار المهدي، ولم ولن يكون حملهم هذا هيناً أو خفيفاً في مجتمع جاهلي، أجمع علماؤه غير العاملين وجُهاله على طرد أو قتل أو إلقاء يوسف آل محمد المهدي  في الجب.
    قال أمير المؤمنين علي  في وصف حالهم هذا: (.... نبذَ الكتابَ حملتُهُ، وتناساهُ حفظتُهُ، فالكتابُ يومئذٍ وأهلُهُ طريدان منفيان وصاحبان مصطحبان في طريقٍ واحد لا يؤيهما مأوىً!! فالكتابُ وأهلُهُ في ذلك الزمانِ في الناسِ وليسا فيهم ومعهم، لأن الضلالَة لا توافقُ الهدى، وان اجتمعا، فاجتمعَ القومُ على الفرقة وافترقوا عن الجماعة كأنهم أئمةُ الكتابِ وليس الكتابُ إمامَهم! فلم يبق عندهم منه إلا اسمُهُ، ولا يعرفون آلا خطَهُ وزبرَهُ!! ومن قبلُ ما مثلوا بالصالحين كلَ مثله وسموا صدقَهم على اللهِ فرية وجعلوا في الحسنةِ عقوبةَ السيئة) ( ).
    ويبقى أن نعرف من هذه الآية: ﴿إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَه …﴾ أن سجود إخوة يوسف لم يكن إلا رجوعاً إلى الحق والاعتراف بحاكمية الله، وكون يوسف  وصي يعقوب وخليفة الله في أرضه، أما سجود يعقوب فكان لتعليمهم وتعريفهم وتأكيد مقام يوسف ، فكان يعقوب في سجوده ليوسف  معلماً لإخوة يوسف .
    فيوسف آوى أليه أخاه بنيامين وقربه منه، لأن متاع يوسف في قلب بنيامين، والآن أخوة يوسف  حملوا متاع يوسف في قلوبهم وسجدوا مع الساجدين، وفشل إبليس (لعنه الله) في الاستمرار بغوايتهم.
    فالنتيجة، أن يوسف آواهم إليه؛ لأن متاعه أصبح الآن عندهم وفي قلوبهم بعد أن اعترفوا بحق يوسف وبخطيئتهم ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾( )، فهم الآن يعترفون أن الله اصطفى يوسف  وصياً ليعقوب ، بل ويقسمون على أن يوسف  هو صاحب الحق الإلهي ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾.
    وهذا حصل مع رسول الله محمد ، بل وسيحصل مع المهدي ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾( ).
    قال علي  لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله وكان سبق له هجاء في رسول الله وإياه عارض حسان بقوله: ألا أبلغ أبا سفيان الخ .. قال :
    (ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له: ما قال إخوة يوسف ليوسف ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ﴾ فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله : ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
    ثم قال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أبياتاً منه في الاعتذار من رسول لله منها:
    هداني هاد غير نفسي ودلـني على الله من طردته كـل مطرد
    أصد وأنأى جاهلاً عن محمـد وأدعى وإن لم أنتسب من محمد) ( ).
    وعن المفضل بن محمد، قال: (سألت أبا عبد الله  عن قول الله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾( )، فقال : هذه نزلت فينا خاصة إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام بإمامته كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا﴾) ( ).








    إضاءة من علم يعقوب
    يعقوب  أو إسرائيل  نبي مرسل ويعلمه الله ما يشاء من علم الغيب، والآن إخوة يوسف  يريدون أخذ بنيامين أخي يوسف  معهم إلى مصر، فإذا بيعقوب  يقول: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾( ).
    فيعقوب كأنه يعلم أن بنيامين إذا ذهب مع إخوته لا يعود معهم، بل ما يؤكد علمه بذلك استثنائه لحالة عجزهم عن إعادة بنيامين معهم ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾، بل إن يعقوب  لما عاد إخوة يوسف  من غير بنيامين وهم يؤكدون على براءتهم ﴿يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾( ).
    بل ويوجد من يشهد ببراءتهم ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾( )، نجده  يقول: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾( )، فيعقوب يؤكد اتهامهم، مع أنهم يؤكدون براءتهم ويوجد شهود على براءتهم في قصة بنيامين.
    فماذا أراد يعقوب  بقوله: ﴿سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً﴾؟!!
    الحقيقة، إن يعقوب  أراد الأمر الأول أمر يوسف ، وكأنه يريد أن يقول هذا الحدث الجديد وهو فقد بنيامين متعلق بفقد يوسف  والذي كان وصفه بنفس الوصف ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾( )، سولت لكم أنفسكم الأمارة والذئب المستعر في أنفسكم ذلك الأمر القديم أمر يوسف ، وأمر بنيامين متعلق بأمر يوسف ، ولذا نجده يكمل قوله : ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾( ).
    ثم ها هو بعد فقده لبنيامين لا نجده يتأوه على بنيامين، بل على يوسف  ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾( )، ليؤكد أن أمر بنيامين متعلق بيوسف .
    إذن، يعقوب كان يعلم بحال يوسف  وحال بنيامين معه، ويعلم بالأذى الذي تعرض له يوسف  وكونه  وحيداً في مصر حمل كلمة الله ودين الله سبحانه، بل لو قرأت هذه الآيات بتمعن لوجدت يعقوب  مطلعاً ويعلم الكثير من حال يوسف  وبنيامين  ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾( )، فمع أن المفقود هذه المرة بنيامين، تجد يعقوب  يقول: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾( )، ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾، وفي النهاية يأمرهم بالبحث عن يوسف  ﴿اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾، وكأن فقد بنيامين فتح باباً ليعود يوسف  إلى يعقوب، وكأن يعقوب يعلم هذا، بل هو على يقين ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾( ).


    إضـــاءة
    ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾( ).
    لقد علم يعقوب  من الله أن بنيامين سيُفقد كما فُقد يوسف ، ولذا أخذ عليهم عهداً أن يعيدوا بنيامين واستثنى ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُم﴾( ) وكان يعلم أنه سيحاط بهم، بل وفي هذه الآية: ﴿لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ أراد تفرقتهم لعل بنيامين ينجو ويعود إليه؛ لأنه يُعرف بإخوته وهم عدد يلفت الأنظار.
    ومع هذا، فإن يعقوب يعلم أنه لن ينفعهم بهذا كثيراً؛ لأن مشيئة الله كائنة، ولم يكن تعليم يعقوب لأبنائه ﴿إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾، ولكن ماذا ينفع حذر يعقوب أمام تقدير وقضاء الله سبحانه وتعالى ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾( ).
    ويعقوب  يعلم هذا أيضاً ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْء﴾، ولكن أراد أن لا يهمل العمل بالممكن للحفاظ على بنيامين، والنتيجة فإن مشيئة الله هي الكائنة ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
    وبعد هذا كله فإنّ يعقوب ذا علم ومعرفة من الله سبحانه وتعالى، وقد عمل على قدر علمه ومعرفته ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾( ).
    ولكن فوق يعقوب ذي العلم يوسف  العليم، فكانت النتيجة أنه (آوى إليه أخاه)، ولم ينفع تدبير يعقوب  ليعود إليه بنيامين ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾( ).




















    إضاءة
    دعوة يوسف  في مصر لماذا ؟!
    إجابة هذا السؤال تفتح الباب لمعرفة الحكمة من اختيار مكان بعث الأنبياء والمرسلين وأيضاً لمعرفة الحكمة من نقل يوسف  من حضن أبيه إلى أرض مصر، وأيضاً لمعرفة المهمة الأولى التي تكفلها الأنبياء والمرسلون ، فالإجابة على هذا السؤال حجر مبارك يصيب ثلاثة عصافير وربما أكثر لا كما يقول المثل عصفوران بحجر.
    ويبدأ الجواب من العودة إلى أول خليفة لله في أرضه وهو آدم ، وهذا أجمع عليه أصحاب الديانات الإلهية، وفي القرآن: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾( ).
    هذه الخلافة التي رفضها إبليس (لعنه الله) وتابعه على هذا الرفض أكثر بني آدم ﴿إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾( )، وتشكلت على طول الخط جهتان، جهة الحق يمثلها خليفة الله في أرضه ومن تبعه، وجهة الباطل ويمثلها المنكرون لخليفة الله في أرضه، وهم الحكام والعلماء غير العاملين ومن تبعهم.
    وبما أنّ خليفة الله في أرضه آدم  ومن خلفه من الأوصياء من ذريته، ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( ) يمثلون الله في الأرض، فحكمهم حكم الله وأمرهم أمر الله ونهيهم نهي الله ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾( ).
    فقد تشكلت جبهة من جبهات الباطل تواجه الأوصياء في صميم دعوتهم وادعاءهم ، حيث ادعى هؤلاء الدجالون أنهم خلفاء الله في أرضه، وهم أصناف كثيرة منهم من ادعى النبوة الباطلة أو الإمامة الباطلة أو الملك الباطل، أي أنهم ادعوا أنهم من الله ويمثلون الله، بينما هم من الشيطان ويمثلون الشيطان، وخدعوا كثيراً من الناس، واتبعهم كثير من الناس، ولهذا جاء الأنبياء ليدافعوا عن الخط الإلهي الحقيقي ودعوة الله الحقيقية، وبينوا للناس حقهم، وان هؤلاء الدجالين مغتصبون لحقهم وتقمصوا مراتبهم .
    ولعل من أخطر هؤلاء المدعين هم الفراعنة في مصر؛ لأنهم ادعوا أنهم هم السلالة المباركة الطيبة من ذرية آدم ، وأن خلافة الله فيهم، بل هم ادعوا أنهم فوق مستوى البشر وأن لهم مرتبة من مراتب الألوهية على بقية بني آدم ، فيجب أن يطيعهم كل الناس طاعة عمياء دون تفكر أو تدبر في حالهم المخزي وسلوكهم المنحرف عن تعاليم الدين الإلهي.
    ولهذا كان لابد من مواجهة هذا التحريف والانحراف وفضح رموزه وبيان الحق وأهله، فكان يوسف  النبي المرسل هو المختار من الله سبحانه وتعالى لهذه المهمة الشاقة وذات الشوكة.
    ولهذا نُقل يوسف  إلى مصر ليواجه هؤلاء المدعين، ويبين الحق ويفضحهم ويمهد الطريق لقائم آل إبراهيم  موسى ، وقد نجح يوسف  نجاحاً عظيماً وكبيراً لا نجد نتائجه في عصر يوسف  وعند عامة الناس فقط، بل نجد نتائجه المباركة بعد مئات السنين في عصر موسى  وفي قصر فرعون بالذات.
    وهذا مؤمن آل فرعون في عصر موسى  وهذا خطابه: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾( ).
    إذن يوسف  نُقل إلى مصر ليحقق مهمة إلهية كبرى، فمكان بعثة يوسف  مصر التي كانت تمثل مركز دعوة الشيطان في ذلك الزمان، وعندما تُحارب العدو في عقر داره وتنتصر فهذا يدل على القوة والهيمنة التي تملكها، وهي قوة وهيمنة الله سبحانه وتعالى القادر على كل شيء، القادر أن يجعل يوسف  الصبي الصغير يهدم مملكة الشيطان ويسيطر عليها، ويهدي الكثير من أهلها إلى الحق.
    فهو في مصر يخاطب أهلها - الذين يتبعون الفرعون، ويعتبرونه خليفة الله في أرضه، بل ممثل اللاهوت في الأرض - بهذا الخطاب: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾( ).
    ومع أنّ الثابت والمعروف تاريخياً أن الفراعنة لعنهم الله كانوا يروجون للعالم الآخر ووجوده، ولكن في الحقيقة لم يكن ترويجهم عن إيمان ويقين بالآخرة، بل كانوا يروجون له على أنهم أسياده وملوكه وحكامه، ولن يكون نصيب فيه إلا لمن يتبعهم ويشايعهم، ولهذا يوسف  بيَّن هذه الحقيقة بكل وضوح، أنهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، وأنهم ﴿بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾، فهم يدَّعون الإيمان لينتفعوا به دنيوياً ويهيمنوا من خلال ادعائهم على الناس بالخداع والدجل.
    ثم إنّ يوسف  لا يكتفي بفضح المدعين والدجالين، بل يُبيّن أصحاب الحق لأهل مصر وأيضاً بكل وضوح ويسميهم بأسمائهم، بل ويُبيّن انتسابه لهم، مع أن المفروض أنه غير معروف النسب، بل صبي التقطه بعض السيارة. ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾( ).
    ويُبيّن يوسف  العقيدة الحقة، وأنها عقيدته وعقيدة آبائه الأنبياء  ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾.
    ويستمر في فضح الفراعنة وأن ربوبيتهم ربوبية باطلة لا تنبع من ربوبية الله سبحانه وتعالى، ولا علاقة لها بربوبية الله سبحانه وتعالى ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾( ).
    ثم يختم يوسف  دعوته إلى الحق ببيان أصل دعوة أهل الباطل وعدم ارتباطها بالله سبحانه وتعالى ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾( ).
    إذن، التفتوا .. هؤلاء الفراعنة (الدجالون والعلماء غير العاملين والحكام) دعوتهم ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان﴾؛ لأنها قوانين وأسماء وضعها الناس، وما يضعه الناس إن لم يكن من الله فهو من الشيطان وعبادة للشيطان ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾.
    وكما قال رسول الله محمد : (من استمع إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان) ( ).
    أما إن كنتم تطلبون الحق فهو في (الملك لله) وحاكمية الله ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾، هذا هو الدين الحق الذي يرضاه الله وإن جهله الناس ولم يرضوه ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾، هذا هو الحق بيَّنه يوسف  بخير بيان.
    والله بيَّن أن الملك له سبحانه وتعالى، وهو الذي يُعيِّن وينصب من يشاء، وليس للناس الاعتراض أو تنصيب من يشاؤون أو اغتصاب الملك:
    ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾( ).
    ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾( ).
    ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾( ).
    ثم هو سبحانه يسألهم سؤال مستنكر لعملهم في الاستحواذ على الملك وإقصاءهم لخلفاء الله في أرضه الأنبياء والأوصياء أو كما سماهم سبحانه (النَّاسَ)، ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً﴾( ).
    يا له من سؤال، ويا له من سائل، ويا له من خزي للمسؤولين، فبماذا سيجيبون ؟! هل سيقولون إن الملك لهم وليس لله، أم سيقولون إنهم شركاء لله في ملكه ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ ؟؟
    حقاً، إنه خزي وعار لمن نصبوا أنفسهم، ولمن نصبوا غيرهم (بالانتخابات والشورى)، لمن ادعوا بعملهم أن الملك لهم لا لله، ولمن ادعوا بعملهم أنهم شركاء لله في ملكه.
    فإن كانوا يريدون الخلاص من هذا الخزي أمام الله فليعترفوا أن الله يؤتي ملكه من يشاء، وقد شاء الله أن يكون ملكه في آل إبراهيم ، ثم آل محمد وهم من آل إبراهيم ، ثم في آل محمد بن الحسن المهدي  وهم من آل محمد وهم من آل إبراهيم .
    ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾( ).





    إضاءة من قميص يوسف
    كان في قميص يوسف :

    1. سبب نجاته؛ لأن فيه وجد إخوة يوسف  طريقة لمكرهم دون قتله ، ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾( ).
    2. الدليل على براءة يوسف  من تهمة الفاحشة.
    ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾( ).
    ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾( ).
    ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾( ).
    ﴿فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾( ).
    3. إنه آية عاد بها البصر ليعقوب، وما تلا هذا من انتقال بني إسرائيل إلى مصر لتمهيد الأرضية الملائمة لقائم آل إبراهيم موسى . ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾( ).
    4. وأخيراً فالقميص أصبح سبباً لإنصاف يعقوب  من تهكم بنيه، فكم ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾( )، و﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾( )، لكن ﴿لَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾( )، عندها ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾( ).
    كل هذا في قميص يوسف .
    فما سرّ هذا القميص حتى أصبح موضعاً لتجلي الفيض الإلهي وآيات الله سبحانه وتعالى؟
    الحق، إنه قميص لامس ذاك القلب النقي الطاهر الملائكي الملكوتي، قلب يوسف  الذي تلقى كلمات الله بالرؤيا الصادقة، وكان يوسف  صبياً صغيراً، وآمن هذا القلب الطاهر بكلمات الله ولم يكفرها.
    إنّ كرامة هذا القميص هي أنه لامس قلب يوسف ليس إلا، هذا هو سر القميص، ففي كل تلك الآيات كان هذا القميص شاهداً عدلاً يشهد بنقاء قلب يوسف وطهارته، هذا القميص تكلم ولكن بالأفعال لا بالأقوال، وما أحوج الناس ليتعلموا من قميص يوسف  الصدق والأمانة وقول الحق وإعطاء كل ذي حق حقه، ويتعلموا ترك الحسد والأنا والأخلاق الذميمة.
    والآن، لنضع قميص يوسف هذا الجماد في مقابل أناس التصقوا بيوسف  وعرفوا يوسف  كما التصق وعرف القميص يوسف ، ولنرى كم أن الناس كانوا ظالمين ليوسف ، وكم أن القميص كان منصفاً عادلاً مع يوسف ، وكم خذل الناس يوسف ، وكم أعان وأغاث القميص يوسف ، وكل مرة كان الناس والقميص يتبدلون، ولكن دائماً كان القميص ينصف ويعين يوسف ، وكان الناس يظلمون ويخذلون يوسف .
    لم يكن للقميص قصة كما كانت مع يوسف ، فجدير بنا أن نعرف ماذا أراد الله أن يخاطب الإنسان من خلال هذا القميص، ونتعلم من هذا الخطاب الإلهي الذي تجلى في قميص يوسف في كل مرة وكل موقف.
    ثم لماذا القميص بالذات، وليس لباساً آخر لامس جسد يوسف  ؟!
    الحقيقة، لأن القميص كان إشارة واضحة لقلب يوسف ، فكان الذي ينجي يوسف  هو نقاء قلبه وإخلاصه لله سبحانه وتعالى، فكان الله في قلب يوسف ، وكلم الناس بقميص يوسف . كان تعالى في كل تلك الآيات يقول أنا في قلب يوسف ، والقميص مسني كما مس يوسف . كان تعالى يقول من خلال قميص يوسف : (يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك) ( ).
    فإن وقعت في بئر عميق أنا أنجيك، وإن مكر بك أهل السوء والفحشاء فأنا ناصرك، وإن أردت إحياء الموتى وشفاء المرضى فأنا المشافي المحيي أعطي نفسي لمن يذكرني. فأنا في قلب من ذكرني يمسني قميصه كما يمس قلبه.
    وبعد سنين من قصة القميص المعجزة، قميص الآيات الإلهية، تأتي آية أخرى: يد موسى البيضاء للناظرين، وهي لا تخرج بيضاء إلا بعد أن تمس قلب موسى ، ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى﴾( ). وكأنها تُخرج ما في قلب موسى ، لينظر إليه الناس بياضاً ناصعاً وطهارة ونقاءً وعدلاً ونوراً يملأ الخافقين. وهي أيضاً تمس الذي في قلب موسى  الله سبحانه وتعالى، لتخبر عنه سبحانه وتعالى أنه هو الذي في قلب موسى، وهو الذي أرسل موسى .
    كما كان القميص من قبل يخبر الناس أن الله في قلب يوسف ، وأنه هو سبحانه وتعالى الذي أرسل يوسف  ونصبه خليفته في أرضه.
    هذا القميص الآية المعجزة، كم من آية من آيات الله هي كهذا القميص، يمر عليها الناس غافلين معرضين عنها، فلو كانوا يطلبون الحق لعرفوه ولتجلى لهم في الشجر والحجر وفي كل شيء يقع عليه بصرهم أو يطرق آذانهم، ولرأوا الحق في قميص يوسف ، ويد موسى  في ذلك الزمان وفي هذا الزمان، لكنهم معرضون عن الحق ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾( ).
    هذه إضاءة من قصة قميص يوسف، فليتدبرها الناس وليتعلموا من قميص يوسف ، وإن لم يقبلوا السماع من يوسف فليسمعوا من قميص يوسف  وقلب يوسف والذي في قلب يوسف ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾( ).
    إنها حسرة ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾( )، وإنه لأمر محزن أن ينصف ويعين يوسف  في ذلك الزمان وهذا الزمان كل شيء حتى القميص إلا الناس.
    وأخيراً أقول: إذا وصل الأمر إلى أن يتكلم الجماد (قميص يوسف)، ثم إنّ الناس لا يسمعون ولا يعون ولا يتدبرون آيات الله، بل هم معرضون مستهزؤون فإنّ الله ينذرهم بأسه الذي لا يُرد. بعد أن تكلم قميص يوسف في آخر قصة يوسف التي خُتمت بكلام القميص عندما رَد البصر ليعقوب، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾( )، فهل من عاقل ينجي نفسه من العذاب في الدنيا والآخرة، فيسمع ويرى - بعد أن كان أصماً وأعمى - آيات الله في كل شيء وهي تشير إلى الحق وإلى صاحب الحق.
    ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( ).






    إضاءة
    قصة يوسف عبرة في زمن الظهور المقدس
    سورة يوسف تفتتح بـ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾( ).
    وتختتم بـ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾( ).
    وبينت فيما مضى من الاضاءات أن قصة يوسف  مدارها الرؤيا، فيوسف النبي يرى رؤيا، والسجين يرى رؤيا، وفرعون يرى رؤيا، وكلها رؤى من الله بغض النظر أن من رآها نبي أو كافر، والله سبحانه وتعالى عبَّر عن هذه الرؤى التي قصها في سورة يوسف  - والتي كانت مدار قصة يوسف  وتمكينه من ملك مصر - بأنها ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾.
    والآن، لنبحث في آخر آية من سورة يوسف لنعرف ماذا أراد الله من هذه القصة وهذه الرؤى التي قصها على النبي محمد ، وبالتالي على من يؤمن بهذا النبي الكريم وما جاء به : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
    إذن، في هذه القصة منفعة، بل ومنفعة كبرى معتبرة، فالمفروض أن الإنسان يعتبر بغيره إذا وقع في حفرة فيجتنب طريقه وسلوكه لئّلا يقع في نفس الحفرة، هذا هو المفروض.
    أما الواقع فإن المعتبرين الذين تنفعهم قصة يوسف  هم ﴿أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، ولب الإنسان قلبه وباطنه، فأصحاب القلوب النيرة بنور الله، والطاهرة بقدس الله، هم المنتفعون من قص هذه الرؤى، وهذه المسيرة النبوية الكريمة.
    أما أصحاب البواطن السوداء المظلمة فهم ليسوا من أولي الألباب؛ لأن قلوبهم خاوية، فالظلمة عدم، ولا شيء في بواطنهم ليقال عنه لب.
    فالمفروض أن تكون قصة يوسف  عبرة لكل إنسان، ولكن الواقع أنها لن تكون عبرة إلا لمن يؤمنون بملكوت السماوات، وبالتالي يصدقون كلام الله الآتي في المستقبل، ولا يقولون عنه إنه من الشيطان.
    يصدقون كلام الله الذي سيأتي مع يوسف آل محمد ، الذي سيأتي في المستقبل بين يدي محمد : ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾.
    فليست قصة يوسف  ولا الرؤى التي رآها يوسف  والسجين وفرعون، حديثاً يفترى من الشيطان، بل هي من الله، فلتكن لكم بها عبرة ومنفعة لئّلا تعثروا وتقعوا في الحفرة عندما يأتي يوسف آل محمد ، فلم تكن هذه القصة التي سماها الله بأحسن القصص إلا ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، أي تصديق الذي سيأتي بين يدي محمد ، أي في المستقبل بعد محمد ، وهو يوسف آل محمد.
    ولم يكن في هذه الرؤى والقصة تفصيل بعض الأمور التي تخص يوسف آل محمد، بل إن فيها ﴿تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وبالتالي فإن هذه القصة ستكون ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ﴿ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، لا لمن سواهم في زمن ظهور يوسف آل محمد القائم المهدي ﴿هُدىً وَرَحْمَةً﴾.
    فهؤلاء سيرون بنور الله أن زليخا (امرأة العزيز) ( ) هي الدنيا والملك الدنيوي ستقبل على آل محمد وعلى يوسف آل محمد، ولكنه لا يرضاها إلا بالطريق والسبيل الذي يريده الله، وهو التنصيب الإلهي وحاكمية الله.
    وسيكون رفض يوسف آل محمد للزنا والطريق غير المشروع عند الله (حاكمية الناس) سبباً لعنائه في بادئ الأمر، كما كان رفض يوسف  للزنا سبباً لسجنه.
    قال أمير المؤمنين علي : (لتعطفن علينا الدنيا بعد شماسها عطف الظروس على ولدها، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾( )) ( ).
    وهكذا سيجد أولوا الألباب في قصة يوسف  تفصيل كل شيء عن يوسف آل محمد، وبهذا أترك ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ و﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أن يستضيئوا من قصة يوسف وما فيها بقراءتها وتدبرها، ومن الله التوفيق.
    ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾( ).

    إلهي إن عظيم ذنبي كف يدي عن انبساطها إليك، وكثرة ودوام تقصيري سوّدا وجهي عندك، فاغفر ذنبي وبيض وجهي فإنه لا سبيل لذلك إلا فضلك ومنك، وعطاؤك الابتداء، وأنت تعلم أني لا أريد بذلك إلا أن أكون أهلاً أن أقف بين يديك وأحـمدك وحدك لا شريك لك على كل نعمة أنعمت وتنعم بها عليَّ وعلى والديَّ وعلى كل أحد من خلقك.
    إلهي وعزتك وجلالك وعظمتك، لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة وكل طرفة عين سرمد الأبد بحمد الخلائق وشكرهم أجمعين، لكنت مقصراً في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمك عليَّ، ولو أني كربت معادن حديد الدنيا بأنيابي، وحرثت أرضها بأشفار عيني، وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات والأرضين دماً وصديداً، لكان ذلك قليلاً في كثير ما يجب من حقك عليَّ، ولو أنك إلهي عذبتني بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين، وعظمت للنار خلقي وجسمي، وملئت جهنم وأطباقها مني حتى لا يكون في النار معذب غيري، ولا يكون لجهنم حطب سواي، لكان ذلك بعدلك عليَّ قليلاً في كثير ما استوجبته من عقوبتك.
    إلهي فمع عظيم ما استحق من عقوبتك بعدلك، تفضلت عليَّ وجعلتني انطق بحمدك وأذكر أسماءك وأسماء سادتي من الأوصياء أنبياءك ورسلك الذين أتشرف أن أكون حفنة تراب تحت أقدامهم المباركة، إلهي فاغفر لي وأقل عثرتي واجعلهم يغفرون لي ويقيلون عثرتي.

    المذنب المقصر
    أحمد الحسن
    1427هـ.ق






































    والحمد لله رب العالمين
    من اقوال الامام احمد الحسن عليه السلام في خطبة الغدير
    ولهذا أقول أيها الأحبة المؤمنون والمؤمنات كلكم اليوم تملكون الفطرة والاستعداد لتكونوا مثل محمد (ص) وعلي (ص) وآل محمد (ص) فلا تضيعوا حظكم، واحذروا فكلكم تحملون النكتة السوداء التي يمكن أن ترديكم وتجعلكم أسوء من إبليس لعنه الله إمام المتكبرين على خلفاء الله في أرضه، أسأل الله أن يتفضل عليكم بخير الآخرة والدنيا.

Working...
X
😀
🥰
🤢
😎
😡
👍
👎